وحدة الدين أعظم قوة كامنة فيه
يقول سبحانه وتعالى : {هو الذي أَرْسَل رسُولَهُ بالهُدَى ودين الحق ليظهره على الدّين كله}(الفتح : 28).
أرْسَلَ : أحَبَّ من أحب وكره من كره.
حدث هذا على عهد كل نبي وكل رسول وحدث على عهد محمد .
وحدث على عهد من اتبعه بإحسان ويحدث كل مرة على يد من يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يومن بالله وكلماته متى جاء هؤلاء الرجال جاء هدى الله، وجاء وعد الله، وحق وعيد الله على الكفرة الفجرة.
هذه الآية تقرر حقيقة مطلقة، حقيقة مستمرة، متى جاءت شروطها، جاءت هي أيضا، أن الله عزوجل أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره، وليجعله ظاهراً منتصراً غالبا على الدين كله كيفما كان هذا الدين، فكل دين غير دين الإسلام هو باطل {ومن يبْتَغِ غَيْر الإسْلاَم دينا فَلَن يُقبل منه}(آل عمران : 85) و{أفغير دين الله تبْغُون وله أسْلَم من في السماوات والأرض}(آل عمران : 83).
الدين واحد، لا توجد أديان سماوية أو غير سماوية، الدين هو الإسلام، {إن الدين عند الله الإسلام}، هذا وحده الدين الذي عرفته الكرة الأرضية منذ آدم عليه السلام حتى تقوم الساعة، لا يوجد دين لله عرفته الأرض غير الإسلام، الإسلام هو وحده الدين الذي جاء به آدم، وجاء به نوح، وجاء به إبراهيم وموسى، وعيسى، وداوود، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم جاءوا بالإسلام وأتباعهم جميعا كانوا مسلمين، وكل نبي كان يصدق الذي جاء قبله ويبشر بالذي سيجيء بعده تطبيقا لعهد الله وميثاقه {وإذْ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنن به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}(آل عمران : 81) هذا وحده الدين ظهر ويظهر كلما جاءت الشروط التي بها يتم الظهور المشار إليه في آية الافتتاح {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيدا}(الفتح : 28).
القوة والشدة في إبطال الباطل أول صفات أتباع محمد
{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}(الفتح : 29) أتباع الرسول، هم طراز خاص، لهم صفات خاصة، بها يتأهلون للشهادة على الناس، وبها يتأهَّلون ليظهر الله على أيديهم دينه الحق، وعلى رأس تلك الصفات، صفة القوة، وهذا شيء طبيعي لأن الله قوي، ويحب الأقوياء، قال رسول الله في الحديث : >المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير..<(رواه مسلم).
نعم وفي كل خير ولكن شتان بين القوي وبين الضعيف، شتان بين المجاهد وبين القاعد، شتان بين الـمُنْفق وبين الممسك، شتان شتان… هذا الدين ما جاء إلا لإنتاج وتخريج هذه النوعية الرفيعة التي بها يتم ظهور دين الله، نوعية أول صفاتها القوة.
أركان الدين كلها تصب في اتجاه تكوين المومن القوي
إذا تأملنا الأركان الخمسة بكاملها، ركن شهادة لا إله إلا الله، ركن الصلاة، وركن الزكاة وركن الصيام، وركن الحج، لو تأملناها وتأملنا سواها من الفرائض والنوافل لوجدناها جميعا تصب في اتجاه واحد هو تكوين القوي.
لا إله إلا الله تحرر العبد مما سوى الله مطلقا فلا يبقى لغير الله عليه سلطان، إذن تحرر العبد لله واتباعه لرسول الله يجعله كذلك مؤتما بشرع الله لا يلتفت إلا لمن اتبع ذلك الشرع، الأمة جمعاء، تدور حول أمر واحد ووحيد هو حبل الله {واعتصموا بحبل الله جميعا}(آل عمران : 103).
