يأتي رمضان على الأمة الإسلامية وهي في حاجة ماسة إلى نفحاته الإيمانية وأريجه الروحي، الذي يروي النفوس، ويحيي القلوب، ويشد العزائم، ويبعث الهمم، ويجدد الآمال، بعطر القرآن، وهدي الإيمان، وتجليات الرحمن، كما يُنهض المؤمنين باستنشاقهم لعبق النبوة، وتأسيهم بخطو الرسول ، وتتبعهم لنهجه وسيرته، وتعايشهم مع الصحب الكريم، والجيل العظيم، والسلف الصالح، الذي نهل من الإيمان الصافي، وشرب من الرحيق المختوم، وتخرج من مدرسة القرآن والفرقان، على يد خير البرية، ورسول الإنسانية، ورحمة الله للعالمين، فهل تنهل الأمة في رمضان من هذه الينابيع الصافية؟
أنفساً طاهرة طهر الحرم
تملأ التاريخ مجداً وكرم
وافيات بالعهد والذمم
راقيات للمعالي والهمم
يا شباب العزمات المبرمة
عرِّفوا الكون العلا والمكرمة
عرِّفوا الكون الهدى والمرحمة
عرفوا الكون النفوس المسلمة
ربِّ بالإسلام قد هديتني
ربِّ من نورك قد آتيتني
فعلى العهد ما أحييتني
أحرس الكنز الذي وهبتني
لا شك أن نفوس الأمة وأرواحها في شوق غامر إلى رمضان، شهر الصيام والصلاة والقيام والكرم والجود والزكاة، والأدب والخلق والمواساة، والجهاد والنصر والفتح والنفحات، خاصة إذا كانت الأمة قد فقدت الكثير الكثير، من روحانيتها وعزتها وهويتها وشرفها القومي والديني والعسكري.
ولقد رماها المشركون بأسهمٍ
لم تخط لكن شأنها الإصماء
هتكوا بخيلهم قصور حريمهم
لم يبق لا جبل ولا بطحاءُ
ماتت قلوب المسلمين برعبهم
فحماتنا في حربهم جبناءُ
نعم، فإيمان الأمة هو الذي يحفظ سبقها وعزها وديارها وأرواحها ودماءها، وقد تنتصر الروح على العدو الغازي بدون سيف، ولكن بعزة الإسلام وحجته وأنواره وهدايته، يقول الشيخ أبوالحسن الندوي رحمه الله: “لما فتح التتار العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري، وأثخنوه جراحاً وقتلاً، ولم يتركوا فيه إلا روحاً ضعيفة، ونفساً خافتاً، وفل سيف الجهاد والمقاومة، فأصبح لا يؤثر ولا يعمل، وأغمده المسلمون يأساً وقنوطاً، وآمن الناس أن التتار لا يمكن إخضاعهم، وأن العالم الإسلامي قد كتب عليه أن يعيش تحت حكم هؤلاء الهمج، وأن الإسلام لا مستقبل له، قام دعاة الإسلام المخلصون الذين لا يزال تاريخ الإسلام يجهل أسماء كثير منهم، بدعوة هؤلاء التتار إلى الإسلام، فأدخلوا أمة قهرت الأمم كلها في عصرها في دين لا يحميه سيف ولا يدافع عنه جيش، وانتصر الإسلام على الديانتين المنافستين، وعلى دعاة البوذية والنصرانية”.
يقول أرنولد توينبي: “لقد كانت منافسة هذه الديانات العظمى في إخضاع القوة القاهرة لعقيدتها أمراً عجيباً ينظر إليه التاريخ، وينظر إليه العالم بدهشة واستغراب، كلٌّ يحاول أن يخضع هؤلاء الوحوش القساة، الذين داسوا هذه الديانات وحطموها، ولم يكن أحد يتوقع أن الإسلام سينتصر في هذه المعركة، ويهزم البوذيين والنصارى، ويستأثر بالتتار الذين كانوا أقسى الناس على المسلمين منهم على غيرهم، وقتل التتار علماء المسلمين وفقهاءهم، وكان هؤلاء التتار يعطفون على كل ديانة سوى الإسلام”، ولا شك أن الفضل في ذلك كما صرح بذلك “أرنولد” وغيره من المؤرخين يرجع إلى هؤلاء الدعاة المخلصين وربانيتهم وحرصهم على إرشاد هؤلاء الظالمين الذين سفكوا دماء المسلمين.
