8 – من الهدى المنهاجي في هذه السورة المباركة ما يلي :
الهدى الإجمالي
وخلاصته :
1- حذَار حذار من خط النَّار الذي يبتدئ من غِشْيَان الليل إلى البُخْل والاستغناء، وينتهي بالعُسْرى والتردي في النار والشقاء الأبدي.
2- حرصا حرصا على خط الرضوان الذي يبتدئ من تجَلِّي النهار إلى العطاء والاتقاء وينتهي باليُسرى والفوز بالرضوان في النعيم الأبدي.
3- على الموقف من الهدى -هدى الله تعالى- المدار، فمن اتبع فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض تردى في نار تلظى.
إن المتأمل في هذه السورة يجد خطين متقابلين متوازيين من أول السورة إلى آخرها :
الأول هو خط النار.
والثاني هو خط الجنة، والفيصل هو هدى الله الذي من اتبعه سعد ومن لم يتبعه شقي.
السورة تبتدئ بقوله تعالى {واللّيلِ إذا يَغْشَى}.
وغشيان الليل، سيرورة الليل كالغشاء بالنسبة للكائنات على الأرض إلى أن يكون الكلام عن البخل والاستغناء {وأمّا مَنْ بَخِل واسْتغْنى وكذّب بالحُسْنى فسنُيَسِّره للعُسْرى} إلى أن يقع التردي في النار في الشقاء الدائم .
وكذلك الأمر بالنسبة للخط الآخر {والنّهار إذا تجلّى} من َتَجِّلي النهار فعلا إلى قوله تعالى {فأما من أعْطَى واتّقَى} إلى التيسير لليسرى إلى أن يتم الفوز بالرضوان في نهاية السورة.
الهدى التفصيلي
الهدى الأول : الحياة خطان متقابلان متعاكسان لا يلتقيان، ينطلقان من نقطة واحدة ثم يتجه كل منهما عكس الآخر، وحسب خط المسير يكون المصير.
وهذا الهدى واضح في القسم الأول من السورة من أول آية إلى الآية الحادية عشرة في مراحل ثلاث :
المرحلة الأولى : تأسيس الكون كله على التقابل والاختلاف وإن كان فيه تكامل وائتلاف، ماذا ذكرت السورة من هذا؟ الليل حين يطبق ظلامه فيصبح غشاءً للأشياء يقابله النهار حين يتضح ضوؤه فتنجلي كل الأشياء.
خلْق الذكر في الكائنات كلِّها يقابل خلْق الأنثى.
هذه مقدمة السورة، ومقدمات السور بصفة عامة كما سبق في مقدمة سورة التكوير وكما سيأتي في سور لاحقة هي مقدمات تأتي في صورة قسم. أو تأخذ شكْل عرض، تُعرُض فيها مشاهد مُتتالية ما يدري الإنسان في أول الأمر لِمَ تُعْرض ولم كان الأمر هكذا، ما السر؟
وهي في الحقيقة تقدِّم للمعنى، إذ هي أحسن مقدمة وأقوى مقدمة لما بعدها.
والكلام في السورة إنما هو عن هذين الخطين المنطلقين من نقطة واحدة في اتجاهين متعاكسين.
نقطة واحدة منها ينطلق الخطاب في اتجاهين متعاكسين. هذه الحقيقة يأتي لها إطار كبير يؤسس لها. هي هذا الكون هذه الأرض مثلا، ترى فيها فعلا لَيْلاً وترى فيها نهاراً والتقابل يكون أشد ما يكون حين يطبق الليلُ ويصبح ليلا حقيقيا أي حين يغشى الكائنات، أي يصبح غشاءً لها يغطيها فيطبق الظلام، إذَّاك يكون الليل ليلا حقيقيا وعكسه النهار تماما حين يتجلى ويصبح جليا، حين يتضح ضوؤه اتضاحا تاما، فتنجلي وتتضح جميع الكائنات بهذا الضوء فهذا النهار بهذا الشكل يقابل الليل بهذا الشكل.
هذا له وِجْهَةٌ، وهذا له وجهة، وهذا يستدعي معاني وهذا يستدعي معاني.
مع الليل يأتي الويل كما تقول العرب >الليل أخفى للوَيْل< بسبب ظلامه، الليل هو إطار يستدعي عالما مظلما، يستدعي عالما أسود، يستدعي خطا أسود أيضا، عكس النهار تماما.
والليل هو الإطار قبل أن يأتي النور، قبل أن يأتي الضوء يكون الظلام، كأنه هو الذي يكون سائدا ثم يأتي الضوء فيتكشف الظلام، كما يقول المؤذن : >ذهب الليل بظلامه وأقبل النهار بنوره وضيائه< ذهب الليل بظلامه بسبب قدوم النهار بضيائه فهذا ينسخ هذا.
