مقدمة
إن كل مَن تدبر القرآن الكريم، وتفهم معانيه وأهدافه سوف يظهر له ما يتضمنه هذا الكتاب الحكيم من حكم وأحكام و تشريعات وآداب، ونظم ومبادئ، تنتظم جميعا، لتكون منهجا كاملا متكاملا للحياة الإنسانية السعيدة الراقية الآمنة، حياة مؤسسة على عقيدة راسخة وإيمان قوي بالله عز وجل، منتظمة على طريقه السوي المستقيم، مستهدفة تحقيق معاني الخير والبر والصلاح والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، بقدر ما يكون وقوف المسلمين خاصة والإنساية عامة على ما يحويه القرآن المجيد من إرشاد وهداية، محققين لتعاليمه ومطبقين لهدايته، يكون تقدم الحياة البشرية ورقيها وأمْنها وسعادتها.
وقيمة واحدة من قيم القرآن العظيم من شأنها أن توحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها، وتجعلها ترقى سلم المجد والعزة، وتسلك سبيل التقدم والازدهار، وتحيل الإنسان قوة منتجة بناءة، يكشف كنوز الكون ويسخرها لنفع نفسه ونفع غيره.
مفهوم الإحسان
ومن مبادئ القرآن وقيمه السامية الجليلة : >الإحسان< الذي تكرر ذكره في القرآن المجيد ما يقرب من مائة وأربع وتسعين مرة، وتدور مادته في مختلف مشتقاتها حول معنى الجمال والإتقان والإجادة، تقول : أحسنت الشيء إذا أجدت صنعه وأتقنته، وحسّنت الشيء تحسينا إذا زيّنته وجمّلته، والحسنة : هي النعمة التي ينالها المرء، وتطلق على الخير والطاعة والمعروف. والحسن : حالة حسية أو معنوية جميلة تدعو إلى قبول الشيء، وترغّب النفس فيه، ويكون في الأقوال والأفعال.. كما يطلق الإحسان على مقابلة الخير بأفضل منه، ومقابلة الشر بالعفو والصفح.
فإذا أضيف إلى كل هذه المعاني التي ينبني عنها الإحسان قول الرسول : >الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك<. يصبح أن المحسن هو المراقب لربه، المخلص في عمله، المتقن لصنعته، الباذل للمعروف والخير، لأن الإنسان إذا عبد ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه ينظر إلى الله عز وجل في حال عبادته، مستحضرا لعظمة الله تعالى ومراقبته له، غُرست في قلبه الخشية والهيبة والتعظيم والخوف، وذلك يوجب عليه النصح في العبادة، وبذل الجهد في سبيل تحسينها وإكمالها وإتمامها على الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه.
الإحسان في كتاب الله تعالى
والقرآن الكريم بأسلوبه المعجز وكلامه البليغ، وبيانه الواضح يوضح لنا >الإحسان< كمنهج عمل متكامل، وأسلوب تربوي عظيم من شأنه أن ينشئ الفرد الصالح ويقيم المجتمع القوي السليم، ويخرج الأمة الخيرية المستقيمة.
فقد جاء ذكر الإحسان في القرآن الكريم تارة مقرونا بالإسلام، كما في قوله تعالى :{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون}(البقرة : 112) وقوله : {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى}(النساء : 125).
وتارة مقرونا بالإيمان كقوله تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}(الكهف : 30).
وتارة مقرونا بالإيمان والتقوى كقوله تعالى : {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتّقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين}(المائدة : 93).
وهذا يقرر أن الإحسان ينشأ وينبع من إسلامه الوجه لله تعالى، أي أن يسلم ذاته ونفسه لأوامر الله عز وجل، يمثلها امتثالا واقعيا..
كما يتمثلُّ في ترك المحرمات التي نهى الله عنها، كما قال تعالى : {وذروا ظاهر الإثم وباطنه}(الأنعام : 120). ثم تترقى درجة الإحسان في قلب الإنسان ونفسه، إلى أن تصل إلى مرتبة إكمال جميع المستحبات والمندوبات، والمداومة على كل عمل وقول يحبه الله تعالى ويرضاه، وإتقان كل عمل أسند إلى المرء القيام به.
وهذا ما نستوضحه من آ يات الله عز وجل البينات التي توضح لنا منهج المحسنين مع ربهم وخالقهم، كما في قوله تعالى : {إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم..}(الذاريات : 15- 18). وقوله تعالى : {إنهم كانوا قبل ذلك} أي في الدنيا محسنين ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال عز من قائل : {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}(الذاريات : 17) أي كانوا ينامون القليل من الليل، ويقومون يتهجدون في معظمه.
