عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين<(رواه البخاري).
قال القرطبي رحمه الله : “فإن قيل : كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرا، فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم.. أو المقصود تقليل الشرور فيه…”(1).
وعن أبي هريرة ] أيضا عن النبي قال : >من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه<(رواه البخاري).
إلا أن لرمضان -في بلدنا- طعما خاصا :
فهو -لدى صنف من الناس- فرصة للهو والسمر ومجاهرة الله سبحانه بالمعاصي ليلا إلى طلوع الفجر (لعب الأوراق، إقامة حفلاتالغناء والرقص، تصاعد وتيرة القمار..) وكأنما أُطْلِق الصائم من عقال!!
ورمضان أيضا -لدى صنف آخر- موعد مع التكاسل والتراخي وإهمال القيام بالواجبات وتضييع مصالح كثير من العباد!!
ورمضان كذلك -لدى صنف ثالث- شهر “للمحنة”، محنة الجوع والعطش والتعب والتوتر الحاد المفضي إلى التشاجر والتهارش والتقاتل…
أين رمضان -في واقعنا- من رمضان كما يريده دين الله سبحانه؟!:
شهر خير للأمة، وتوحيد للخالق، وتربية للنفس، ومجاهدة للعدو؟
أخرج أحمد عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر<(أخرجه أحمد وابن خزيمة في صحيحه).
إن رمضان شهر خير لأنه :
أ- شهــر التوحيد ومراقبة الله سبحانه :
الصوم عبادة سرية بين العبد وربه يتربى فيها المؤمن على مراقبة الله سبحانه والخشية منه. فهو -أي المؤمن- يترك ما فيه هوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه بأن الله سبحانه يراه ويطلع عليه. فكان شهر رمضان بذلك “وصلة إلى التقوى”، وحربا على الرياء الأخف من دبيب النمل، وبذلك استحق الصائم، تفضلا من الله سبحانه ونعمة، الجزاء منه سبحانه بغير حساب.
عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >قال الله : كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح لصومه<(رواه البخاري).
يقول القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر حديث : >كل عمل ابن آدم له إلا الصوم..< ما يلي : “.. وإنما خص الصوم بأنهله، وإن كانت العبادات كلها له، لأمرين بَايَنَ الصَّوْمُ بهما سائر العبادات :
- أحدهما : أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
- الثاني : أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به..”(2).
ومن تمام بشارة المؤمن بِمَالَهُ مِن الصّوْم ما ذكره، ابن حجر رحمه الله حين كلامه عن قوله : >الصيام لي وأنا أجزي به< مما ملخصه :
- الصوم لا يدخله الرياء لأنه عبادة سرية كما سبق.
- الصوم ينفرد الله سبحانه بتقدير ثوابه إلى ما شاء بخلاف سائر العبادات التي اطلع الله سبحانه عباده على مقادير ثوابها بمضاعفتها من عشرة إلى سبعمائة ضعف..
- الصوم أحب العبادات إلى الله سبحانه والمقدم عنده.
- الصيام فيه تقرب من الله بما يوافق صفاته سبحانه من استغناء عن الشهوات.
- وفيه أيضا تقرب من الملائكة من حيث استغناؤهم عن الشهوات.
- الصوم لاَ حَظَّ فيه للعبد من حيث ثناء الناس عليه لعدم ظهوره.
- إن جميع العبادات تؤخذ منها مظالم العباد إلا الصيام، كما في الحديث : عن أبي هريرة ] قال : سمعت أبا القاسم يقول : >قال الله عز وجل : كُلُّ العمل كفارةٌ إلا الصومَ، والصومُ لي وأنا أجزي به<(أخرجه أحمد)، غير ذلك..
ب- شهـر التربية والتغيير للنفس، وذلك :
> بترويضها على الأخلاق الحميدة، ومحاربة نوازعها وشرورها (الغيبة، النميمة، المكر، الغش، الخداع..) وقد مر الحديث : >إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب..<.
وعن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه<(رواه البخاري).
> بتقوية إرادتها حتى تتحرر من عبوديتها لشهوة مؤثرة أو عادة متبعة أو لذة مطاعة… عن عبد الرحمان بن يزيد قال : دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله : كنا مع النبي شبابا لا نجد شيئا، فقال لنا رسول الله : >يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء<(رواه البخاري).
وتمتد هذه الحرية إلى سائر مناحي الحياة لتكسب المؤمن شخصية مستقلة لا تؤثر عليها مواضعات الناس ومتغيرات الواقع. عن حذيفة قال : قال رسول الله : >لا تكونوا إمعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا! ولكن وطنوا أنفسكم : إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا<(رواه الترمذي).
ذ. حسن لمعنقش
——
1- مأخوذ من : آبن حجر العسقلاني رحمه الله، فتح الباري شرح صحيح البخاري.
2- الجامع لأحكام القرآن.