ولو أحببت أن تربط هذا الأصل الكبير بما هو قادم مما أشارت إليه مقدمة سورة التكوير بـ{اللّيْل إذا عَسْعس والصُّبح إذا تنَفّس} فها هنا شيء من ذلك.
ظلام الجاهلية مطبق والنور قادم ولكن لا ينطلق القرآن بهذا الشكل وإنما يقدم لحقيقة كبيرة ضخمة هي وجود هذين الخطين اللذين ينتهي كل منهما إلى نهاية تناسبه.
سنرى هذا بوضوح، لكن الوصول إليها يقتضي أولا التأسيس لها بالقاعدة العامة التي نراها في الكون، هناك ليل يغشى، وهناك نهار يتجلى، وإلى جانب ذلك هناك خلق الذكر، بالنسبة لجميع المخلوقات الحية، وهناك خلق الأنثى، فهما أيضا كائنان مختلفان متمايزان، وإن كان الليل في أصله يتكامل مع النهار، والذكر في أصله يتكامل مع الأنثى، ولكن الأصل هو الاختلاف التام، هذا بمثابة تأسيس لكلام قادم، لأنه مُقْسَمٌ به والذي له القسم، أي المقسم عليه عمليا هو {إنّ سَعْيَكُم لشَتَّى}.
المرحلة الثانية : الناس كلهم في أعمالهم صنفان متقابلان أيضا، صنف المعطين المتقين المصدقين بالوعد الحسن من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وصنف البخلاء المستغنين المكذبين بالوعد الحسن من الله تعالى في الدنيا والآخرة.
بمعنى أن الناس في هذه الحياة وهم يعيشون يتصَنَّفون تلقائيا إلى صنفين أيضا متمايزين تمايز الليل والنهار، صنف هو الذي تشير له الآية {فَأَمّا من أعْطَى واتَّقَى وصدَّق بالحُسْنى} وصنف عكسه تماما هو المشار إليه بقوله تعـــالى : {وأمّا مَنْ بَخِل واسْتَغْنَى وكَذَّبَ بالحُسْنَى}.
الأول صنف الضوء والنهار والثاني صنف الليل والظلام.
بَخِل تقابل أعْطى.
واستغنى تقابل اتقى.
لأن استغنى بمعنى : استغنى عن الله تماما وعن شرعه كأنه لا حاجة به إلى الله عز وجل، لأنه يظن نفسه غنيّاً بماله وجاهه، وبما عنده فلا يحتاج إلى الله، ولا إلى شرع الله، ولا إلى كل ما يتعلق بالله.
هكذا هو وهكذا يظن.
والذي يصدر إذاك عن المستغني ليس هو التقوى ولكن هو انتهاك الحرمة، هو الفجور، هو محادة الله.
فلذلك تقابل الصنفان : الأول {اسْتَغْنى وكذّب بالحُسْنى} والآخر {اتٍّقَى وصدّق بالحُسنى}.
والحسنى هي مؤنث الأحسن، فما الحسنى؟
في آيات كثيرة وعند مفسرين كثيرين قدماء ومحدثين بصفة عامة. الحسنى هي الجنة ولكن اللفظ -كما نبهت في مرات متعددة- لا يساوي اللفظ، ولا يوجد لفظ يساوي لفظاً آخر، فإذا ساواه ينبغي أن يقتصر على أحدهما فلا معنى لاستعمال الآخر، و سيكون ذلك من باب اللغو إذن هناك دائما خصوصية دلالية وإن صغرت، بها يحيا اللفظ متميزاً عن نظرائه ومرادفاته، فالحسنى هي مؤنث الأحسن فعلا، تصْدُق على الجنة وتصدُق على كل ما وعد الله به من خير في الدنيا والآخرة، ورأس ذلك الجنة ورضوان الله عز وجل {للذِين أحسنُو الحُسنى وزِيادة}(يونس : 26) هنا يشرحون الحسنى بالجنة، والزيادة بالرضوان، أَحْسب والله أعلم أن الصواب للذين أحسنوا جزاؤهم من جنس عملهم، يعطى لهم الشيء الأحسن أيضا، هذا الشيء الأحسن يصدُق على كل ما هو الأحسن في الدنيا وما هو الأحسن في الآخرة ولكن بما أن أحسن ما في الآخرة كان هو الجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى، فالمفسرون ربطوا الحسنى بالجنة، لكن قصر الحسنى على الجنة لا يستقيم مع الدلالة العامة للقرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى : {قل هل ترَبّصُون بنا إلا إحدى الحُسنيين}(التوبة : 52) ولم ترد إلا هذه المرة مثناة ومعناهما : الشهادة أو النصر.
هذا المفروض في إحدى الحسنيين : حسنى الشهادة أو حسنى النصر، ولكن الشهادة تؤدي إلى الجنة، إلى غير ذلك.
