تقديم
يقصد بالتربية الأسرية عملية تنشئة الأفراد داخل الأسرة على قيم المجتمع الذي تنتمي إليه هذه الأسرة ، وفي المجتمع الإسلامي تقوم التربية الأسرية على أسس التربية الإسلامية التي تستمد من أصول الإسلام ومبادئه ونظرته للحياة والإنسان والاجتماع البشري وهي تربية متوازنة تراعي التناسب بين حقوق الجسم والعقل والروح ،وبين حقوق الله والفرد والمجتمع لكن هذه التربية اعتراها اليوم مجموعة من الاختلالات ومظاهر الغزو الفكري والتقصير فجاءت نتائجها ضعيفة، فكثرت الأمراض الاجتماعية والمفاسد الخلقية، ولم تخسر الأسرة أبناءها فقط وإنما المجتمع أيضا، فمن المسؤول عن هذه التربية الأسرية؟ هل هو الأب وحده أم هي الأم وحدها أم هما معا؟ أم هي مسؤولية المدرسة أم مسؤولية المجتمع والدولة أم هي مسؤولية الأبناء أنفسهم؟ أم هي مسؤولية كل هذه الأطراف؟
من المسؤول عن هذا التردي؟
إذا علمنا أن مظاهر الانحراف في التعلم والتخلق والتذوق لا ترجع إلى سبب واحد بل إلى مجموعة من الأسباب ، وقد تسهم فيها عدة جهات وأطراف ؛لذلك فإنه يمكن القول إن أزمة التربية الأسرية عند الأسرة المسلمة تتدخل فيها عدة عوامل تسهم كلها في إنتاج هذه الصورة القاتمة ، منها :
أولا- مسؤولية الوالدين :
وتتجلى في ضعف تدخل الوالدين في تربية الأبناء ومنحهم القدر اللازم من التوجيه والتنشئة الكافية على القيم والمبادئ الإسلامية في مختلف أبعادها العلمية والخلقية والفنية ، وفي أبعادها الفردية والاجتماعية،وفي ارتباطها بالبعد التعبدي لله تعالى في جميع مستوياتها؛ ولعل هذا الضعف تتحكم فيه عدة عوامل منها :
- جهل كثير من الوالدين بتعاليم الدين الإسلامي ومقوماته في التربية والتهذيب والتنشئة وذلك لشيوع الجهل والأمية وضعف المستوى التعليمي عامة والإسلامي خاصة.
- تداخل ما هو ديني مع ما هو اجتماعي : حيث يلتبس على كثير من الآباء والأمهات التمييز الدقيق بين التعاليم الدينية الإسلامية وبين العادات والتقاليد الاجتماعية مما يشوش على نقاء التصور الإسلامي في التربية .
- انشغال الوالدين بالعمل داخل البيت أو خارجه مما يحرم الأطفال من حقهم في الرعاية والتربية الكافية لغرس القيم وتعهدها حتى تؤتي ثمارها المرجوة .
- تشجيع بعض الوالدين أبناءهم على التخلق بأخلاق الأنانية والحرية الزائدة وحب القوة من غير ضوابط، والجشع والكذب والرياء والنفاق والسرقة …بعلة أن الحياة في المجتمع بمثابة الحياة في غابة مليئة بالحيوانات المفترسة مما يقتضي تسليح الأبناء بالضروري من أخلاق القوة والنفاق والتحايل المناسبة لذلك !
- تأثر بعض الوالدين بالأفكار الوافدة والقيم الدخيلة خاصة الفكر الغربي وقيمه الاجتماعية مما يقلل على أبناء هذه الشريحة من الأسر المسلمة حظوظ التخلق بالأخلاق الإسلامية والاستفادة من التنشئة عليها.
