إن جذور الإسلام لانهائيةٌ فوق الزمان والمكان، والمخاطَب في الإسلام هو قلب الإنسان الذي يستوعب السماوات والأرض بوسعته المعنوية، وهدفه السعادة الدنيوية والأخروية.
الإسلام، اسم الصراط المستقيم الممتد من الأزل إلى الأبد، وعنوان النظام السماوي المنـزل لفتح القلوب جميعاً ابتداءً من قلب أشرف البشر في الأرض ، ولتحقيق رغبة “الأبد” في كل أحد.
مفتاح القلوب
منذ أن نصب الإسلام سرادقه في الأرض ، توجه إلى القلوب بأشد قوته، وسعى لفتح القلوب، ورسَمَ صورتَه في كل وجدان، ثم حَمَل على وحدات الحياة كلها. فثم تناسب دائم بين تعمقه في الصدور وتأثيره في فصول الحياة. فبقدر تعمق تقبله في الأرواح وتأصله، يطفح ويستقر فيضُ تأثيره في حياتنا وانعكاساته فيما حولنا. بل الحق أن الآمال والتشوقات ومسلمات القبول المستيقظة فيما حولنا باسم الإسلام، تتحقق تماماً، بالتناسب مع عمق هذه الصورة الداخلية وسعة إحاطتها. فكلما تعمق القبول الابتدائي هذا في دواخل البشر، زاد قوة تأثيره في البيئة المحيطة، وتحددت الوجهة التي يوليها المجتمع في حياته الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والإدارية والثقافية. ذلك في كل زمان وبقدر هذا الإذعان الداخلي. نعم، المجتمع – من كل الوجوه- يحمل في سيماه خطوطاً مهمة منه، ويُظهر الفن والأدب على محياه ألوان هذا المحتوى الداخلي وزخارفه، ويُسمَع ويُستشعَر في كل مكان بين سطور الوجود والأشياء صوت هذا المحتوى الداخلي ونَفَسه وأداؤه، ويشجي كل شيء مرئي أو خاف أسماعنا بأنغام رائعة يلحنه لسان هذا المحتوى الداخلي الصامت بلا صوت ولا كلام.
فلا عجب إذن أن تُسمع أنغام الوجود الأبدي متى ما انفرجت أفواه القلوب المفتوحة بالإيمان، وأن يحسب هؤلاء أنفسهم في الممرات الموفية إلى سفوح الجنة كلما فتحوا عيونهم لينظروا إلى ما حولهم… فيُطْلِقون وعثاء الطريق ونصبه إلى أمواج بحر السعادة في آخر الدرب، فيسيحون قائلين:” مرحى… مرحى”، بدلاً من “أفٍّ…أفٍّ”!.
إن كلمة السر لفتح القلوب هي “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”… هذه الجملة الوجيزة، ذات وجهي الغاية والوسيلة للحقيقة الواحدة، هي في الإسلام أساس الخصوصيات الإيمانية جميعاً. فمن هذه البذرة تنشأ “شجرة طوبى” الإيمان، وبثمار المعرفة منها، تحيط أفق الحس والشعور والإدراك للإنسان، ثم تستحيل العلوم والمعارف كلها إلى العشق والاشتياق والحرص بحملة داخلية وشعور وحس داخلي، ليحاصر ذاك الإنسان من كل جهة، فيصيّره إنساناً جديداً قائماً على محور الوجدان… فيظهر الحال على كل سلوكيات هذا الإنسان العاشق المشتاق. فتحمل عبادته وطاعته سماتٍ ترتسم بخطوط هذه العلاقة والرابطة، وذلك العشق والاشتياق، وتصير مناسباته البشرية انعكاساتٍ لهذه اللدنية… وتلف وتدور حملاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية كلها، حول هذه القوة الجاذبة “إلى المركز”… فتتشكل فعالياته الفنية وأنشطته الثقافية بهذه “الحركية” الداخلية، وتتوسع بها، وتبرز بألوان القلب وأدائه الجميل تماماً. ولئن كان الحاصل الظاهر أثرا فنياً أو كتاباً أو رسماً أو شعراً أو لحناً، فإنه يهتف بمشاعر وأحاسيس القلب الأنموذج للداخل والمقتات بزاد الذات… يهتف معبراً عن الهيجان أو الخفقان المرتشف من واردات القلب لصاحب الأثر، وعن عشقه، ووصاله أو هجرانه. وكذلك الحال حال الروح المشبعة بالإيمان والمعرفة والمحبة والأذواق الروحانية، إذ تبدي رسمها الداخلي على الفن والثقافة والأنشطة الأخرى، وتهتف “بمتلقيات” الإنسان والكائنات والله، المتحولة في أعماق الروح إلى “خلاصات” أو “عصارات” رائقة وتسعى دوماً إلى “نظم” المعاني الغائصة في بواطنه العميقة.