فإذن ليبق اللفظ على عمومه، وهو بعمومه يشتمل على الجنة، وعلى ما قبل الجنة مما وعد الله به، لذلك، آثرت أن أبينه بالوعد الحسن : {أفَمن وعدناه وعداً حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوْم القيامة من المحضرين}(القصص : 61) ذلك ما وعد الله به عباده إن هم آمنوا واتقوا، إن هم أحسنوا، وعدهم بأشياء كثيرة {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض}(النور : 53)، هذا وعد حسن وهو داخل في الحسنى، فلذلك الذين يُعْطُون ويتَّقون لهم الحسنى {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} يعني ما وعد به الله عز وجل، كل من اعتقد وآمن جازما أنه حق وأنه كائن؛ هذا هو المعنى من هذا الصنف.
وأعطى على عمومه.
و ما أشبه الكلام في هذه السورة بالكلام في سورة الأعلى وفي سورة العلق من جهة العموم والإطلاق في الأفعال {فأما من أعطى} أعطى ماذا؟ عادة الإعطاء يكون في المال، وهو الذي يأتي إلى الذهن، وهو الذي ترجحه وترشحه السورة، ما سبق وما سيلحق منها بجعل إعطاء المال هو الراجح، لكن أعطى، تعني أعطى كل شيء مما ينبغي أن يعطي مما أمر به الله أن يعطى، واتقى في ذلك العطاء، يعني الذي أعطى واتقى مصدقا بوعد الله عز وجل، له النتيجة بعد.
فإذن هذا صنف، صنف المعطين المتقين المصدقين وعكسهم الصنف الآخر، صنف البخلاء، بخلوا بما آتاهم الله لأن المفروض أن ما عندنا ليس لنا؛ هو لله ونحن أيضا لله {إنا لله وإنا إليه راجعون}(البقرة : 156) نحن مملوكون لله والملك كله لله اليوم وغداً، فلا نملك شيئا، وضعُنا بالنسبة لجميع ما عندنا وضع الخليفة، وضع المستخلف {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}(الحديد :7 ) {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}(النور : 33) من مال الله، فلا أحد يملك شيئا نحن نملك على سبيل التجوز، والتناوب والتداول.
وقد نجد في استعمالات الموثقين القدماء، استعمال النُّوبَة بالمعنى الدارج اليوم، رأيتها بأم عيني فنَوْبَة تعني فترة، تداول الملكية في الحياة الدنيا، نتداولها بالبيع والشراء، ونتداولها أيضا بالوفاة فينتقل الملك أيضا من المالك إلى ورثته، وهكذا فلا شيء يبقى لا المالك تجوزاً ولا المملوك.
وهذا الصنف هو المقابل للصنف الأول.
فالناس كلهم في أعمالهم صنفان متقابلان يشبهان الأصل الكوني الكبير، الليل والنهار، الذكر والأنثى في التمايز التام.
المرحلة الثالثة : الجزاء في الدنيا والآخرة كله تابع لنوع العمل :
وهاهنا أيضا نقطتان كالسابق :
النقطة الأولى : تيسيرُ الوصول إلى الخَيْر ومنتهاه الجنة لمن سلك طريق الخير.
النقطة الثانية : تيسيرُ الوصول إلى الشر ومنتهاه النار لمن سلك طريق الشر.
هذه النتيجة يجليها قول الله عز وجل : {فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنُيسّره لليُسرى} {وأمّا من بَخِل واسْتغْنى وكذب بالحُسنى فسنُيَسّره للعُسْرى} يعني النتيجة الدنيوية والأخروية أيضا ولكن الدنيوية هنا أظهر.
إذا عمل الإنسان، اتجه في طريق الخير يسر له الله طريق الخير إلى أن يكون منتهاه الجنة؛ وإذا اتجه في طريق الشر يسر له الله الشر من باب المشاكلة يعني جعله كذلك لأن الأصل >اعْملُوا فكل مُيسّر لمَا خُلق له<(رواه البخاري) مادام هو يريد الشر ويجِدُُّّ في الشر فعلا يُيَسَّرُ له، لأنه هو يريد الشر وحريص على الشر فيجد كذلك الشر ميسراً إلى أن يكون منتهاه النار. يعني كأن الله يُدَلِّل عباده، فمن أراد شيئا أعطاه له، فمن أراد الدنيا أعطاها له، ومن أراد الآخرة آتاه إياها، ومن أرادهما معا استجاب المولى لطلبه، منذ بدأنا من الليل والنهار إلى أن رأينا سلوك صنف المعطين المتقين، وصنف البخلاء المستغنين إلى أن وصلنا إلى النتيجة {فسنيسّره لليُسرى} {فسنُيسّره للعُسْرى} يعني نجعل سيره لليسرى ميسّّراً، نُيَسِّره عليه ونيسر له ما هو الأيسر في هذه الدنيا وفي الآخرة، أي نيسر له طريق الخير فيجد الخير سهلا كما قال حين قال له معاذ بن جبل ] : >أخبرني بعمل يُدخلي الجنة ويباعدني عن النّار قال لقد سألت عن عظيم ولكنه يسير على من يسره الله عليه<(رواه الترمذي) هكذا الأمر، يُيَسَّرُ العبدُ للخير باتجاهه إلى الخير وسلوك طريق الخير، وأيضا يُيَسَّر له الشر إذا اتجه إلى الشر.