ثانيا – مسؤولية المدرسة :
وتظهر في تراجع المدرسة كمؤسسة تربوية وتعليمية عن دورها التربوي ، إذ لا يخفى على أحد أهمية المؤسسة التعليمية في غرس القيم في الناشئة وفي نقل ثقافة المجتمع إلى الأجيال اللاحقة نقلا طبيعيا ، وكل المجتمعات تراهن على النظام التعليمي وما يوازيه من مؤسسات تربوية في تثبيت قيمها والمحافظة عليها وفي تعزيز إحساس أبنائها بالانتماء لتراث المجتمع والاعتزاز بذلك الانتماء بل إن المجتمعات المتقدمة لتعتبر المدرسة والنظام التعليمي الحصن الحصين لحماية المجتمع من الأفكار الدخيلة والقيم الهجينة، لكن للأسف الشديد فإن منظومتنا التعليمية والتربوية قل ما تلتفت إلى هذه الأهداف والحقائق وتجدها أكثر إهمالا للقيم الإسلامية والحضارية للأمة وأكثر التفاتا للقيم الثقافية الأجنبية استيرادا وتوزيعا وإلزاما وتعزيزا بدعوى الانفتاح الحضاري والاستفادة من الآخر !! وليس من شأن هذا التوجه التغريبي والاغترابي للنظام التعليمي إلا أن ينشئ أجيالا بعيدة عن التخلق بالآداب الإسلامية ويخلق متاعب مضاعفة للأسر المسلمة التي ترغب في تربية أبنائها تربية إسلامية متوازنة. وتشهد المؤسسات التعليمية في المغرب وفي سائر البلدان العربية والإسلامية ترديا أخلاقيا أصبحت معه هذه المؤسسات -وبكل أسف- بؤرا مشهورة للدعارة والتحرش الجنسي والانحلال الخلقي والاتجار المنظم في أعراض الفتيات ومن جهة أخرى أصبحت المؤسسة التعليمية سوقا تجارية لابتزاز التلاميذ وأولياء الأمور في الساعات الإضافية والتخلي المطلق عن الواجب المهني؛ هذا إذا أضفنا إلى كون المدرسة قد تخلت عن واجبها التربوي لتقتصر فقط على الجانب التعليمي مع ما في هذا الجانب من قصور واضح ونقص متزايد في الشكل والمضمون وفي التخطيط والتنفيد.
وبناء على هذا أليست المؤسسة التعليمية والتربوية مسؤولة عن فساد التربية الأسرية؟ ثم ألا يتحمل القائمون عليها -بجميع مستوياتهم- قسطا كبيرا من المسؤوية في تعقيد مهمة التربية على الأسرة المسلمة؟
ثالثا- مسؤولية المجتمع المدني:
ويبرز ذلك في ضعف تأثير المجتمع المدني- مؤسسات و أحزابا ونقابات وجمعيات وهيئات …- في تخليق الحياة العامة بالأخلاق الإسلامية والقيم الاجتماعية ذات البعد الإسلامي والإنساني ؛ رغم ما يشهده المغرب وغيره من البلدان الإسلامية من صيحات متتالية لتعزيز مؤسسات المجتمع المدني وتفعيل أدوارها ووظائفها في تربية المواطنين وتعزيز ثقافات المجتمعات المحلية إلا أن النتائج كانت ضعيفة بل كانت أحيانا كثيرة عكس ذلك بسبب أن كثيرا من القائمين على هذه المؤسسات ذوو مذاهب أيديولوجية غربية علمانية وليبرالية أو ماركسية أو حداثية أو إباحية أو ذوو نوايا مادية ووصولية، ولا ينتظر من أصحاب هذه التوجهات أن يعززوا الثقافة الإسلامية ولا أن يغرسوا القيم الإسلامية والحضارية بل إن العكس هو الذي حصل مما أسهم في زيادة العبء على الأسر المسلمة لأن الطفل أو الشاب بمجرد أن يقع ضحية في يد هذه التوجهات حتى يصير عصيا عن الإصلاح فتضيع جهود كثير من الآباء بل إن هذا الشاب يتحول إلى سيف ضد والديه وضد ثقافته وضد قيم دينه .والذي زاد الأمر تعقيدا هو تبني كثير من الأنظمة الحاكمة في العالم العربي لهذه الإيديولوجيات أو التستر عليها أو تشجيعها مما أتاح لها الفرصة للانتشار أكثر والتغلغل ما أمكن في أكبر شريحة اجتماعية الأمر الذي كان له الأثر السلبي على كثير من الأسر في منهج التربية ومضمونه ذلك المنهج الذي يقوم على رفض كل ما هو ديني وكل ما يتعلق بالثوابت الأخلاقية والاجتماعية وعلى التمرد عليها بدعوى كونها محافظة ونظامية في حين أن الحياة تقتضي التغير والتجدد والثورة على كل التقاليد!!
