في كل يوم يكشف لنا العلم على اتساع آفاقه جانبا باهرا من جوانب العظمة فيما شرعه الله لعباده من فرائض يعود نفعها عليهم، وتظهر الحكمة التي تستهدفها من وراء تشريعها، والتي تتلخص في استقامة حياة الناس، واستدامة صحتهم وعافيتهم على خير وجه وعلى أكمل صورة.
فثمرات العبــادات في جملتها وتفاصيلها : إنما تعود على العباد أنفسهم ولعل أوضح العبادات فيما يتعلق بانعكاس ثمرتها على الناس عبادة الصوم : فلقد أثبت الطب في مجالاته المتعددة وتخصصاته المختلفة أهمية فائدة الصوم في حياة الناس، وكشف عن جوانب عظيمة من ثمراته تعود على أبدانهم وأجسامهم بكل خير. وصدق الرسول القائل >صوموا تصحوا< فهذا الحديث على وجازته وقلة عدد كلماته، تضمن من أسرار طب النفس، وصحة البدن الكثير : ففيما يتعلق بالتأثير النفسي الذي يتركه الصوم على نفس المسلم، فالملاحظ أننا نجد الصوم يمنح الصائم طاقات نفسية هائلة تعينه على تجاوز صعاب الحياة ومتاعبها، كما أن الصوم يكسب الإنسان القدرة على تحمل الجوع والظمأ وبذلك تقوى إرادته، وتقوى مغالبته للشهوة، ومدافعته الهوى، وهو ما أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 13) لذلك نجد أن الحكمة القرآنية من الصوم إنما تتمثل في التقوى التي تسبغ على القلب رضا، وعلى الروح طمأنينة وتجعل الإنسان في راحة نفسية لا تعادلها أي راحة في الدنيا، وتجعل المرء بعيدا عن حياة المعاصي والفجور.
وأما عن صحة البدن فلقد تحدث الأطباء المسلمون وغير المسلمين عنها وهي أن حكمة الصيام الأساسية إعطاء الأجهزة الجسمية كلها فرصة للراحة والاستجمام، وعلى وجه الخصوص الجهاز الهضمي الذي يقوم بالعمل المتواصل طوال العام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو يتيح الفرصة للجسم البشري للتخلص من البدانة والسمنة والترهة، فنجد أن الأطباء يصفون الصوم لكثير من المرضى كعلاج من أمراض معينة وكعامل وقائي لبعضها الآخر كوسيلة لمكافحة السمنة، وكعلاج لمرض البول السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض الكلى والكبد ومضاعفات حموضة الدم.
وعندما نستلهم آراء بعض الأطباء عن الصوم وتأثيره على صحة الإنسان نجدهم (سواء الشرقيين منهم أو الغربيين) قد أجمعوا على أن الصوم وقاية وعلاج للإنسان من العلل والأمراض.
ففي قول الدكتور العالمي “الكسيس كاريل” الحائز على جائزة “نوبل” في الجرا حة في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” : “إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس البشرية : وهي وظيفة التكيف مع قلة الطعام ولذا كان الناس يلتزمون الصوم في بعض الأوقات.. إن الأديان كافة لا تفتأ تدعو الناس إلى وجوب الصوم والحرمان من الطعام، إذ يحدث أول الأمر الشعور بالجوع، ويحدث أحيانا التهيج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير منه..” ويقول الدكتور “مَكْ فادُون” وهو من العلماء الأمريكيين الكبار في كتابه الذي ألفه عن الصوم : “إن كل إنسان يحتاج إلى الصيام، وإن لم يكن مريضا لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله، فيثقل نشاطه، فإذا صام خف وزنه، وتحللت هذه السموم من جسمه فتذهب عنه ويصفو صفاء تاما… (وقد جرب هذا الطبيب الصوم على نفسه، وعالج به أمراضه الخاصة،، فهو يتكلم من موقع التجربة العملية).
وقد وصف بعض أطباء الأمراض الجلدية فائدة الصوم في وقاية الجلد من الأمراض فقالوا : (إن علاقة التغذية بالأمراض الجلدية متينة، فالامتناع عن الغذاء والشراب مدة ما يقلل من الماء في الجسم والدم، وهذا بدوره إلى قلته في الجلد، وبذلك تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية المؤذية والمكروبية، وقلة الماء من الجلد تقلل من حدة الأمراض الجلدية أيضا، الالتهابية والحادة المنتشرة بمساحات كبيرة في الجسم، وأفضل علاج لذلك الامتناع عن الطعام والشراب لفترة ما.. وقد أنشئت في أنحاء العالم مصحات يقوم العلاج فيها على الصوم أساسا، وهذا العلاج غالبا ما يكون فيه الشفاء من اضطراب الهضم، والبدانة، وأمراض القلب، والكبد والكلى، والبول السكري، وارتفاع ضغط الدم.