الهدى الثاني : على الله جل جلاله بيان طريق الهدى بفضله.
وكل من في الدنيا والآخرة في قبضته.
{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}(فصلت : 46) وهو مستفاد من آيتين هما قول الله تعالى {إن علينا للهُدى وإن لنا للآخرة والأولى}.
{إن علينا للهدى} الله عز وجل التزم وألزم نفسه -تفضلا منه- بهداية خلقه وبإيصال الهدى من عنده إلى خلقه حين أخبر الله عز وجل قبل خلق آدم أخبر ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة، منذ أن اقتضت حكمة الله أن يكون في هذه الأرض لله خليفة، كان هناك نظام لهذه الخلافة، ميثاق لهذه الخلافة، نظام تسير عليه.
لكن أين يوجد هذا النظام؟ يوجد في هدى الله، {قُلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى}(البقرة : 38) الله لا يتركنا هملا، لابد من هدى، لا بد من إرشاد، لابد من نظام سير، ودليل سير للبشر في هذه الحياة بأمان واطمئنان، آمنين مطمئنين، لكي نجد هذا لابد من عون رباني وإرشاد رباني عن طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام، إما في صورة كتب تنزل على رسل، وإما في صورة رسل أو أنبياء يمثلون هدى الله عز وجل وإن كانوا بدون كتب، فهم القدوة لأنهم مهديون راشدون، وطريقتهم هي التي ينبغي أن نسير عليها {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}(الأنعام : 90) هكذا الأمر فهو عز وجل ألزم نفسه، لم يلزمه أحد، ألزم نفسه بفضله بأن يوصل الهدى إلينا، وقد هدانا واستمر هذا الهدى يتنزل منذ آدم \ عبر مراحل طويلة في البشرية حتى وصل الأمر إلى سيدنا محمد ، وانتهى تطور نزول الهدى، وثبت الهدى في القرآن الكريم، وقيل إنه الهدى {قُل إن هدى الله هو الهدى}(البقرة : 120).
لم يبق هدًى من الهدى، بل هو الهدى، كما لم يبق كتاباً من الكتاب، ولكن صار هو الكتاب.
فالآن لا يوجد هدى الله محفوظاً بنصه إلا في القرآن فقط، البشرية لا تملك هدى من الله عز وجل إلا في القرآن، إن اتبعته سعدت وحلت جميع مشاكلها كيفما كان نوعها، وإذا لم تتبعه ضلت وشقيت، وعاشت عيشة الضنك {فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يـــوم القيامة أعمى..}(طه : 121- 122).
{إن علينا للهدى} علينا أن نبين لكم الطريق، ونوضح لكم طريق الهدى، ونريكم الصراط المستقيم، هاهو ذا إذا أحببت أن تصل بسلام واطمئنان وتُيَسَّر إلى اليُسرى.
ها هو، لكن إذا لم تتبع أيضا نبين لك، فإذا ذهبت في الصراط المعوج كذلك يبين لك ما الذي تلقاه، وما الذي يكون، هكذا الأمر فالكل يُبَيَّن {إن علينا للهدى}.
ولا يَظُنّنَّ ظانّ بعد ذلك أن نترككم كما نقول اليوم، خارج دائرة نفوذنا. كلا ثم كلا أنتم هنا في الدنيا، وأنتم هناك بعد، في الآخرة في قبضتنا {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى}.
أنتم في القبضة لا سبيل لأن يحدث غير ما رُتِّب، فمن اتبع نَعِمَ وسعد بنعمة الاتباع، ومن لم يتبع فما ضَرّ إلا نفسه.
الهدى الثالث : المصير الأخير بالنسبة للبشرية مصيران :
مصير الأشقياء وهم الذين كذبوا بالحق ولم يعملوا به وهؤلاء {ليس لهم في الآخرة إلا النّار}(هود : 16) التي تَتّقد اتقاداً.
ومصير الأتقياء وهم الذين صدقوا فأنفقوا تزكية لنفوسهم ورغبة في مرضاة ربهم، وهؤلاء مبعدون من النار، منعمون برضوان ربهم، وغفرانه.
هذا الذي نجد فيما تبقى من السورة.
{فأنذرتكم ناراً تلظى}.
