تعرف الساحة الإسلامية في هذه الأيام جدلا حادا وخلافا شديدا حول زواج المسلمة بغير المسلم من أهل الكتاب، وصدرت فتاوى تلو أخرى تبيحه وتستحسنه وتعددت التبريرات والمسوغات كان من بينها :
1- أنه ليس في الكتاب والسنة كلمة واحدة تمنع ذلك كما قال قائلهم.
2- حديث ابن عباس في رده صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول بعد سنين من اسلامها وهو كافر.
3- تقريره صلى الله عليه وسلم كفار العرب على زوجاتهم اللواتي أسلمن قبلهم وعدم تفريقه بينهم.
4- أن إسلام الزوجة قد يؤثر إيجابا في الزوج فيدخل في دين الله وهو أمر يحتاجه المسلمون في بلاد الغرب. ولذلك يجب أن يترك للأقليات المسلمة أن يزوجوا بناتهم للكتابيين، لعل هؤلاء البنات ياتين بالكتابيين من خلال العلاقة الزوجية.
5- أن في إباحته تشجيعا لغير المسلمات على اعتناق الإسلام، فإن المرأة إذا علمت أن إسلامها لا يفرق بينها وبين زوجها الكافر ولا يمنعها من العيش معه لم يبق أمامها أي مانع يمنعها من اعتناق الإسلام والدخول فيه وهي مطمئنة على نفسها وأسرتها وأولادها، وعلى العكس من ذلك إذا علمت أن إسلامها سيحول بينها وبين زوجها ويحرمها أطفالها فإنها قد لا تتحمس للدخول في الإسلام بالرغم من اعتقادها به في أعماق نفسها.
6- وجود الخلاف وانعدام الإجماع مما يسمح باختيار القول بالجواز والأخذ به في الفتوى.
7- ارتكاب أخف الضررين، ضرورة أن المعاشرة المحرمة والزواج الحرام أخف من الكفر ومن القواعد أنه إذا اجتمع ضرران ارتكب أخفهما.
هذه مبررات من أفتى بالجواز وهذه شبههم وهي مبررات واهية لا تصلح أن تكون حججا وأدلة بالمعنى الصحيح والدقيق للدليل الشرعي الذي يبنى عليه حكم شرعي تطمئن إليه النفس وتثق به وتسمح للمسلم بالإفتاء به ونشره والدفاع عنه وتجاهل ما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الأمة من حرمة زواج المسلمة بغير المسلم ابتداء ودواما قولا وعملا اعتقادا وسلوكا منذ نزول قوله تعالى : {فلا ترجعوهن إلى الكُفّار} وحتى الآن إلى أن ظهرت هذه البدعة وكثر المبشرون بها. وخوفا مما يمكن أن تحدثه هذه الفتاوى من البلبلة في مجتمع يقلب عليه الجهل بدينه وشريعته التي حيل بينه وبينها في مدارسه وجامعاته تخصص المطالب التالية لمناقشة هذه المبررات لدحضها وإبراز زيفها وفسادها في نفسها وبطلان ما بني عليها.
المطلب الأول في مناقشة الادعاء بأنه ليس في الكتاب كلمة واحدة تمنع زواج المسلمة بالكتابي
في البداية نذكر الجميع وهذا المدعي أن مصادر التشريع الإسلامي ليست محصورة في الكتاب والسنة كما يعلم الجميع ذلك ونؤكد بعد هذا أن الكتاب والسنة فيهما آيات عدة وأحاديث كثيرة تدل على تحريم زواج المسلمة بالكتابي لمن يفهم لغة العرب وخطاب القرآن ومقاصد الشريعة الإسلامية وروحها.
أما الكتاب فهناك خمس آيات كلها تدل على منع زواج المسلمة من الكافر يهوديا كان أو نصرانيا أو غيرهما من الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم منعا مطلقا ابتداء ودواما، إنشاء واستمرارا في بلاد الإسلام وفي بلاد المهجر، في حالة الحرب والسلم، وفي حالة الضرورة والاختيار، كانت تأمل السلامة أو تيأس منه، حتى لو أسلم بعد زواجها به وهو كافر.
> الآية الأولى قوله تعالى في سورة البقرة : {ولا تُنْكِحوا المشركين حتى يومنوا، ولعبد مومن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولائك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه}(الآية : 221).
هذه الآية تدل على منع زواج المسلمة من اليهودي والنصراني وغيرهما من الكفار من وجهين، وتدل على ذلك بنصها ولفظها، وتدل على ذلك بروحها وتعليلها.
أما وجه الدلالة على ذلك بنصها ولفظها ففي قوله تعالى : {ولا تنكحوا المشركين}فإن هذا نهي والنهي يدل على تحريم المنهي عنه، والمنع من الإقدام عليه، كما يدل على فساده وعدم الاعتداد به وفسخه إذا وقع.
ولفظ المشركين في الآية جمع معرف بأل وهو يدل على العموم كما يقول الأصوليون يتناول بعمومه اليهود والنصارى فإنهم مشركون يدخلون في عموم المشركين الممنوع الزواج منهم يدل على شركهم :
1- قوله تعالى في سور التوبة : {وقالت اليهود عُزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون به قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يوفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}(الآية : 30- 31).
2- قوله تعالى : {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}(المائدة : 73).
3- قوله تعالى : {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقُولوا ثلاثة}(النساء : 171).
