شمس لاهبة.. تفضح مع انبلاج الصباح، سريرة يوم خانق، وموسم الخريف قد أهل منذ شهر ونيف، ولا قطرة ماء تسح على الأرض المتغضنة الموات..
وحده العيد يسرق المدينة من قلقها اليومي المكتوم، إذ تستعر حمى الأثمان ويخف وزن القفات البئيسة، فتغرق قلوب الفقراء في هموم دامسة، تسحب إلى القعر، فرحاتهم الصغيرة.. العابرة..
يهل العيد في غلالته القشيبة، فتتعطر الأجواء بروائح اللحم والدجاج المحمر بالسمن البلدي والزعفران الحر، وتسري نسائم الصبيحة مضمخة بعطور البخور فتنتعش الأرواح البئيسة اليئوس، مفعمة بخدر مباهج العيد.. وتقف النساء مزهوات “بقفاطينهن”، خلف الأبواب المواربة، يقتنصن فرجات استثنائية، يؤثث فضاءها العيد العائد..
ويتراكض الصغار، كعناقيد عنب منفرطة الحبات، هنا وهناك، حيث باعة الحلويات، تتعثر خطواتهم المتحفزة، بجلابيب العيد الناصعة البياض والصفرة..
- “مبارك العيد، الله يدخلو عليك بالصحة والسلامة.. وأنت باش ما تمنيتي”.. تقول الجارات على العتبات، لبعضهن البعض..
وتتلاقى الخدود في سماحة وود، وتتفصد الجباه عرقا بفعل كؤوس الشاي الساخن، وصحون حلوى الفقاص، وغريبة، والكوك، والكعك، وأصناف الرغائف المقلي.. تتلمضها الأفواه في التذاذ ومتعة على نغمات الطرب الأندلسي..
” بشرى لنا آلـسعـد أقبل”..
- يا سعد الدور التي يرفل الصفاء في جنباتها، فتتشابك القلوب فيها قبل الخدود، لتئد المسافات، فتتعانق الأرواح، وتلتئم الجراح الغائرة، تزفر حنان، المحتنكة زجاج النافدة المستكين للواعج الذاكرة، تؤجج تذكاراتها الغافية..
ترى من تتربع في مكانك هذا الصباح أمي؟ وكنت في الأيام الخوالي، “لالة الغالية”، سيدة الأنس المبجلة.. تتوسطين باحة البيت المفروشة “بالزربية الرباطية “، صبيحة العيد، بعد فجر ضاج بصخب قدميك المتنقلتين بين فسحات المطبخ، لإعداد طبق “المحمصة” بالحليب، ووصفات الرغائف اللذيذة المشهية..
في أي قبر، أمي، تتوسدين خيبتك في رجل، كنت تقولين عنه أنه سيد الرجال!..
ذلك اليوم المشئوم يوم الغدر، كما سميته، صرخ في وجهك وأنت تعاتبينه على غيابه المستمر عن البيت.
ـ هل تريدين أن تزجي بي في صندوق، وتقفلي علي بالمفتاح.. أنا رجل.. أنا رجل.. وليكن في علمك حتى تريحيني من “أفعايل الكوميسارية”.. أني تزوجت، ومحمد عليه السلام!..
قال عنها باعتداد شرس أنها مثقفة، “وبالمانضا ديالها”!!، وليست بهيمة تأكل القوت وتنتظر الموت.. كأمي!..
أصاب أمي السعار وهو يتأبط مثقفته ذات يوم، وينزلها ضيفة علينا باسم “العواشر” وشهر الغفران!..
صرخنا معا.. أشبعنا لطما.. ركلا ورمى بنا في الشارع.. سقطت أمي على الإسفلت وارتطم رأسها بالطوار.. إنتفض جسدها للحظات ثم سكن فوق أديم من دم وتراب ومهانة.. إلى الأبد.
وركضت أنا..ركضت بما أملك من حرقة يتم مبكر.. ونمت لا أذكر أين، وفي الأيام التي ستتلو فجيعة موت أمي همت على وجهي في الطرقات خائفة من كل شبح آدمي.. تتعقبني رائحة الخديعة في وجه كل ذكر عابر، وتحفر الهوة السحيقة بيني وبينه.. حتى التقمتني سيارة الشرطة وأودعتني عالم صبايا مشعتات كئيبات، يسمونهن بالمشردات..
هكذا عبرت عربة الخيانة، شطآن طفولتي الآمنة، جنب الراحلة أمي، فأحالتها إلى بركة ألم آسنة..
ربتت يد على كتفها، وظلت حنان أسيرة حفرياتها في الزمن المغدور، رخاما لا يبين..
- إسمعي يا حنان، يجب أن تتحدي ظروفك، وتنسي ما فعله هذا الأب العاق..هكذا هم الرجال معدن غدر، أوفياء ماداموا فقراء فإذا فضل درهم واحد في مالهم فكروا في زوجة أخرى.. أنا أمقتهم، قالت المرأة المسترجلة، مبعوثة جمعية ” نساء بلا وصاية”، بحنق دفين.. سنجره أمام المحاكم ليعرف أن زمن حكرة النساء قد ولى..
تململت حنان في جلستها واختلست نظرة إلى محدثتها.. تشبه كثيرا زوجة أبيها.. وارتدت الذاكرة بحنان إلى يوم الغدر الأكبر.. المثقفة التي أحضرها أبوها كانت تنظر إلى تفاصيل طردها هي وأمها، وشبح ابتسامة نصر يعرش على شفتيها..
- لا أريد حقوقا، أريد عيدا يجمعني بأمي وأبي، في بيتنا.. أريد حبا فات أوانه.. صرخت حنان ملدوغة..
وانتفضت كالمذبوحة، وملامح اليتم والتشرد تطالعها في سحنات الصبايا المحتميات كل منهن بركنها، وقد استفاقت بداخلهن حكاية دحرجتهن إلى الهامش، فانحسرت أيديهن عن أطباق الحلوى التي حملتها معها الجمعية إليهن في مقر الأطفال المتخلى عنهم، وسادت القاعة حشرجات بكاء متقطع، تلبدت معه فرحة العيد الهشة، إذ أرخى الفقد على الوجوه ستارة من حزن عميق..