الإيمان وأثره على القلب والسلوك
لا يكون الإنسان في كل أحواله قاصداً هذا القصد أو متبعاً هذا التحري. إلا أن حركة النظم الإيمانية في قلبه تقود كل تصرفاته، بإرادته أو من غير إرادته، إلى هدف معين. ومن طبع الحال أن تنعكس ألوان “حركيته” الداخلية وأداؤها على نوع حياته وأسلوبه وشخصيته ومناسباته الاجتماعية… وكذلك تبرز تلك اللهجة والأداء والأسلوب في أعماله الفنية وأنشطته الثقافية، لان موقع الإنسان في الوجود، وغاية خلقه، ومقصود فعالياته، وتداعيات الفكر عن هذه الغاية وذلك المقصود، ووظيفته ومسؤولياته، ستحيط مع الزمان بكيانه وتحاصره، وتوجهه في كل ساعة نحو التميّز والفائقية إزاء الوجود الأوسع والأعلى بأشد المشاعر حيوية وتأثيراً.
هذا الفكر الأول المميِّز، يتمادى في تأثيره على أنشطته الذهنية والفكرية والعلمية… وبعد مدة، سيحقق حصول “طبيعة” (جِبلّة) ثانية فيه. هذه الطبيعة تشعر بنفسها من البواطن في كل صفحات حياته: معتقداته وعباداته، وأخلاقه وعلاقاته الاجتماعية، وارتباطه بربه وسلوكياته. ومن الحق، أن الإنسان يرسم حدود عالمه الحقيقي الذاتي بمقدار ما يوسّع هذه الموهبة الأولى المميِّزة.
وإن من المعلوم كيفية تفكير رجل توجه إلى ذرى الحياة القلبية والروحية، وكيفية حركته واشتغاله ونقطة بدايته ومدى حساسيته في العبادات وعظيم استشعاره بالأخلاق وانفتاحه على المراقبة والمحاسبة وشعوره بالرهب من الذنوب في المراقبة الدائمة. فمن استقر وتوطد شعوره وتفكيره بهذا القدر، يحسب الحياة بمجموع وحداتها شلالاً وَحّدَ مجراه، ينحدر مواراً أبداً ليبلغ البحر، وهو في الشلال يعيش نشوة العشق والوصال أبداً. الإيمان لإنسان الحركة هذا مولِّد الطاقة (الداينمو) الأساس له، وبمقدار توسعه وعمقه، والعبادة مدده وسنده وحركيته الحافظة، والأخلاقومجموع المناسبات الإنسانية علامته الفارقة وفيصله المميِّز، والثقافة أهم أبعاده المتطبعة، والفن انعكاس استطلاعه وتوحشه(1) وحسه الداخلي ومشاهداته الباطنة.
فكرنا ولا غير سواه!