وهو شرعه بين عباده فلا إله إلا الله تجعل العبد أقوى ما يكون في التغلب على جميع الصعوبات التي تعوق الإنسان لينظم حياته، وليأتمر بأمر الله عز وجل، وليستطيع أن يمسك نفسه بقوة لتَذْكُر ربَّهَا في الصلاة على أي حال كان أمرها قبل الصلاة {وأقم الصلاة لذكري}(طه : 14).
إن الذي يستطيع بتكبيرة الإحرام أن ينتقل من عالم كانت نفسه منشغلة فيه بتجارة أو غير ذلك إلى الحضور بين يدي الله جل وعلا باستحضار تام، بمجَرَّد أن كَبَّر صغَّر كُلَّ ما سوى الله، وكَبُر عنده الله جلّ جلاله، واتجه إليه، و أعرض عما سواه.
إن الذي يستطيع هذا الانتقال السريع من ذكر غير الله إلى ذكر الله فقط هو قوي حقاً، إنه قوي جدا في قدرته على الاستحضار، قوي على التمكن من نفسه لتوجيهها الوجهة التي ينبغي أن تتجه إليها.
إن الإسلام يهتم بالمعاني الخارجية ولكن المعاني الداخلية عنده أهمُّ، ولأن المعاني الخارجية مجرد وسائل أو مساعِدَات لتحْصِيل المعاني الداخلية.
فالوضوء وشكل الصلاة إنما يهدف أساسا لذكر الله، أما إذا توضأ العبد وقام ورَكَعَ وسجد وفعل أفعال الصلاة بصفة عامة، ولكنه كان داخلها غائبًا غَيْر حاضِرٍ، فَما صَلَّى.
ومثل ذلك الصيام يحرر العبد من الشهوات حتى الحلال، ولا يبقى له سلطان عليه، حتى الحلال، لأننا في الصيام لا نصوم عن الحرام، هذا نصوم عنه في غير رمضان، لكن في رمضان نتدرب على ترك الحلال، على الصيام عن الحلال، عن الشهوات الحلال لترقية عزم المؤمن وتقوية شخصيته، وتقوية إرادته لأن كثيرا من الخَلْق يعبدون أهواءهم {أفرأيت من اتَّخَذَ إلهه هواه{(الجاثية : 23) ما أكثر مَنْ يعبد هواه، هؤلاء أكثريةُ مَنْ على الأرض، فأكثرهم عبدة الشهوات.
ومثل ذلك يقال في الزكاة فهي أيضا تقوي المؤمن بدَفْعه لأنْ يصبح معطيا لا آخذاً، لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة.
المفروض أن تكون أكياس القمح والطحين تذهب من العالم الإسلامي إلى الكفار لا العكس، لا أن تأتي أكياسهم وألبستهم ومصبَّرَاتُهم ليعينوا بها عجزة العالم الإسلامي وبلاد المسلمين، هذا وضع منكوس معكوس.
الإسلام جاء لينتج الأقوياء في المال أيضا، لينتج الذين لا تتم لهم أركان الاسلام إلا بأن يصيروا مُزكين منفقين بعضًا مما أتاهم الله عز وجل، معطين إلى الذين يحتاجون حتى ولو كانوا كفاراً {ليس عَلَيْك هُدَاهم ولكنَّ الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خَيْرٍ فلأنفسِكُم وما تنفقون إ لا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وأنتم لا تظلمون}(البقرة : 272).
والحج وجه آخر لتكوين القوي، وجه آ خر تجتمع فيه كل تلك الوجوه السابقة، فيه تحرير العبد لله، حتى في الشكل حين يُحرِم ويلبس خرقة يلف نفسه فيها كأنها كفن، يتحرر من الشهوات ويتحرر لله عز وجل، ويظل يدور حول بيت الله رمزاً لشرع الله، رمزاً لحبل الله، معتصما به سبحانه وتعالى، وينفق في سبيل ذلك كما يفعل في الزكاة، ويضحي ويترك الشهوات كما يفعل في الصيام ويتم الاستحضار الكامل والعبودية الكاملة كما هُوَ أمْرُ الصلاة.