يقول ابن عباس ] : >ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها شيئا إما من أولها أو من وسطها<.
ويقول الحسن البصري : >كابدوا قيام الليل فما ينامون من الليل إلا أقله، وربما نشطوا فجدوا إلى السحر<.
وقوله تعالى : {وبالأسحار هم يستغفرون} بيان لكونهم مع قلة هجوعهم ونومهم وكثرة صلاتهم وتهجدهم يداومون على الاستغفار وقت السحر، كأنهم اسلفوا ليلهم في اقتراف الجرائم، أو قصروا في طلب مرضاة ربهم وخالقهم. فهم يتطلعون دائما إلى أعلى الدرجات وأسمى المقامات، وأجمل الحالات، فالآيات الكريمة تصور إسحانهم صورة خاشعة رنّانة حسّاسة، فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام، لا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا، فلا يثقلهم المنام، وإنما يحدوهم إلى عمل الصالحات وفعل المكرمات، ما يأملون ويرجون من نعيم ورضوان.
الإحسان بذل الخير وفعل البر :
فالقرآن الكريم يبين لنا أن المحسنين دائما مسارعون إلى بذل الخير والبر والمعروف في حالتي الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، فهم يعفون عمن ظلمهم ويحلمون على من أساء إليهم وآذاهم، فإذا غالبهم الغيظ كتموه وحبسوه وطردوه، فلا يجدون في أنفسهم موجدة لأحد، فقلوبهم مملوءة بالصفاء والرحمة، والشفقة والرغبة في الخير والإحسان والعفو والغفران.
فهم بحق محسنون في معاملة خلق الله وعباده، يعاشرونهم بالمعروف والفضل والإحسان، يقرر ذلك ويوضح هذه الأوصاف ويجليها للناظرين قوله تعالى : {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}(الذاريات : 19) أي جعلوا في أموالهم جزءا معينا متميزاً ليؤدوه إلى الفقير والمحتاج، والمتعفف الذي لا يجد ما يغنيه. يقول تعالى : {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}(آل عمران : 134).
فهم مع أنهم يبذلون العطاء لكل سائل أو محتاج، ويواسون غيرهم في السراء والضراء فهم الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس، ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك ويحسنون إلى غيرهم.
إحسان رسول الله وآل بيته :
ومن الأمثلة التطبيقية التي يسجلها التاريخ الإسلامي عن إمام المحسنين وقدوة المتقين رسولنا محمد ما روي أن زيد بن سعنة جاء ه قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبيه، وأغلظ له في القول ثم قال : إنكم يا بني عبد المطلب مطل -وهو التسويف- في الدّين افنتهره عمر ] وشدد في القول، ورسول الله يبتسم، ثم قال : >أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر : تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي<، ثم قال : >لقد بقي من أجَله ثلاث.. ثم أمر عمر أن يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روعه.
وقد أثر ذلك الموقف الفريد وهذا الحلم الفائق في نفس زيد، فكان سبب إسلامه، وكان يقول : >ما بقي من علامات النبوة شيء إلا عرفتها في محمد إلا اثنين لم أخبرهما، يسبق حِلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حِلما، فاختبرته بهذا فوجدته كما وصف.
وعلى المنهج نفسه من الصفح والحلم والعفو والإحسان سير الأصحاب والأتباع… روى البيهقي أن جارية لعلي بن الحسن ] جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها، فشجه فرفع رأسه فقالت : >إن الله يقول : {والكاظمين الغيض..} فقال لها : كظمت غيظي، قالت : {والعافين عن الناس} قال : قد عفا الله عنك، قالت : {والله يحب المحسنين} قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.
الإحسان صبر على قدر الله
فالمحسنون صابرون على المقدورات راضون بما قضاه الله تعالى وقدره من غير تسخط ولا جزع هم {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} فالإحسان مبدأ عظيم يشمل كل جوانب النشاط الإنساني، لذا أمر الله تعالى به وحث عليه قال تعالى : {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}(البقرة : 195) وقال تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}(النحل : 90).
ومن ثم جاء حديث رسول الله موجبا ومؤكدا للإحسان في كل أنشطة الإنسان فعن أبي يعلى ] عن رسول الله قال : >إن الله كتب الإحسان على كل شيء : فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته< فيا حبذا لو سار المسلمون على منهج الإحسان الذي يرشد إليه القرآن.. إنهم لو فعلوا ذلك لنالوا خيري الدنيا والآخرة ويصلون إلى مركز القيادة والريادة للعالم.