يعني بعد أن بين الوضع العام ثم بين الطريقين وما ينتهيان إليه من يسرى وعسرى، بعد ذلك جاء بالإنذار الكامل، {فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، وسيجنبها الأتقى الذي يوتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تُجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}.
الذي هو في البؤرة في الآيات ليس هو الجنة، بل هو النار، النار التي تتقد اتقاداً.
واللظى في العربية هو اللهب الخالص، الذي لا تشوبه شائبة، لظَتِ النار وتلَظَّت مبالغة في اللظى {فأنذرتكم ناراً تلظى} لهبها يشتد اشتدادا ويتقد اتقادا، أنذرتكم هذه النار التي لن يصلاها ولن يشوى بها إلا الأشقى، وعَرَّفَ من هو الأشقى.
ثم قال في الأتقى >وسيجنبها الأتقى<، لم يذكر أن الأتقى سيدخل الجنة ولكن {من زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز}(آل عمران : 185) وفي الأخير إشارة إلى أن الأتقى سوف يرضي ربه بالجزاء الأوفى {ولسوف يرضى}.
هذان المصيران : مصير الأشقياء ومصير الأتقياء معا ذُكِرا في قمة التعاكس.
لم يذكر مصير الشقي بل مصير الأشقى ولم يذكر مصير التقي بل مصير الأتقى، كل ذلك لإبراز هذا التمايز الكامل، وهذا التعاكس المطلق، وهذا الانفصال التام. وهذه نقطة مهمة في السورة. لأن السورة كما قلت في المقدمة خطان، من البداية إلى النهاية، خط مظلم وخط مضيء، خط الخير وخط الشر خط النار في النهاية وخط الجنة والرضوان، ولا يختلطان أبداً.
فكأن الله عز وجل هنا في هذه السورة الكريمة، يزيل أيَّ لَبْس يمكن أن يحلم به من يعصي الله عز وجل، ويرفض دينه، أيَّ لَبْس يمكن أن يَرِد على ذهنه، أو شبهة مِن مثل قول القائل {ولئن رددتُ إلى ربّي لأجدن خيراً منهما منقلبا}(الكهف : 36).
لا بد أن البداية تحدد النهاية، وخط المسير يحدد المصير، خطان منفصلان من البداية إلى النهاية.
ذكر الأشقى في الصورة المثلى للشقاء، في قمة الشقاء، لذلك عُرِّف بكذب وتولى، هذا الأشقى الذي كذب وتولى، كذب بالحق، كذب بما جاء به رسول الله ، كذب بالدين، لم يصدق أن هذا حق، لم يؤمن به، ثم تولى أيضا، وأعرض من الناحية العملية، فلم يعمل بشيء من ذلك.
هذا الأشقى هو المرشح لهذا النوع من النار، بعض العلماء ألح على أن هذه النارهي نار خاصة، طراز خاص من النار، ولذلك ذكرت منكرة، وذكرت موصوفة بصفة معينة، هي التي يصلاها الأشقى، فكأنما دون الأشقى يصلى ناراً أخف من هذه {فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى}.
وفي المقابل لم يقل الأسعد، وسيجنبها الأسعد، بل قال وسيجنبها الأتقى من باب التنبيه على الشرط الذي يحصل به المراد، السعادة طريقها التقوى، إذا لم تكن التقوى فمستحيل أن تكون السعادة لأن شرع الله عزو جل ضمن لمتبعه أن يحييه الحياة الطيبة ويدخله الجنة ويكرمه برضوان الله.
النظام العام الذي يرسمه الشرع : كيف تكون حالة القلب؟ كيف تكون حالة الحواس؟ كيف تكون العلاقات؟ كيف تقضى الحاجات؟ كيف نفكر؟ كيف نعبر؟ كيف ندبر؟ كل ذلك إذا كان وفق الشرع فإن الله عز وجل الذي يعلم السر وأخفى والذي يعلم الغيْبَ والشهادة رتب الأمر بطريقة إذا صرنا وفقها نظفر بالنتائج الطيبة ولو لم نعلم كيف تم ذلك؟ لكن نحن موقنون بأنه إذا طبقنا هدى الله فستكون النتيجة في الدنيا والآخرة، وفق ما أخبر الله. والسبب هو أن علم الله محيط وحكمته عالية ورحمته لا حد لها، فالله أرحم بنا منا وأعلم بنا منا، وأحكم في تدبيرنا منا.. إلى غير ذلك، فإذن التقوى سر السعادة في الدارين {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحْتسِب}(الطلاق : 6- 7) {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}(الأنفال : 29) {اتقوا الله وآمنوا برسوله يوتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به}(الحديد : 28) {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}(الأعراف : 96) التقوى هي السر، وهي الزر الذي إذا ضُغط عليه انفتحت أسرار الكون للمتقين، فهذا هو الطريق فأين السالك؟!