وقد نقل أرنولد قصة طريفة تدل على أسلوب دعوتهم، ورقة موعظتهم، وتجردهم من الأنانية والكبرياء واليأس، إذ فقال:
أسلم سلطان “كاشغر” الذي كان يسمى “تغلق تيمور خان” سنة 1347م 1363م على يد الشيخ “جمال الدين” الذي جاء من بخارى، وكان من خبره، أنه كان مع رفيق له في رحلته، فمروا بأرض السلطان المغولي التي كان قد حماها للصيد، وهم لا يشعرون، فأُخذوا، وأمر بهم الملك فأُوثقوا، وعُرضوا عليه، فقال وقد استشاط غضباً : كيف دخلتم في حماي من غير إذن؟ قال الشيخ: نحن غرباء، ولم نشعر بأننا نمشي على أرض ممنوعة، ولما علم الملك أنهم إيرانيون، قال في سخرية: حتى الكلب أفضل من الإيرانيين، قال الشيخ: صدق الملك، لولا أنا آمنا بالدين الحق لكنا أذل من الكلاب، ثم فصل له قليلاً، وتحير الملك: وقال ما هذا الدين! ثم مضى للصيد وهو مشغول بهذا الأمر، ولما رجع، خلا بالشيخ وقال له: فسِّر لي ما قلت عن دينك، وأخبرني ماذا تعني بالدين الحق، وأخذ الشيخ يشرح الإسلام في صدق وحجة وقوة شرحاً رق له قلب السلطان، وصور الكفر تصويراً بشعاً هائلاً، فزع منه السلطان، وأيقن أنه على ضلال وخطر.
ولكن السلطان رأى أنه لو أعلن إسلامه حالاً لما استطاع أن يدخل قومه في الإسلام، ورجا الشيخ أن ينتظر حتى إذا سمع أنه ولي الملك والحكم زاره، ثم أفسح له في الدعوة، ورجع الشيخ جمال الدين بعد فترة إلى بلاده، ومرض مرضاً شديداً، ولما حضرته الوفاة، دعا ولده “رشيد الدين” وقال له: “إن تغلق تيمور” سيكون في يوم من الأيام ملكاً عظيماً، فإذا سمعت بذلك، فاذهب إليه وزره واقرئه مني السلام، وذكره بما وعدني به “من اعتناق الإسلام والدعوة إليه”، وكان كذلك، فقد بويع “تغلق تيمور” بالملك”، وجلس مكان أبيه.
ودخل الشيخ رشيد الدين في المعسكر ليقابل الملك وينفذ وصية أبيه، ولكنه لم يستطع ذلك، فاحتال، وأخذ يؤذن بصوت عال عند خيمة السلطان في الصباح الباكر قبل خروج السلطان، فغضب السلطان وأمر بإدخال هذا الشيخ عليه، فما كان من الشيخ إلا أن عرَّفه بنفسه، وأبلغه تحية أبيه إليه، وكان السلطان على ذكر منه، فنطق بالشهادتين وأسلم، ثم نشر الإسلام في رعيته، وأصبح الإسلام دين أقطار التتار، وأصبحوا حماة الإسلام بعد أن كانوا عداته.
ونحن اليوم وقد ذهبت عنَّا قوة السلاح والساعد، أفلا نفسح المجال لقوة الإيمان والإسلام، وسطوة الروح والهدى؟! وهذا رمضان الذي يمثل ميلاد الأمة بنزول القرآن فيه، وسريان الهداية منه، وانطلاق الدعوة والطهارة والأخوة والمحبة في أيامه ولياليه، هل يكون لنا زاداً وحياة وكرامة كما كان لسلفنا وأجدادنا؟ نسأل الله ذلك.. آمين آمين.
د. توفيق الواعي
> مجلة المجتمع