المكاسب والخسائر من هجرة الأدمغة
ويرى خبراء آخرون أن ظاهرة هجرة الكفاءات ذات تأثير بالغ على كلّ من طرفي البلاد، المهاجر منها والمهاجر إليها، على حدّ سواء، إلاّ أنّه تأثير يختلف في طبيعته بعض الاختلاف بين الطرفين.
أمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر إليها، فإنّ هذه العقول المهاجرة تعتبر رصيداً إضافياً في مجال الريادة العلمية والفكرية، تساهم إسهاماً فاعلاً في التقدّم الصناعي والتكنولوجي، وتسرّع من حركة التنمية الشاملة فيها، وهو أمر مشهود به من قبل أهل تلك البلاد أنفسهم، كما يدلّ عليه حصول بعض العلماء المسلمين المهاجرين على جائزة نوبل، وهي الشهادة العالمية العليا على الريادة والعطاء في المناشط العلمية على اختلافها.
وأمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر منها، فإنّ تأثير هجرة العقول يبدو في طرفه القريب تأثيراً سلبياً عليها، إذ هجرة العقول منها يعتبر نقصاناً من رصيدها الذي به تتحرّك نحو نهضتها، وذلك بما ينقص بتلك الهجرة من إمكانيات الابتكارات والكشوف العلمية والفكرية التي من شأنها أن تطوّر الحياة وتنمّيها، وإن كان بعض الباحثين يشكّك في أن يكون لتلك العقول المهاجرة تأثير إيجابي في البلاد التي هاجرت منها فيما لو بقيت فيها، إذ هي حينئذ سيكون مآلها الانكماش والتعطل كالعقول التي لم تهاجر، وذلك بحسبان أنّ المناخ العامّ في تلك البلاد غير مساعد على الانطلاق في سبيل الريادة والابتكار والعطاء، وهو ما كان أحد أسباب هجرتها إلى بلاد يتوفّر فيها ذلك المناخ.
ولكن قد نظفر بنتائج أخرى لظاهرة هجرة العقول الإسلامية مخالفة للنتائج السابقة لو وسّعنا زاوية النظر إليها، بحيث تتجاوز في التقدير حدود الربح والخسارة، بميزان التنمية المادّية، لتمتدّ إلى مساحات تشمل مستقبل الدعوة الإسلامية فيما يمكن أن يكون لها من انتشار بتلك الهجرة في ديار الغرب من شأنه أن يثمر من النتائج ما يعود بنفع حضاري عامّ، مادّي ومعنوي، على كلّ من طرفي الهجرة، المهاجر منه والمهاجر إليه، على حدّ سواء، ونحن نعني هنا البعد الرسالي في هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب.
إنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هي من صميم الأمّة فيما ترسّب في مخزونها الثقافي من بعد رسالي ظلّ ثابتاً فيه مهما أتت عليه من أحوال النشاط والخفوت، بل إنّ هذه العقول بما هي من صفوة الأمّة في قدراتها العقلية وفي درجاتها العلمية وفي مستوياتها الفكرية لعلّ ذلك البعد الرسالي المترسّب في ثقافتها يكون أقوى عندها منه عند غيرها من سائر أفراد الأمّة وجماعاتها، وهي قوّة ربّما ظهرت عند بعضهم في حال نشاط فاعل، وربّما كانت عند بعضهم الآخر في حال كمون، لكنّها لا تلبث عند الأكثرين منهم أن تصل إلى حال النشاط إذا توفّرت لها العوامل المناسبة.
فاروق الباز يقد خبرته
يقول الدكتور فاروق الباز، وهو من كبار العقول العربية التي هاجرت من مصر منذ ستينات القرن الماضي، والذي يشغل حاليا منصب مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن بعدما عمل لسنوات طويلة مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” في مشاريع استكشاف القمر والفضاء، يقول: إن لكل عالم وخبير عربي أسبابه الخاصة التي دفعته إلى الهجرة. وهذه تضاف إلى الأسباب العامة المشتركة في الوطن العربي حيث لا احترام للعلم والعلماء ولا تتوفر البيئة المناسبة للبحث العلمي والإبداع. وبالتالي فمن الطبيعي أن يبحث العالم العربي وطالب المعرفة عن المكان الذي توجد فيه شعلة الحضارة. إذ عندما كان العالم العربي يحمل شعلة الحضارة قبل مئات السنين كان يأتيه المفكرون والخبرات والعقول من كل حدب وصوب، وبما أن شعلة الحضارة انتقلت إلى الغرب فمن الطبيعي أن يهاجر الخبراء والعلماء إلى المراكز التي تحتضن هذه الشعلة.
18 ملـيـار دولار سنــويــا مــن الـمسلمين لأمــريكا
مقابل أرقام الهجرة المذكورة من الوطن العربي تشير الإحصائيات إلى أن المهاجرين الروس الذين استقدمتهم إسرائيل إثر تفكك الاتحاد السوفيتي كان من بينهم عشرة آلاف مهندس جاهزون للانخراط في سوق العمل فضلا عن آلاف الأطباء والعلماء من مختلف الاختصاصات.
أما الولايات المتحدة فلديها إجراءات خاصة لاستقطاب الكفاءات تربط فيها بين التسهيلات التي تقدمها لهم وبين حاجة الشركات الأمريكية الكبرى من الاختصاصات والخبرات. ولهذه الغاية أصدر الكونغرس الأمريكي في العام 1990 تشريعا خاصا لمساعدة الشركات الأمريكية على استيراد خبراء تكنولوجيا المعلومات وغيرهم من حملة الشهادات العليا.
وعلى الرغم من ذلك فقد تقدم مؤخرا القائمون على منطقة وادي السيليكون المتخصصة في الصناعات الالكترونية إلى الكونغرس بطلب توسيع برنامج منح الهجرة للعمال المهرة ليستقروا في الولايات المتحدة.
هذا الواقع يجعل الكثيرين يطلقون على الولايات المتحدة الأمريكية إمبراطورية العقول المستوردة والتي لم يقتصر استيرادها على دول العالم الثالث بل إن عددا من الدول الأوروبية وكندا واستراليا يعانون أيضا من هجرة العقول باتجاه الشركات والجامعات الأمريكية ومعاهدها ومراكز الأبحاث المختلفة.
والأخطر من كل هذه الأرقام النتيجة التي أبرزها ريفين برينر الأستاذ في دراسات الأعمال في جامعة ماكجيل الكندية التي ذكرها في كتابه “القرن المالي” إذ يقول: (في ظل اقتصاد العولمة سيذهب البشر والأموال إلى حيث يمكنهم أن يكونوا مفيدين ومربحين. ففي كل عام يغادر ما يقدر عددهم بنحو 1,8 مليون من المتعلمين ذوي المهارات والخبرات من العالم الإسلامي إلى الغرب. وإذا افترضنا أن تعليم أحد هؤلاء المهاجرين يكلف في المتوسط عشرة آلاف دولار، فإن ذلك يعني تحويل 18 مليار دولار من الأقطار الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام).
وإذا راكمنا هذا المبلغ نظريا على مدى عدة سنوات يصبح مفهوما أكثر لماذا تزداد الأقطار الغنية غنى والفقيرة فقرا.
ذ. منى محروس
> موقع مفكرة الإسلام