لكن هاهنا نقطة لابد من الوقوف عندها وهي تعريف الأتقى.
الأشقى قال فيه الله تعالى : {الذي كذب وتولى} لكن ماذا قال في الأتقى؟
قال معرفا له : {الذي يوتي ماله} ما قال الذي يُصَلِّي!! ولا قال الذي يصوم!! ولا قال الذي يحج!! ولا قال الذي يذكر الله كثيراً!! قال : {الذي يوتي ماله يتزكى} يوتي ماله، لا يُؤْتَى إليه لإعطاء المال وإنما هو الذي يؤتي.
هذه نقطة وقفت عندها مَلِيّاً فوجدت أن الزكاة دائما إيتاء الزكاة، إكراما لحق الله وللضعفاء لأن هذا حق، وهو حق الله في المال، حق الله يؤدَّى، صاحب المال هو الذي يحمل ذلك الحق ليوصله إلى من يستحقه، لا العكس، لا أن يأتي الضعيف والمسكين والفقير إلى صاحب المال ليطلب منه ذلك، كلا، صاحب المال هو الذي يؤتي ماله.
وهذا التعبير مطرد في كتاب الله عز وجل.
ثم الذي يؤتي ماله، لأي شيء يؤتي ماله؟ هل ليظهَر؟ ويشتهر؟ وليكثر أتباعه؟ كلا إ نما الأتقى الذي يؤتى ماله ليتزكى، يحاول أن يكون زكيا أي طاهراً، يتطهر، بفعل الخيرات، يتزكى، فعل مطاوع، زكى غيره، وتزكى.
هذا من جهة ومن جهة أخرى {وما لأحد عنده من نعمة تُجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} ليس له أي قصد آخر إلا وجه الله تعالى وإلا الله جل جلاله، يعني أنه مخلص في إنفاقه كل الإخلاص لله تعالى، لا يريد من أي عبد كائناً ما كان هذا العبد، جزاءً ولا شكوراً، يفعل الفعل ولا يقصد إلا رضوان الله تعالى، إلا وجه الله سبحانه وتعالى : {وما لأحد عنده من نعمة تُجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} هذا هو الأتقى، فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
ومن الأمارات الدالةعلى وجود هذه الصفة أن العبد لا يتأتر بالمخلوق فما يفعله من خير لا يراعي فيه أي مخلوق، ولا يرجو من أحد منةً، وكونه لا يرجو من أحد شيئا فهو بالفعل قد حصل له جزاء الفعل، وعند الفعل حصل له جزاء الفعل، بل عند النية، والهم حصل الجزاء، أو بدأ حصول الجزاء.
هذه الآية -انتبهوا- بعض المفسرين ومنهم ابن كثير رحمه الله فهموها فهما غير هذا الفهم، باختصار فهموا أن هذا الأتقى لا ينفق نفقة على أحد، له عليه نعمة سابقة، فهو يؤديها، بمعنى أنه أدى جميع حقوق الخلق.
هذا ما فهموا، أنه أدى جميع حقوق الخلق ولم يبق له إلا أن يؤدي حقوق الله.
وتابعه على هذا المعنى عدد من المفسرين، منهم السعدي. ولكن الطبري شيخ المفسرين انتصر للمعنى الذي قلته قبل قليل.
وأحسب أن المعنى الآخر الذي قال به ابن كثير وغيره ليس هو المراد والله أعلم.
خلاصة هدى السورة
وقد صغته هذه المرة بطريقة مغايرة:
الخلاصة الأولى : يا أيها الناس إياكم أن تبخلوا وتستغنوا
يا أيها الناس، المومنون وغير المومنين، إياكم ثم إياكم أن تبخلوا أو تستغنوا، هذه السورة عند التأمل تظهر أنها سورة الإنفاق، لأنها من أولها إلى آخرها تضع المال في البؤرة وتضع الإنفاق في البؤرة، وعليه المدار مدار السعادة العليا.
ومعنى هذا الكلام أنه في هذه البدايات الأولى من نزول الوحي وقد قُرِئَتِ المعاني الكبرى وكليات الدّين الكبرى مما أرشدت إليه سورة العلق، وطُبق ما طبق وبدأت الدعوة وبدأ الإنذار، بدأت الحاجة تظهر إلى المال، فبدأ المال يُلَحُّ عليه، يلح على إنفاقه، هذا من جهة الربط بالواقع الذي كان في السيرة، ومن جهة التسلسل العام في السير والتدرج في السير تصبح حاجة الفقراء والمساكين وحاجة المحتاجين في بؤرة الاهتمام، في هذا الدّين.
و(السورة القادمة ستلح على هذا أيضا، سورة الفجر {كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين}) أي من أن أوائل ما ينبغي العناية به، سَد حاجة المساكين والفقراء وذلك لا يكون إلا بدفع ذوي اليسار وغير ذوي اليسار وكل من آمن بالله عز وجل إلى الإنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
إنفاق كم؟ زكاة؟! لا. خُمُس؟! لا. إنه الإنفاق مطلقا.