ففي هذه الآيات تصريح بشركهم وبيان شاف لأسباب شركهم يفضح كل مفتر يحاول تبرئتهم من الشرك وإخراجهم من عموم المشركين المنهي عن تزويجهم المسلمات في قوله تعالى : {ولا تنكحوا المشركين}.
وهذا ما فهمه الصحابة وعلماء الأمة من قوله تعالى : {ولا تنكحوا المشركات حتى يومن}(البقرة : 221) حيث ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية {ولا تنكحوا المشركات} ناسخة لقوله تعالى في سورة الما ئدة : {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}(الآية : 5).
وذهب بعض آخر إلى العكس وأن آية المائدة ناسخة لآية البقرة. ولا تكون إحداهما ناسخة للأخرى إلا إذا كانت آية البقرة {ولا تنكحوا المشركين} شاملة للكتابيات ليتم التعارض الذي هو شرط من شروط النسخ التي لابد منها.
وكذلك القول : إن آية المائدة مخصصة لآية البقرة دليل أيضا على شمول وعموم المشركات للكتابيات لأن الخاص بعض من العام، وفرد من أفراده يتناوله لفظه ونصه.
وإذا كان لفظ المشركات يعم الكتابيات كما فهمه الصحابة وعلماء الأمة من لفظ المشركات وهم أعرف الناس بلغة العرب وأعلم بخطاب الشرع ومقاصده. فإن لفظ المشركين أيضا يشمل اليهود والنصارى فلا يجوز تزويجهم المسلمات بنص هذه الآية، ولا تنكحوا المشركين، إلا أنه بالرغم من هذه الأدلة، وهذا الإيضاح فإن هناك من لا يفهم أو لا يريد أن يفهم ويدعي أن هذه الآية {ولا تنكحوا المشركين} لا تشمل اليهود والنصارى لأنهم غير مشركين، ويستدل على ذلك بقوله تعالى :
1- {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تاتيهم البيّنة}(البينة : 1).
2- {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابين والنصارى والمجوس والذين أشركوا}(الحج : 17).
3- وقوله : {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}(المائدة : 82).
وغير ذلك من الآيات التي فيها الجمع بين أهل الكتاب والمشركين، وعطف بعضهم على بعض بحرف العطف وهو يقتضي المغايرة كما يقول النحاة وغيرهم.
وهو رأي ضعيف يرده :
1- أن آية التوبة تدل على شركهم بالنص الصريح، والبيان الواضح، {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم… سبحانه عما يشركون}، وكذلك آية {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} وآية {ولا تقولوا ثلاثة}.
أما دلالة العطف في آية {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} فهي دلالة ظاهرة فقط والمنطوق الصريح مقدم على الظاهر المحتمل.
2- احتمال أن يكون العطف في هذه الآية ونظائرها من عطف العام على الخاص، وهو أسلوب مألوف ونوع معروف من أنواع العطف، والمغايرة فيه بين المعطوف والمعطوف عليه بالخصوص والعموم كافية ولا تشترط المباينة التامة لصحة العطف وهو في القرآن الكريم كثير ومنه {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمومنون} فإن عطف المومنين على الرسول من عطف العام على الخاص.
فإنه صلى الله عليه وسلم أصدق المومنين وأولهم.
هذا عن الدلالة اللفظية لآية {ولا تنكحوا المشركين} على منع زواج المسلمة بالكتابي.
> وأما الدلالة على المنع من جهة التعليل فيتجلى في قوله تعالى : {أولائك يدعون إلى النار} فإن فيه إشارة قوية ودلالة واضحة على أن علة تحريم نكاح أهل الشرك أنهم يدعون إلى النار، وهذا المعنى موجود في أهل الكتاب وفي غيرهم من الكفار، الكل يدعو إلى النار بفعله وسلوكه، وقوله ولسانه، ويفرض ذلك بسلطته ونفوذه فكيف إذا انضم إلى ذلك سلطة النكاح التي يمارسها الأزواج على الزوجات.
وفي هذا التعليل الإلهي والتعبير القراني {أولائك يدعون إلى النار} تحذير شديد للأولياء من أن تقود هذه الزِّيجَةُ والمصاهرة إلى خسارة دينهم وآخرتهم.
وهو تعليل يحمل في طياته وبين ثناياه وأسراره ردا مفحما وجوابا شافيا عما يفكر فيه بعض الحالمين ويحتج به بعض المغرورين من أن تزويج المسلمة من كتابي قد يؤثر إيجابا على الزوج غير المسلم فيدخل في الإسلام هو وأسرته ومن حوله وهو فتح مبين كما سماه. ونسي أن أحلام الليل سرعان ما تتبخر عند الصباح وأن العكس هو الكثير والغالب أن تفقد المسلمة دينها كليا أو جزئيا وأن أولادها لا أمل في إسلامهم كما أنه ليس من دين الإسلام ولا من مبادئه استخدام بناته وأعراض نسائه في استقطاب الآخرين ودعوتهم للإسلام. ولا يجوز ارتكاب محرم لتحقيق مندوب، ولا جلب مصلحة بفعل معصية. ولا الدعوة للإسلام بانتهاك شريعته أو التنازل عن مبادئه والتفريط في ثوابته والتساهل في أحكامه وخرق ما أجمعت عليه أمته.
والآية بنصها وتعليلها تعم الحربيين والمعاهدين، وتشمل المسلمات في بلاد الإسلام وفي بلاد المهجر لقاعدة أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع.
وقاعدة أنه يلزم من وجود العلة وجود الحكم.
يتبع
د.محمد التاويل