قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة 143).
الشهادة إذن أمانة حملها الله لبعض خاصة عباده على الناس كافة فهي تكليف وتشريف، فمن حيث كونها تكليفا فهي في وسع الإنسان {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}(البقرة : 286)، والتكليف ضروري لتنظيم الحياة وتهذيب الأنفس، ولا بد للتكليف من بيان لأدائه على أحسن وجه {حتى تاتيهم البينة}(البينة: 1). والبيان هو كتاب الله تعالى وسنة نبيه . وكونها تشريف، يجعل الذي كلف بها يعلم أنها فضيلة، لأنها شرف الأنبياء. عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين<(مسلم)، فهي إذن نعمة تتطلب الاشتغال بشكرها حتى لا تنقطع “وإذ تأذن ربك لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}(إبراهيم 7).
الأمة الشاهدة، أمة محمد
عالمية الرسالة- عالمية الشهادة:
اجتمع في هذه الأمة أمة الاصطفاء والخيرية ما تفرق في غيرها، فالرسل بعثوا في جزئيات ولأقوام قراهم. ومحمد رسول جامع بعث لكافة الناس في مشارق الأرض ومغاربها منذ بعثته إلى قيام الساعة، {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}(الأعراف : 158). ولكي يشهد لك تجب طاعته بدون قيد ولا شرط وبدون تهاون ولا تردد، {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا}(النساء 80)، وثبت في الصحيحين أن النبي بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم امتثالا لأمر الله بذلك، وعن أبي هريرة ] عن النبي أنه قال : >والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار<(رواه سلم)، هذا بالنسبة للرسول الخاتم محمد فماذا بالنسبة لرسالة الإسلام؟ رسالة الإسلام هي القرآن الكريم، أنزله الله على نبيه محمد ليبلغه للعالمين ولينذرهم به، {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}(الفرقان : 1) وليخرجهم من الظلمات إلى النور، {ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}(إبراهيم : 1)، يخرجهم من كل الظلمات، فهو شامل جامع، لم يترك قضية إلا بينها، {ما فرطنا في الكتاب من شيء}(الأنعام : 38). فالرسالة إذن جامعة وعلى هذا سيشهد ، {وجئنا بك شهيدا على هؤلاء}(النحل : 79)، {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}(النساء : 41). وبعد ما بلغ الرسالة على تمامها، وفي حجة الوداع، وهو يخطب على أكثر من مائة ألف حاج بعرفة، يشهدهم قائلا: >وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟< قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فيقول : >اللهم فاشهد”، ثلاث مرات<(رواه مسلم). الله أكبر فيا له من تكريم لهذه الأمة، فالرسول الجامع يشهدها عليه (بأنه بلغ، وفي يوم النحر، وهو يخطب في الحجاج قال : >اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مُبَلَّغِ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض<(رواه البخاري). لقد بلغنا لكن هل نكون في مستوى تبليغ سوانا؟
لوازم التأهيل للشهادة :
> الوسطية :
النبي محمد هو آخر رسول أرسل إلى الأرض، {ولكن رسول الله وخاتم النبيئين}(الأحزاب 40)؛ انتفى إذن وجود نبي بعده بصريح العبارة (وخاتم)، وبذلك ينتفي وجود الرسول، لأن الرسالة أخص من النبوة. فعن جابر قال: قال رسول الله : >مثلى ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها، إلا موضع لبنة، فيجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة حيث جئت، فختمت الأنبياء<(رواه مسلم). وإتمام النبوات يشبه إتمام الأخلاق؛ >بعثت لأتمم مكارم الأخلاق<.
فالقرآن ختم نزول التوجيه الإلهي، أي الوحي، والرسول ، بلغه قولا وسلوكا فرسم للأمة الطريق الوسط السوي، الذي يجب أن تسلكه، فقد قرر لها موازينها وقيمها وكل ما يصلح حالها، لتقيم العدل وتزن التصورات وتفصل في الأمور، لأن الله جعلها الأمة الوسط، {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة : 143)، أمة وسطا بمعنى الحسن والأفضل، أو بمعنى الاعتدال والقصد. أمة وسطا في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، فلا تفريط ولا إفراط. أمة وسطا في التفكير والشعور، شعارها: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.