كل ذلك يتجمع وفي صورة جماعية لجمع كلمة المسلمين على أقصى حد وعلى أكبر صورة.
فالإسلام إذن بصفة عامة إنما جاء ليكوّن الأقوياء وليخرج الأقوياء، لماذا؟ لأن الإسلام أمانة ثقيلة.
فكيف تعطى الأمانة لضعيف؟!.
أرأيتم لو أُعْطِيت أو وُجدت في يد ضعيف، هل يستطيع الضعيفُ أن يمحل الأمانة حين تعطى له؟
لا يحمل الأمانة ولا يبلغ الرسالة إلا القوي
القوة إذن هدف لهذا الدين من جميع شرائعه، والسبب يرتبط برسالة هذه الأمة التي هي الشهادة على الناس، هي إظهار دين الله في الأرض كلها.
مات رسول الله والتحق بالرفيق الأعلى ولما يتجاوز الإسلام الجزيرة العربية ولكنه هو رسولٌ إلى الناس كافة، إلى الناس جميعا. فمن الذي يحمل الأمانة من بعده؟ من الذي يبلغ دين الله لمن لم يبلغه؟ من الذي يحمل هذه الأمانة؟ لابد أن يكون الحَمَلَةُ أقوياء، أما العجزة فلا يستطيعون شيئا، ولذلك استطاع الجيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين تبليغ هذا الدين إلى العالم؟ بماذا؟ بوجود القوة بالله، صفة القوة بالله كانت عالية فيهم، استطاعوا بها أن يبلغوا دين الله إلى أقاصي المعمور، وما انحسر وما ضعف ذلك المد الإسلامي إلا حين ضعف معنى القوة الشرعية في المسلمين.
حين ضعف معنى القوة بدأنا نرى تراجع الفتوحات الإسلامية وقد كانت تدق أبواب باريس من الجهة الغربية، ودقت أيضا أبواب فيينا من الجهة الشرقية، حين ظهرت هاته المعاني على يد محمد الفاتح وجيشه حيث ظهرت معاني القوة الشرعية.
هذه القوة كيف تكتسب؟ سمعنا فيما سمعنا فيما يتلى علينا اليوم أن موسى عليه السلام قال له الله عز وجل حين أعطيت له الألواح : {فخُذْها بقوة}(الأعراف : 145) وقال ليحيى {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}(مريم : 12) وقال لأتباع موسى ضاربا لنا المثل بهم إذ هم المؤمنون في وقتهم {خُذُوا ما آتيناكم بقوة}(البقرة : 63).
لا سبيل للمسلمين إلى القوة إلا إذا أخذوا ما آتاهم الله عز وجل بقوة، تمسكوا به بقوة، {والذين يُمسِّكون بالكتاب}(الأعراف : 170)، ليس يُمْسِكون بالكتاب، بل يُمَسِّكُون أي يأخذون الكتاب بقوة، أي أن يتعامل مع كل الأوامر على أنها واجبة التنفيذ، وكل النواهي يتعامل معها على أنها واجبة التنفيذ.
والسر هو موقع الإنسان من الله، موقع المسلم من ربه أنه عبد لله فالعبد يجب أن يطيع سيده دون مناقشة {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}(النساء : 65) {وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم}(الأحزاب : 36) هذا ربِّي إذا صدر منه الأمر يسبق كل أمر، يسبق أمْر الرئيس، أمْرَ الجيش، أمْر أي واحد لا يمكن أن يتقدم أمْرُه على أمر الله، هذا هو الشرع، وبهذا جاء الدين وبهذا يمكن اكتساب القوة من جديد، إذ الجميع في هذا الدين محفوظٌ موقعُه بشرع الله.
