وأنا أتتبع الانتخابات التي جرت ببلادنا يوم 7 شتنبر الحالي منذ ا نطلاق الحملة الانتخابية إلى يوم إعلان النتائج استوقفني أمران : أولهما يتعلق ببرامج الأحزاب وثانيهما بضعف نسبة المشاركة.
1- برامج انتخابية تختزل الإنسان في شقه الطيني الحيواني :
لا يحتاج الإنسان إلى كثير تركيز وتعمق في قراءة البرامج الانتخابية لجل الأحزاب -حتى لا أقول كل الأحزاب المشاركة في انتخابات 7 شتنبر- ليلاحظ أن هذه الأحزاب تقدمت للمواطن ببرامج انتخابية تركز بل تقتصر على معالجة الحاجيات المادية اليومية للمواطن من تشغيل وصحة جسمية وسكن وتمدرس وبنيات تحتية وتجهيزات أساسية… هذه الملفات يفترض فيها أن تستميل الناخبين وتحفزهم على المشاركة المكثفة يوم الاقتراع لاختيار المرشحين الأقدر على تحقيق أكبر قدر من هذه المتطلبات الضرورية لضمان حياة كريمة.
التركيز المفرط على هذه الملفات واحتلالها الصدارة في برامج الأحزاب المغربية مرده إلى تأثرها بمثيلاتها من الأحزاب في المجتمعات الغربية التي تختزل الإنسان وتلخصه في مجموعة من الحاجيات المادية من أكل وشرب ومسكن وشغل وتطبيب. ونظرا لأهمية هذه الحاجيات عند المواطن فإنه لا سبيل للوصول إلى صوته الانتخابي إلا عبر الضرب على هذه الأوتار الحساسة.
ولكن لا أحد من أحزابها كلف نفسه عناء وضع السؤال التالي على نفسه : أليست هناك حاجيات أخرى لدى المواطن المغربي المسلم إلى جانب حاجياته المادية المذكورة أعلاه؟ بل ألا توجد لدى المواطن المغربي المسلم حاجيات أخرى هي أهم وأولى وألح من تلك الحاجيات الطينية؟.
2- الإنسان قبضة من طين ونفخة من روح الله لو كانوا يعلمون :
إن الله تعالى الذي خلقنا جعلنا مكونين من شقين متكاملين. فالإنسان قبضة من طين ونفخة من روح الله عز وجل. هو نفخة من طين بدليل قوله تعالى : {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين}(ص : 71). وقال كذلك : {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}(المومنون : 12) ولكن الإنسان كذلك نفخة من روح الله بدليل قوله سبحانه : {فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}(الحجر : 29).
ومن حكمة الخالق العليم الحكيم أن جعل لكل شق من هذين الشقين غذاء من جنسه وأصله. الجزء الطيني منا غذاؤه من الأرض وما يخرج منها وما يدور حولها. قال عز من قائل : {ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}(لقمان : 20). غير أن الاهتمام بالجانب الطيني وإحلاله محل الصدارة وحصر الاهتمام فيه دون سواه كما هو شأن برامج أحزابنا السياسية فيه كثير من الاستخفاف بعقيدتنا وحتى بآدميتنا. فالبرامج التي تقتصر على تغذية الجانب المادي وتنمية الشق الطيني في الإنسان تنظر إلى هذا الأخير على أنه مخلوق أقرب إلى الأنعام منه إلى بني آدم سواء شعر واضعو هذه البرامج بذلك أم لم يشعروا.
ذلك أن الله تعالى في كثير من الآيات يخبرنا بأن الإنسان والأنعام سيان في علاقتهم بخيرات الأرض ومتاعها من حيث التسخير. قال عز وجل : {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم}(النازعات : 33)، وقال كذلك : {الذي جعل لكم الأرض مهاداً وسلك لكم فيها سبُلا وأنزل من السماء ماءً فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى}(طه : 54).