رابعا- مسؤولية الإعلام :
إذ يلاحظ تخلي الإعلام عن رسالته التربوية وانقلابه إلى مؤسسة لإشاعة الفواحش والرذائل خصوصا مع ظهور العولمة الإعلامية عن طريق الشبكة الفضائية حيث لم تعد كثير من الدول والمجتمعات المحافظة والمتقدمة قادرة على التصدي للتأثيرات السلبية لهذه القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والتي تخصص كثير منها للترويج للثقافات الإباحية والقيم السافلة والمنحطة التي لا تقبلها العقول الصريحة ولا الفطر السليمة، بل الأدهى من ذلك أن الإعلام الرسمي في كثير من البلدان العربية والإسلامية قد حاد عن رسالته الوطنية والإسلامية وأصبح إعلاما فارغا من محتواه الإنساني ومشحونا بالبرامج المهدمة والمدمرة للأخلاق والقيم الروحية والفكرية والفنية الراقية ،وأصبح تأثيرها واسعا وكبيرا وضررها عميقا وخطيرا ،ولعل هذه الخطورة ترجع إلى كون وسائل الإعلام أصبحت تهجم على الفرد في كل مكان وزمان بل أصبحت الوسيط الضروري بينه وبين العالم الطبيعي والإنساني فلا يسمع إلا بها ولا يفكر إلا بها ولا يبصر إلا بها أو يتصرف إلا بها!! فهل يقدر هؤلاء الإعلاميون حجم المسؤولية الملقاة عليهم في توجيه الأمة إلى الخير والفضيلة أو إلى الشر والرذيلة؟! ألا يتقي الله هؤلاء في إفساد أبناء الأمة وتحريفهم عن قيمهم الإسلامية ومسخ هويتهم وسلخهم عنها؟! ألا يستحي هؤلاء من التلاعب بالعقول والاستهزاء بالقيم ومن مسخ الإنسان المسلم وتشويه معالمه؟!
التربية الأسرية مسؤولية الجميع على وجه العموم ومسؤولية الوالدين على وجه الخصوص :
انطلاقا مما سبق يتبين أن التربية الأسرية مسؤولية يتقاسمها جميع من ينتمي إلى المجتمع المسلم، وتتفاوت المسؤولية من طرف إلى آخر بقدر تفاوت درجة القرب والتأثير وحجم الأمانة التي يتحملها هذا الطرف أو ذاك لكن لا يخلو أحد من مسؤولية في ذلك ولو صغرت لقول رسول الله : >كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته؛ فكلم راع وكلكم مسئول عن رعيته<(رواه البخاري ومسلم) فلم يستثن رسول الله أحدا من المسلمين من تحمل مسؤولية ما استرعاه الله عليه من أمانات لعدم خلو ذمة أحد من مسؤولية إما على نفسه أو تجاه ربه أو تجاه الغير من أسرة أو جيران أو جماعة أو أمة.
لذلك فمسؤولية التربية الأسرية يتقاسمها كل أفراد المجتمع وهيئاته ومؤسساته وإن كان الأبوان حظهما أكبر من غيرهما لكون تأثيرهما أقوى ولكون الأمر الشرعي ورد يخصهما فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(التحريم :6). فمسؤولية وقاية الأهل نار جهنم تقع على صاحب الأهل من أب أو أم أو من يقوم مقامهما في الولاية والوصاية لقول الرسول : >إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته<،
وتتأكد مسؤولية الأسرة على الأبوين ليس من خلال هذه النصوص فحسب وإنما من خلال القصص القرآني الذي يجلي جانبا من التربية الأسرية في الاجتماع الإسلامي كما هو الحال مع نبي الله إبراهيم ويعقوب ونوح وكما هو الحال مع لقمان الحكيم فهذه التربية تقوم على غرس قيم الإيمان الصحيح وأصول الأخلاق والمعاملات الإنسانية الفاضلة.
والخلاصة فإن التربية الأسرية هي من أجل المسؤوليات وفسادها والإخلال بها يؤدي إلى فساد واختلال ما بعده والوفاء بها وتوفيتها يقود إلى تنمية الفرد والمجتمع والأمة تنمية صالحة مصلحة، نافعة وغير مضرة، إلا أن المجتمعات المسلمة المعاصرة تم اختراقها ثقافيا وأخلاقيا فحادت مؤسسات كثيرة وذات أدوار كبيرة وخطيرة عن رسالتها التربوية والإصلاحية فزادت من عمق الأزمة وأفرزت هذا الواقع التربوي والاجتماعي المريض بكل الأمراض والعاهات الفكرية والسلوكية والقيمية وأنتجت أجيالا تعاني من الضياع والتيه، وتتزعم عمليات الإفساد فحرمت المجتمعات المسلمة من خيرة أبنائها وعطاءاتهم. فالله الله أيها المسؤولون في ما استرعاكم الله أمانته!!
د. الطيب الوزاني