فالإمام طاعته واجبة بشرع الله ما دام مطيعاً لشرع الله، إنما الطاعة في المعروف، الطاعة واجبة لأن الجميع لا يطيع غير الله، الكل يطيع شرع الله. فنحن مع الإمام المسلم فإذا كَبَر إئتمرنا وكَبَّرْنا وأطَعْنا، فإن ركع ركَعْنا وأطعناه، وإن سجد سجدنا وأطعناه، لماذا؟ لأنه هو يأتمر بالشرع ويطيع الله فيما يصنع ونحن نعلم ذلك، وإذا فعل غير ما هو في الشرع، نُسَبِّحُ له، يعني نسبِّح إذ ذاك ولا نتابعه بل نرُدُّه إلى الصواب.
هذه شعيرة الصلاة توضح طبيعة بنيان المجتمع المسلم وكيف يكون المسلمون في علاقتهم بالشرع، فأخْذُ الكتاب بقوة يقتضي أن يُتعامل معه على أنه أكْبَرُ من أي شيء آخر. يأتي إلى الإنسان يخاطبه، يطلب منه أن يفعل وأن لا يفعل، يجب الإقبال على الكتاب والسنة وعلى العلم بالشرع لمعرفة ما يطلب الله عز وجل منا، فنفعل ذلك ونُرَبِّي عليه أهلنا وأولادَنا وندعو إلى ذلك.
والشرع ضَمِنَ جميع الحقوق من خلال أمره بجميع الواجبات، وهناك علاقة تلازمية بين الواجبات والحقوق يعني هذه ملتصقة بتلك، لا يوجد حق إلا وهو و اجب في عنق آخر، حق الزوجة هو واجب في عنق الزوج، وحق الزوج على الزوجة واجب في عنق الزوجة، وحق الآباء على البنين واجب في حق البنين وحق البنين، على الآباء واجب في حق الآباء، وحق الرئيس على المرؤوسين، واجب في حق المرؤوسين وحق المرؤوسين على الرئيس واجب في حق الرئيس وهكذا…
فهذا التلازم يعني أن الإسلام ضمن جميع حقوق الناس كيفما كانت نوعيتهم، ضمِنَها من خلال ضمانة الواجبات لأنه فرض واجبات، والمطلوب أداء الواجب قبل المطالبة بالحق هذا هو الشرع حينما قال رسول الله >إنه ستكون بعدي أثرة< أي أنه سيأتي زمان يوثر الناس فيه أنفسهم على الآخرين أي يحبون أن يستبدوا بالمسائل كلها ويؤدُّوها لأنفسهم، والأثرة هي ضد الإيثار هذا الأخير يعني أن الانسان يوثر الآخرين على نفسه رغم أنه محتاج والأثرة هي أخذ الشيء للنفس دون الآخرين، قال : >ستكون بعدي أثَرَةٌ وأمور تنكرونها قالوا يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال : >تؤدُّون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم<(رواه مسلم).
فإذن ها هنا ترتيب الحق والواجب، فالواجب أولا، فكل صاحب حرفة واجبه أن يؤدي الواجب أولا ثم يطلب الحق الذي يترتب على ذلك الواجب.
فأخذ الكتاب بقوة هو السبب في كل خير يأتي بعده لماذا؟ لأنه يأخذ الكتاب بقوة، فعندما يأخذ الإنسان الدِّين بقوة يصير غير عَادِيٍّ، يصير إنسانا نُفِخَتْ فيه روح القرآن، نفخت فيه روح الإيمان، ذلك الكتاب أعطى أثره فيه، وأصبح غير عاديٍّ، إذ ذاك يدفعه الشرع دفعا إلى أن يطلب جميع أنواع القوة الأخرى فما هي أنواع القوة الأخرى وعناصرها؟
أنواع القوة المطلوبة
أمور، أظهرها عندنا : العلمُ والمالُ والإعلام.