في البدايات كان الأمر بالإنفاق بدون تقدير، الإنفاق بلا حد، ولا حصر.
يا أيها الناس إياكم أن تبخلوا وتستغنوا.
هذا للناس جميعا ولكن ضمن الناس المؤمنون، إياكم أن تبخلوا، واعلموا أنه لا تجتمع الدعوة والبخل.
الدعوة تقتضي الكرم، >يا أيها الناس افشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلُوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام<(رواه ابن ماجة).
فالكرم! الكرم! أطعموا الطعام! أطعموا الطعام! وفي المثل الدارج : >الصْلاَة عْبَادَة، والصْيَامْ جْلاَدَةَ وَسِِيدٍي وَسِيدْكْ يُعْرف فِي هَذَا< أي في إنفاق المال. فحذار حذار من البخل.
وبصفة عامة فالأمة المنفقة هي الناجحة، والإنسان الذي لا يبخل هو الناجح {ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} الشح قمة البخل فالذي لا يبخل يعبد الطريق إلى السيادة، لأن البخيل معرض لأن يُعْطًى، والكريم دائما في موقع الـمُعطي، الكريم في موقع المعطي والبخيل في وضع الـمُعْطَى له ولو كان غنيا، أو من أغنى الناس، واليد العليا خير من اليد السفلى لأنها هي المنفقة، لنأخذ مثلا من الواقع الدولي المعاصر، ولْتكن الولايات المتحدة هذه الدولة لها اليد العليا على أغلب الشعوب بأسباب كثيرة منها الإنفاق! فكم تعطي من الملايير لدول كثيرة، وكم تساعد من الدول تعطيها الملايير وتساعدها بالملايير، فتكون النتيجة أنها تشتري هذه الدول.
لهذا كانت صفة البخل مما يجعل الإنسان لا يطلب السيادة ولا يحافظ على الكرامة، فيصير ذليلا لأنه يحرص على المال ويعبد المال، {جمع فأوعى} فحذار، حذار من البخل، وحذار حذار من الاستغناء والشعور بالاستغناء الذي مرّ بنا قبل في سورة العلق {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}.
الاستغناء في حقيقته لا وجود له ولكن شبهة الاستغناء قائمة عند من رآه استغٌنَى، عند من يظن أنه استغنى عن الله فهل يستغني أحد عن الله؟! ليستغن إذن عن هوائه!! ليستغن إذن عن مائه!! ليستغن إذن عن ضوئه!! ليستغن عن صحته!!
كيف يُسْتغنَى عن الله!! من أين؟! وكيف؟! لا سبيل، لا سبيل، نحن به، حياة وموتاً، وقبل الموت وبعد الموت، نحن بالله.
الخلاصة الثانية : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا…واتقوا
وهي مأخوذة من قوله تعالى : {فأما من أعطى واتقى}.
ذكر الله الإنفاق وقدمه على التقوى مع أن الإنفاق بعض التقوى، ولكن الله تعالى أبرزه حينما ذكره أولا. لذلك أشرت قبل إلى أن هذه السورة سورة الإنفاق، لأن الإنفاق يتخللها من أولها إلى آخرها وهو المقدم في أولها وفي آخرها فلم يقل الحق سبحانه فأما من اتقى وأعطى وإنما قال {فأما من أعطى واتقى} فإذن الإعطاء معناه هنا : الإنفاق، وذلك يعني أن الإيمان يبدأ بدفع المؤمنين للمجاهدة بالمال قبل الأنفس {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم}(الأنفال : 72).
إذن المرحلةُ الأولى مرحلةُ المال، لا حديث الآن عن النفس، الحديث عن المال حيث بدأ دفع المسلم إلى العطاء وتحريضه على العطاء، لأن هذا الحث على العطاء هو الذي سيدفع المؤمن إلى الدرجات العلى ليصبح إيجابيا في الحياة، وبذلك سيجتهد المسلم في طلب الرزق، والرزق الحسن أساسا، وسيكدح، وسيجدُّ ليحصل على المال، المال الحلال وسيبذل كل ما في وسعه للحصول على المال من أجل البَذْل لأنه إذا لم يكن له مال ماذا يعطي؟
وإذن لابد للإعطاء من الاجتهاد في تحصيل المال وكسبه. شريطة أن لا يسكن القلب.
وعموما في البداية كان الحث على الإنفاق مطلقا في جميع الاتجاهات كالإنفاق على الضعيف، وعلى المسكين، وعلى الفقير وعلى اليتيم كما سنرى بعد {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة}(البلد : 11- 15).