ويصل بنا المطاف إلى قوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه : >إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يجد فالماء لأنه طهور<، وذلك لأن الأمعاء تمتص الماء المحلّى بالسكر في أقل من خمس دقائق ومنه يذهب إلى الدم، وبذلك تزول أعراض نقص السكر والماء فيه.
أما الصائم الذي يقوم باتخام معدته مباشرة بالطعام على اختلاف أنواعها وبالشراب فإنه يحتاج إلى ما يتراوح بين ثلاث أو أربع ساعات حتى تمتص أمعاؤه ما يكون في إفطاره من سكر وبذلك تستمر أعراض الصيام عليه هذه المدة الطويلة.
وهذا ما يثبت حكمة التوجيه البليغ في هذا الحديث النبوي الشريف الذي يعتبر من أعلام النبوة.
وعندما يدعي بعض ضعاف النفوس أن الصوم يقلل من قيمة الفرد العامل الانتاجية، ويضعف قوته على العمل تعليلا لإفطارهم من غير عذر ولا سبب يُذكر، فإن الرد على هؤلاء بأنه ادعاء خاطئ،.. لأن الصوم في حقيقته أعظم علاج للكسل والخمول، ومبعث للنشاط العام لجميع أعضاء الجسم ذلك أن الصوم يمد الجسم بالطاقة الهائلة، لأنه ينظم إفراز الغدد، وبذلك يزداد نشاط القوى الذهنية حدة، والنظر قوة والجسم قدرة على مكافحة الأمراض.
كما أن هناك إحصائيات من كثير من الشركات والمصانع تدل على كثرة ووفرة الانتاج في ذلك الشهر الكريم معلنة ذلك بالأرقام الصحيحة الدالة والحسابات الدقيقة وهذا ما يجب أن يثبته الصائمون المؤمنون جميعهم، وأن يجعلوا شهر رمضان فرصة للنشاط، ووفرة في ثمرات الإنتاج وكثرة العمل، فنحن نعلم أن أجدادنا الأولين من السلف قد مارسوا أشق الأعمال في هذا الشهر الكريم كما أن الملاحظ تاريخيا أن معظم الغزوات والحروب قد حدثت في هذا الشهر أيضا وانتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما على أعدائهم.
وتتميما للفائدة، وتنفيذا لأوامر الشريعة، والتي دعت كل مسلم أن يقدر ظروفه الصحية بميزان الحق والعدل (فيأخذ برخص الدين، كما يأخذ بعزائمه) فإن الأمراض بكل أنواعها يجوز فيها الفطر من وجهة نظر القرآن ونظر الدين.. ولذلك قوله عز وجل : {شهر رمضان الذين أنزل فيه القرآن…} وذلك من رحمة الله تعالى بعباده، أما الأمراض الموجبة للفطر طبيا فهي : السّلّ والأمراض الصدرية، ومرض القلب، والمرض السكري، والنزلات المعدية التي يصحبها قيء وإسهال، وتقرُّح المعدة، والاثني عشر لاحتياجها إلى الماء والحمل والرضاع، وفترات الحيض، والشيخوخة.
إن الطب ويؤيده في ذلك الدين نفسه يعتبر الصيام مع الإصابة ببعض هذه الأمراض والمعاناة من آلامها، وشدة وطأتها جريمة في حق النفس والبدن لاتعادِلها جريمة إنها في واقعها إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ودفع بالبدن -الذي هو وديعة الله الغالية لدى كل إنسان- إلى التلف، وذلك ما حذر منه الله تعالى في قوله : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} بل وهو سر ما استهدفته حكمة الترخيص بالفطر بالنسبة للمرضى والضعفاء وغيرهم حتى أن الشريعة قد حرمت تحريما قاطعا الصوم على الحائض والنفساء.
ولا شك أن الغاية من ذلك : هو حفظ وصيانة النفس والبدن جميعا فــــــــي صحة وعافية، وذلك هــــــو ما يؤكده الرحمن الرحيم في قوله : {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}(البقرة : 185) ويقول : {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}(النساء : 28).