ففي زماننا هذا وفي غير زماننا، كانت القوة تتمثل في العلم بالله، والعلم بالشرع، والعلم بالدّعوة، وتتمثل في المال لأن المال أساس دعمها، ثم في قوة الإعلام لأن الإعلام هو التبليغ للدّعوة بالحكمة، ودفْعُ النفوس لحملها بقوة كل هذه العناصر للقوة يجب طلبها، وهي مضمنة في الأركان الخمسة للإنسان لو يتدبر الإنسان، ومتضمنة في جميع شرع الله، لأنها هي من مظاهر القوة أيضا، ويدفع إليها دفعا أخذ الكتاب بقوة، أي أخذ الدين بقوة وعند ذلك يقوم الإنسان بطلب العلم، فينهض ليتعلم العلم ويعلِّمه غيره، وطلب العلم رأسه العلم الشرعي. فهو العلم الحقيقي {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير}(البقرة : 120).
ولكن حتى العلم التسخيري الذي به يسخر الكون هو كذلك مطلوب في الشريعة أيضا {ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض}(الحج : 65) كيف نسخر الهواء، كيف نسخر الضوء، المعادن، البحار، الجو، كل شيء من حولنا كذلك له نظام موجود في هذا الكون، ماذا يفعل العلماء العصريون؟ يكتشفون.
إنهم لا ينتجون القوانين الفيزيائية ولا ينتجون قوانين الكون، وإنما يكتشفون قوانين موجودة ثم يستخدمونها، فهي كانت موجودة ولكن لم يكشتفها البشر فقط، فالتلفزة والهاتف والموجات الضوئية كانت موجودة وموجات أخرى ربما ستكتشف أسرع حتى من موجات الضوء وغرائب وعجائب سيأتي أوانها، {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}(فصلت : 53).
قوة العلم وأولوياته
فالعلم أساس القوة من عهد آدم به تمت خلافته وكذلك ترونه في أول شرط جعَلَه الله مُؤهِّلاً لطالوت ليكون ملكا، قالوا {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال}(البقرة : 247) أجابهم الله تعالى قال : {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم}(البقرة : 247) القوة المادية تأتي بعد القوة المعنوية، بعد قوة العلم، فالعلم يجب أن يطلبه المسلمون أولا وهو واجب عليهم. وأول ما نزل من كتاب ربّنا هو {اقرأ باسم ربك}(العلق : 1) هذه الأمة يجب أن تُصَدِّرَ العلماء لا أن تستوردهم، هذه الأمة يجب أن تكون هي الأولى في تسخير الكون لا أن تكون هي نفسها مسخرة ضمن بقية الكائنات لغيرها من الكفرة الفجرة، لابد أن نطلب العلم بجميع معاني العلم وبجيمع أشكاله على الترتيب، العلم الشرعي أولا والعلم الكوني ثانيا، علم تسخير الكون. كذلك المال، المال كما سبق مرتبط بأمر الزكاة، المال قوام الأعمال كما يقولون : نعم المال الصالح للعبد الصالح. المال به تتم أمور كثيرة.
قــوة الـمـال
المال به الآن استطاع عبدة العجل في الكرة الأرضية أن يقودوا العالم بخطام من أنفه، العالم لحد الآن في قبضة عبدة العجل يفعلون به ما يشاؤون، طبعا {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله}، بسبب حِكم أخرى لله عز وجل في أمر هذه المشيئة.
ولأفتح قوساً صغيراً سريعا في قول الله جل وعلا عن بني إسرائيل المفسدين في الأرض {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس}(آل عمران : 112) هذا الاستثناء معناه؟ أن هاته الذلة تزول بحبل من الله وحبل من الناس، وهم كانوا تحت ذمة المسلمين وفي ذمتهم كانت الجزية مضروبة عليهم حسب الشرع {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}(التوبة : 29) والصغار الذل والهوان وإعطاؤهم الجزية هو نفسه ذل وهوان، فكيف يزول هذا الذل؟ يكون زواله بحبل من الله وحبل من الناس.
يسْهل على الجميع أن يفهم حبل الناس، ها هي أمريكا والغرب والعالم العربي بصفة عامة يساند اليهود في كل نقطة من الأرض، حبل من الناس أمره واضح.