بمعني أنه في حال وجود الأوضاع المزرية بالناس على المؤمن أن يتدخل من أجل تحسين أوضاع البشر، وأوضاع الحيوانات وأوضاع الكائنات فالمسلم مثال للإحسان بالضعفاء مثله مثل تلك المرأة التي رأت كلبا يلهث في الصحراء فأخذت حذاءها، فنزلت إلى البئر وأخذت به الماء فسقت الكلب، فشكر الله لها صنيعها فغفر لها.
هذا المفهوم للرحمة بالمعنى الشامل هو بعض تجليات {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء : 107).
والمسلم نفسه رحمة للعالمين كرسول الله وعلى قدر اتباعه لرسول الله تكون رحمته، بمعنى أن الرحمة تصدر من المسلم صدور الضوء من الشمس، وصدور الماء من النبع، رحمة ليس لها حِمْية، وليس لها حدود، رحمة شاملة تتجه في كل اتجاه، وتعم كل من احتاج إلى أن يُرْحم، مسلما كان أو غير مسلم، إنسانا كان أو حيوانا مادام محتاجاً إلى الرحمة فيرحم >ومن لا يرْحم لا يُرحم<.
فـيا أيها الذين آمنوا أنفقواواتقوا الله عز وجل.
الخلاصة الثالثة والأخيرة : يا أيها المنفقون الذين آمنوا وأنفقوا عليكم أن تُخلصوا.
أخلِصُوا، ثم أخلصوا، لا يكفي أن تنفقوا، بل أخلصوا ثم أخلصوا في الإنفاق، فقد يضيع كل ما أنفقتم، لابد من أن ننفق بشرط ألا نريد إلا وجه الله عز وجل. ولا ينبغي أن يشوب إنفاقنا شائبة شرك أو شائبة شهوة أو شائبة هوى.
أنفق لأن الله عز وجل طلب منك أن تنفق، وأحَبّ منك أن تنفق، ويرضى عنك إذا أنفقت، أنفق ابتغاء وجهه، وأنفق ابتغاء مرضاته فقط.
هذا الإنفاق، وإن قل، فإن الله يبارك فيه بركة خاصة من عنده ويكون له أثر كبير في الدنيا، وفي تزكية النفس. وأثر كبير في الحياة. لا يحتاج المسلم إلى عمل كثير بقدر ما يحتاج إلى عمل متقبَّل عند الله عز وجل >إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين….<(رواه مسلم) وهذا الطيبة لا يمكن أن تكون إلا بشرطين :
الأول : لابد أن يكون ذلك الذي ننفق خالصاً لوجه الله.
والثاني : لابد أن يكون حلالا.
ننفق من الحلال، وننفق ابتغاء وجه الله تعالى.
هذه النقطة إذن، نقطة الإخلاص لله في إنفاق المال هي نقطةٌ جوهرية تتصدى لها هذه السورة تصديا كاملا ولا تعالجها عند ذوي اليسار فقط، كلا ثم كلا وإنما تجعل كل مسلم مطالبا بأن ينفق مما عنده كما قال الله عز وجل في آية أخرى وفي مناسبة أخرى {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}(الطلاق : 7) فالإنفاق شامل لذي السعة ولمن قُدر عليه رزقه {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} بمعنى أنه لابد أن ينفق.
ولا يُتَصَوَّرُ مسلم لا ينفق.
هذه نقطة جوهرية جداً.
لا يتصور مسلم يفقه القرآن ويفقه الشريعة ولا ينفق. لا يمكن ذلك مهما قل ماله، كما في الحديث : >لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو أحسبه قال إلى الجبل فيحتطب فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس<(رواه البخاري).
فالسؤال حرام وممنوع في حق المسلم، انظر إلى الوضع الاجتماعي كيف انتكس؟! وكيف صارت حال المسلمين؟!
فعندما نقول المسلم، نقول : المسلم ينفق تلقائيا، نقول المسلم كاسب، المسلم يحرص على الكسب وهو ضد الكسل ومع الكدح، والمسلم يجتهد في طلب الرزق بكل الأسباب، وهذا يعني أن المسلم يبذل كل جهده لتحصيل الكسب وحين يحصل على الكسب ينفق منه في سبيل الله، هذا الإنفاق هو مبدأ أو خط أساسي في شخصية المسلم، ولاسيما في البدايات، وسيستمر هذا الأمر، في البدايات ولا يكون متجها إلى الأغنياء، ولا متجها إلى النِّصاب، بل المسلم الأول أُمِرَ بأن يكون منفقا معطيا بصفته مسلماً.
هذا شيء مهم جداً لابد أن نذوقه، ونحاول أن نكونه.
اللهم اجمع في هذه الأمة بين العلم والمال، اللهم اجمع في هذه الأمة بين العلم النافع والمال الصالح، وجعلنا الله وإياكم من الصادقين ومع الصادقين آمين والحمد لله رب العالمين.