إن الاهتمام بالجانب الطيني فقط يعد تحقيراً للإنسان وتنقيصاً للتكريم الذي خصه الله عز وجل به عندما قال سبحانه : {ولقد كرمنا بني آدم}. إذ من أهم مظاهر هذا التكريم أن الله تعالى نفخ فيه من روحه. فبهذه الروح يسمو الإنسان ويتميز عن باقي المخلوقات. وهذه الروح غذاؤها وقوتها هي الأخرى من جنسها وهو الوحي الذي سماه الله تعالى روحا. قال تعالى : {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}(الشورى : 52). فالوحي كما قال سيد قطب رحمه الله : (فيه حياة، يبث الحياة ويدفعها ويحركها ويُنمّىها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود)(*).
فالله عز وجل بهذا النفخ من روحه أراد لنا أن نكون دائمي الاتصال به قويي الارتباط به ولعل هذا من أسرار خلق الإنسان منتصبا عكس البهائم التي خلقت مُكِبّة لأن أقصى ما تطمح إليه وغاية ما تصبو لتحقيقه هو إشباع حاجاتها المادية وهي كلها تخرج من الأرض.
3- الإنسان بين الحاجيات الدينية والحاجيات الطينية :
إن للإنسان المسلم حاجيات لا يفقهها كثير من الأحزاب السياسية وهي حاجيات أعظم وأجل من حاجياته المادية الطينية رغم أهمية هذه الأخيرة. ويأتي على رأس هذه الحاجيات الأساسية للمسلم حاجته إلى بيئة ومناخ اجتماعي عام ومؤسسات تدله على صراط الله المستقيم وتعينه على السير فيه والتمسك به. فهذا هو الضمان الوحيد للسعادة في الدنيا والفوز في الآخرة وعلى قدر النقص في تلبية هذه الحاجة تكون شقاوة الإنسان وخسارته في الآخرة وضلاله ومشيه مُكِبًّا على وجهه في الدنيا. قال تعالى : {فإما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}(طه : 152).
وتتناسل من هذه الحاجة الأم حاجات استراتيجية أخرى لا تقل أهمية بالنسبة للإنسان المسلم. ومنها على سبيل المثال لا الحصر حاجة الإنسان المسلم إلى بيئة مساعدة على تربية أولاده وتنشئتهم على تعاليم الإسلام الحق حتى يكونوا صالحين لأمتهم وينتفع بهم والداهم في الحياة وبعد الممات. قال رسول الله : >إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم يُنتفع به أو ولد صالح يدعو له<.
لقد صار خوف الآباء على انحراف أبنائهم كابوسا يطاردهم وهما يقض مضاجعهم حتى إن بعضهم لم يعد يهتم بتفوق أبنائه في الدراسة ونجاحهم في الحياة بقدر ما يهتم بعدم انحرافهم وسقوطهم في براثين المخدرات وشبكات الدعارة التي أصبحت تغزوا مجتمعنا وتهدد الأمن الاجتماعي والأخلاقي.
ولنا أن نسائل البرامج التي تقدمت بها الأحزاب لانتخابات 7 شتنبر عن مدى استجابتها لهذه الحاجة الملحة بالنسبة لملايين الأسر المغربية في إيجاد البيئة التي تساعدهم على استقامة أبنائهم. لنا أن نسأل مثلا عن نوع المدرسة التي تقترحها علينا الأحزاب للاستعاضة بها عن المدرسة الحالية التي صارت وكرا للمخدرات بكل أنواعها وللدعارة والإجهاض.
كما يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة الإعلام العمومي الذي تريده لنا بديلا عن شاشات المجون والميوعة وتسطيح الوعي، ثم ما هي السياسة الثقافية التي تقدمت بها الأحزاب للمواطن المغربي المسلم لتحل محل مهرجانات الانحلال والشذوذ وأفلام البغاء والطعن في ثوابت الأمة.
الأسئلة التي تشغل بال المواطن كثيرة ولكن تغليب منطق الطين وتغييب منطق الدين جعل برامج الأحزاب تعزف على أوتار لا تتجاوب مع انشغالات وحاجيات شريحة كبيرة من الشعب مما يفسر تلك النسبة الهائلة من الممتنعين عن التوجه إلى صنادين الإقتراع والتي بلغت 63% من الهيئة الناخبة.
د. عبد العزيز ابن ديدي
—
(*) سيد قطب، في ظلال القرآن ج 5.