لكن كيف نفهم حبل الله الذي سبق حبل الناس {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله}(التكوير : 29) مشيئة الناس تابعة لمشيئة الله عز وجل، نحن انسلخنا من حقيقة الإسلام، من وضع الأمة الإسلامية التي كانت خير أمة أخرجت للناس.
هذه الآية {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا}(آل عمران : 112) جاءت بعد أن كنتم خير أمة على الإطلاق عرفتها الأرض أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، أين هذا من واقعنا، مفهوم الأمة نفسه أين هو؟! نحن الآن رقع، نحن الآن مجزَّؤون ممزقون، مفهوم الأمة لا وجود له في الواقع، ليس لنا مفهوم الأمة ولو مثل ما فعلت أوربا بالنسبة للسوق الأوبية المشتركة أو الإتحاد الأوروبي، فلو وجدت السوق الإسلامية المشتركة ولو نتوحد ولو على صعيد المال والبضائع، المهم أن تستهلك مصر ما يصنعه العراق وأن يستهلك العراق ما ينتجه المغرب وهكذا يتداولون من بعضهم البعض فتصبح الدول في العالم الإسلامي تنتج وتستهلك من بعضها البعض، فالأمة لا توجد لا على هذا المستوى ولا على المستوى السياسي ولا على أي مستوى آخر لا توجد الأمة.
لا يوجد حتى مفهوم الولايات ولو صرنا ولايات متحدة إسلامية على الأقل سيتبلور معنى الأمة ولو في صورة أجزاء منفصلة لها كيانها الخاص وليست تلك هي الصورة المثلى للأمة الإسلامية التي كانت أول مرة، ليست تماما، ولكنها قريبة.
أقرب من أن تكون، فقد كانت الولايات وكان الولاة على عهد الخلفاء الراشدين. أقول هذا حبل الله لليهود اليوم، وسَهْلٌ قَطْعُهُ، وسَهْل انقطاعه والله جل وعلا يقطعه عنهم، وبسببه يقطع عنهم حبل الناس، متى؟ إذا رجع المسلمون، إذا تابوا إذا رجعوا إلى الوضع الطبيعي الذي هو القوة التي أمرهم الله عز وجل بها، وهي أخذ الكتاب بقوة، فإذا أخذوا الكتاب بقوة فإن الله عز وجل يقطع حبله عن بني إسرائيل ويقطع بالتبع حَبْل غيرهم من الناس عنهم كذلك.
إنهم لم يرتفعوا ولكننا انخفضنا، ليس هم الذين عَزُّوا ولكن نحن الذين ذللنا وأنه لولا القابلية والاستعداد، ولو لم يكن عندنا الاستعداد للذل لم نكن لنذل.
إسرائيل جاثمة ونازلة بكل قوتها على الفلسطينين تحكم بكل شيء بالعسكر والحديد والنار ومع ذلك يتحركون والسبب بسيط هو أنهم، الآن بدأوا يتحررون من الخوف من المخلوق، وساروا يخافون الله فقط سبحانه وتعالى فما عادت الحياة تمثل لهم إغراءاً، فالدنيا لم تعد لها قيمة عندهم فالدين هو الذي أصبح له قيمة ولذلك يطلبون الموت كما يطلب الآخرون الحياة. فطلاب الموت يسطيعون التحرك لأنه زال خوف غير الله من قلوبهم، كذلك إذا تحرر المسلمون من غير الله، إذا تحرروا من الخوف لغير الله وامتلأت قلوبهم بأكبرية الله جل وعلا وبقوة الله جل وعلا فإنهم يرتفعون. وتسمعون الآية الصريحة {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}(آل عمران : 139) على الإطلاق، إسم تفضيل على حقيقته ما دام الإيمان أساساً ومتوفرا.
والإيمان الحقيقي الذي حدد القرآن الكريم مصطلحاته فقال {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا}(الحجرات : 15) (أي عندهم اليقين) وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله جاهدوا بأموالهم وجاهدوا بأنفسهم وليس في سبيل دنيا أو مصلحة أو جاه بل في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله وإظهار دين الله.