وأعرج إلى موضوع ليس مقامه هنا… لكن أقول عن الفن الإسلامي أنه يحتوي رحاباً واسعةً خصوصيةً بتحرّيه التلون في فَلَك التجريد. فهو إذ يؤكد التوحيد، يتخذ موقفاً بيناً ضد التشبيه والتجسيم، وبنكتة إبقاء باب التأويل مفتوحاً أبدا، يريد أن يري بحراً في قطرة، ويصور شمساً في ذرة، ويشرح كتاباً في كلمة. أما الثقافة الإسلامية المتشكلة بتأثير هذا الداينمو الرئيس وهذه “الحركية” الأساسية (ولا ننبش الآن عن مقولة أن الثقافة ميراث الإنسانية عموماً)، فهي منفتحة على كل الأنشطة الفكرية والذهنية المرتبطة بواقع الإنسان، وخلاصةٌ (لب وجوهر) وعصارةٌ للخلطة المشتركة لتلك الأنشطة. ونحن نستشعر فيها بكل شيء يخصنا – بأمسها ويومها، وبكامل حيوتيها، ونعيشها، ونطورها، ثم نودعها أمانة لدى الوجدان الاجتماعي، العارف المتأهل لما يُقّدر ويوقر.
لذلك، الواجب علينا هو أن نرتبط بنظام معتقدنا وفكرنا ولا غير سواه، وأن نتوجه إلى ثقافتنا، وحاصلات ثقافتنا، ونكافح للبقاء بذاتيتنا، وأن نحقق الاشتقاقات الفكرية والعرفانية الجديدة – حين اللزوم- فوق أطلسنا الفكري. نعم، ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا للالتزام بمصادرنا الذاتية أبداً، وحصر الذهن في بلوغ البحر بمجرانا “الملي” الذاتي، والحرص على التطلع إلى الوجود من تحت قبة سمائنا، وقراءته ككتاب، وتفسيره إذ نقرؤه، واستنباط ملاحظات جديدة منه.
الحكمة ضالة المؤمن
ومعلوم أن الإسلام منفتح على اقتباس ما يمكن اقتباسه من قيم الأمم الأخرى. فالإسلام يبحث عن كل فائدة ومصلحة حتى إن كانت في أقصى بقاع الأرض ، ويطلبها أنّى يجدها. وكما اقتبس في الماضي من علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والهندسة والطب والزراعة والصناعة والتقنيات الأخرى أينما وجدها، ثم قومها وطورها وأودعها أمانة للأجيال الآتية، فاليوم أيضاً يأخذ كل ما يمكن أخذه أينما وجده، ويوسعها ويطورها إن استطاع، ويودعها أمانة للوارثين الجدد.
أمانة الاستخلاف
وإن التخليف الإلهي للإنسان في الأرض يستوجب على المسلم أن يكون عاشقا للحقيقة وحريصاً على العلم وعاملاً وعالماً وماهراً في البحث والتحري بشغف. الملحظ هنا اتقاء المؤمن وحذره من الاتكاء على المصادر الأخرى في الأمور المتعلقة بالنظم العقائدية والفكرية، والموضوعات المرتبطة بتمثيل الكتاب والسنة والرسول ، وطرق بحث وتحليل السير وتاريخ الإسلام، والفن والأدب… والأمور المشابهة… ذلك، بأن الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، واللائكيين (الزمنيين، العلمانيين)، والناظرين إلى الإسلام (أو العارضين له) وكأنه خارجالوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرف بحسن النية وطلب الخير للمسلمين وتمني التقدم لهم. أما العلم والتكنولوجيا، وهما خارج إطار ما ذكرناه، فقد عهدناهما في أخذ وعطاء بين الأمم في الماضي، وستستمر المبادلة فيهما مستقبلاً، وتنتقل أمانة ووديعة في أيادي حائزيها. فالعلوم والتكنولوجيا ليست حكراً لدين أو أمة. لذلك، تستطيع كل أمة سليمة المشاعر والفكر والمعتقدات ومنتصبة على ساقيها بثبات ورسوخ، أن تندف هذه العلوم الصرفة ندف القطن في روحها، فتجعلها صوت قلبها ونَفَسَه، ووسيلةً توصل البشر إلى الله تعالى.
——
1- التوحش من الوحشة على ضد الانس والالفة (المترجم)