هذه بعض معاني قوة المال يعني أن طلب المال هو طلب للقوة لأن المال قوام الأعمال، نريد أن نحارب البطالة بالمال، نريد أن نحارب الكسل بالمال، نريد أن نقوم بتعليم رفيع بالمال، نريد أن نقوم بمواجهة الأعداء بالمال، يجب أن نكون كاسبين للمال على أقصى ما يكون وجوه الكسب، ونسخر ذلك لإعلاء كلمة الله عز وجل لا لغير ذلك، وما علا بنو إسرائيل في الأرض إلا بالمال، بالمال صاروا أعزة، يعني ألف مسلم لا يساوي يهودي واحد من الناحية العملية لأن المسلمين يضربون ويقتلون ولا يحسب لهم حساب ويهودي واحد إذا مات فتلك مصيبة.
لذلك لابد من طلب القوة داخل العالم الاسلامي بكل أسبابها، فالذي أعطاه الله المال يعطي منه، وكذلك من يعطى العلم فهو يعطي منه والكل يعطي.
قوة الإعلام بين الواقع والمطلوب
وكذلك أمر الإعلام الذي يسمى بالإمبراطورية التي بها استطاعوا كذلك أن يصنعوا ما صنعوا فمثلا إذا أغلقوا الطريق لمعرفة ما يجري في أفغانستان فلا يمكن معرفة ذلك فوكالات الأخبار هي في ملكهم إن لم يُمكّنوا من بعض الأخبار لا يمكن معرفة أي شيء، وإذا أرادوا قلب صورة وأخذ صورة جديدة وربطها بصورة قديمة تتجاوز مدتها العشرين سنة ثم يُـلصق بعضها بالأخرى لتلفيق الحقيقة فيمكنهم ذلك دون معرفة حقيقة الأمر، الإعلام كذلك قوة من أكبر القوى، لأنها تتجه إلى تكوين عقول الناس وأفكارهم واعتقاداتهم وأذواقهم. بل تتجه إلى غسل أدمغتهم بتعبيرهم هم.
أما إعلام المسلمين في الحقيقة فهو موجَّهٌ، لتوعية الناس لجعلهم يعرفون الحقيقة لنشر دين الله، رسالة الإعلام في الاسلام هي إبلاغ وتبليغ الدين علي حقيقته وتبليغ حقائق الواقع كما هي ليعرف الناس ويتبينوا الصواب من الخطأ والطيب من الخبيث، فهذا كذلك يجب أن يطلب فيه المسلمون القوة، وأن يكونوا أقوياء فيه وأن ينافسوا فيه إلى أقصى حدود المنافسة، وهكذا المال وهكذا العلم وهكذا الإعلام ومثل ذلك يقال عن معنى الأمة المشار إليها سابقا، المسلمون الآن لابد أن يشعروا من جديد بمعنى الأمة الإسلامية، مرّ الوقت الذي نقول فيه هذا سوداني، تركي، تونسي، هذا كلام فارغ صنعه الاستعمار فهو الذي صنع هذا، أما نحن فمسلمون وكفى فأساس العلاقات والارتباطات وأساس كل شيء هو الإسلام ولا شيء غيره، فقط الإسلام، فنحن أبناء الإسلام والله ربُّنا، وأولى عباد الله بالله من شكر، كل معنى رفع إلى جانب الإسلام هو مضاهاة، وهو شيء آخر يخشى منه على المسلمين في إيمانهم، رسول الله حينما نادى على الأنصار -وكان الأوسيون والخزرجيون على شفا التطاحن والتقاتل- الخزرج، قال لهم رسول الله >دعوها فإنها منتنة، ليس منا من دعا بدعوى الجاهلية<.
فهذا الكلام صريح وواضح، جاء الحق، الآن حصحص الحق.
اللحظة التاريخية دقيقة جدا ولا بد أن يعرف المسلمون دينهم الحق، لابد أن يعرفوا دين الله، فهذه عناصر كبرى للقوة يطلبها الأفراد، وتطلبها الجماعات، وتطلبها الأمة جمعاء.
حين نقول الأمة نقول ذلك على معنى حديث رسول الله الذي قال فيه >مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<(رواه مسلم) كيف يتداعى سائر الجسد بالسهر والحمى إذا لم يكن له إحساس مشترك يحس بعضهم ببعض؟! وكيف يدعو بعضه بعضا؟! لا يمكن، يعني عندما قُطّعنا ومزِّقنا بهذه الطريقة.
فنحن ماذا نعرف عن التاريخ الإسلامي سوى الشام، ففي بداية القرن جاءت فرنسا وبدأت بالمقص تقص هي وإنجلترا فأخرجوا لنا من الشام : الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان قطعة واحدة، فُصِّلت إلى أربع قطع على سبيل المثال والجزيرة العربية من الناحية الجغرافية قطعة واحدة لكنها فصلت إلى قطع كثيرة : السعودية والإمارات وقطر وعمان…
هذا الواقع ما أنزل الله به من سلطان بالمعنى الإسلامي، الأصل هو أن أمة المسلمين ذات واحدة وأمة واحدة وجسد واحد إذا أصيب جزء منها فالكل عليه الدفاع، هذا هو الأصل وهذه هي الحقيقة وهذا هو الدين، فالقوة هذا سببها ليؤخذ الكتابُ بقوة {خذوا ما آتيناكم بقوة}(البقرة : 63) وهذه عناصرها الكبرى، يجب أن تطلب ويدفع فيها إلى أقصى الحدود، وذلك لأن الله عز وجل في الأمر النهائي الأخير أعطى توجيها عاما بأمره {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}(الأنفال : 60) فالقوة هنا نكرة تفيد العموم وجاء قبلها حرف من التي تعني جزء، معناه : القوة أنواع كثيرة جدا غير محصورة، غير محدودة، ولكن كل ما يصلح أن يكون فيه قوة مما أحل الله يجب أن يعد {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}(الأنفال : 60) على الإطلاق بجميع أنواع القوة يجب إعداده {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}(الأنفال : 60) نسأل الله سبحانه وتعالى وهو القوي الذي منه صفة القوة، القوة كلها لله {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا}(البقرة : 165) القوة كلها لله {لولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله}(الكهف : 39) حين نقول لا حول ولا قوة إلا بالله فنقصد أن القوة مصدرها القوي فمن أراد أن يكون قويا فليكثر صلته بالقوي وهو الله جل وعلا منه تستمد القوة ومن كتابه، وأخذ كتابه بقوة يكسب القوة فلنأت البيوت من أبوابها ولنقبل على الله بصدق وعلى شرع الله بصدق، ولنتب توبة نصوحا ولنعزم عزمة صادقة على الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى نطلب منه القوة، لأنه ضامن القوة.
ولأختم بالكلام الذي يجعل القوة الشرعية شيئا آخر يذكره القرآن، اسمه “الأمانة” {إن خير من استاجرت القوي الأمين}(القصص : 26) وكلنا في وظائفنا وأعمالنا مستأجرون فكل واحد منا في عمله عليه أن يكون قويا وأن يكون أمينا أيضا وبهذا يفرق عن الكفار الذين من الممكن أن يكونوا أقوياء ولكن ليس بالضرورة أن يكونوا أمناء، لأن الأمانة ليس من السهل أن تكتسب لأن مردها خوف الله عز وجل، تقوى الله عز وجل فالذي لا يعرف الله حق المعرفة قد يظهر لك أمينا في بعض المجالات ولكن في مجالات أخرى يفتقد إليها، بينما المؤمن متصل دائما بالحي القيوم، الصفة موجودة مادام الإيمان موجودا و>لا إيمان لمن لا أمانة له<.
أ.د. الشاهد البوشيخي
—————–
(ü) محاضرة أعدها للنشر هيأة التحرير