والوسطية تتطلب مركزية الشيء وأجوده {قال أوسطهم: ألم أقل لكم لولا تسبحون} وفي الآية السابقة، جعلت الأمة لتقوم بوظيفة الرسل من حيث تبليغ الرسالة من ناحية، ومن حيث تزكية شهادتهم على أممهم وتختم عليها من ناحية أخرى، فهي إذن أرسلت لغيرها لا لنفسها، وهذا يتطلب أن تكون صالحة مصلحة.
> الصلاح :
والصلاح يقتضي العلم بالله تعالى وبصفاته وباليوم الأخر وبوحدة الرسالات كما جاء في الرسالة الخاتمة، ومعرفة هذا العلم ليس لذاته بل للعمل بمقتضياته، وبروز أثره في النفس والسلوك مع الله ومع الآخرين وهذه السلوكات يتوخى منها أن تكون صحيحة في صورتها العملية، وذلك بالإتيان بما يرضي الله بإقامة النفس على الحق ومعاملة الناس بالحسنى، فإذا تحقق هذا في الفرد فإنه يصبح بمقتضاه عدلا، لأنه يعلم ويخشى، وإذا أضفنا لهذا التصور الصحيح والسلوك الصحيح حسن الالتزام مع الله تعالى ومع رسوله، ومع من أوجب الله طاعتهم بحيث يضع المسلم أحكام الله وشريعة رسوله في أعلى الهرم التنظيمي -الطاعة المطلقة لله ولرسوله- وحسن الالتزام مع عامة الناس في تنظيم علاقات الأفراد والجماعات، التي تقوم على رعي مصالح الأنام، ودفع مفاسدهم؛ فقد يكون المجتمع المسلم أمة عادلة، أي أفرادها عدولا. والعدل مأمور به في كثير من الآيات القرآنية : {قل أمر ربي بالقسط}(الأعراف : 29) وقال : >لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت<. ومن العدل أن تحب الخير والهداية لظالم فتدعوه إلى الحق. قال : >أنصر أخاط ظالما أو مظلوما<.
والصلاح يقتضي أيضا خيرية الأمة أي أن تبلغ درجة الإحسان {إن الله يامر بالعدل والإحسان}(النحل : 90)، لتكون قدوة لغيرها. فالله تعالى أخرج هذه الأمة لتكون رائدة، فلا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها وإنما ينبغي أن تعطي ما لديها وأن يكون لديها دائما ما تعطي، من الاعتقاد الصحيح والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والعلم الصحيح، هذا واجبها الذي تحتمه عليها غاية وجودها. ويجب أن لا ننسى بأن الخيار قليلون وهم يعملون ما لا يعمله الكثيرون، {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم}(البقرة : 246)، {فشربوا منه إلا قليلا منهم}(البقرة : 249). ومع هذه فالصلاح غير كاف ليؤهل الصالح للشهادة على الناس، فيجب على الذي صلح حاله، بمعنى أصبح عدلا خيرا، أن يموم بمسؤولية الإصلاح.
> الإصلاح :
والإصلاح هو المقصد الأسمى الذي من أجله بعث الله جل وعلا الرسل والأنبياء عليهم السلام. ووسيلته هي دعوة الناس إلى الله تعالى، {يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}(الأحزاب : 45- 46)، ومن أجله أخرج الله هذه الأمة وبه جعلت خير أمة، “كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}(آل عمران : 110)، إلا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد له من أخذ الواقع بعين الاعتبار.
فبالنسبة لمجتمع ينتمي إلى الإسلام، يركز المصلح فيه على تقويم الاعوجاج الذي دخل على سلوكات الأمة، وإزالة الشوائب العالقة بأذهان الأفراد، لأن ما يرى من تفريط في المسؤوليات، وانحراف في الأفعال والأقوال ليس أصلا في دين الأمة، ولا طبعا فيها، وأمجاد السلف الصالح خير دليل على ذلك.
أما بالنسبة لمجتمع غير مسلم، فيجب المصلح دعوته إلى الإسلام، فإما بإنقاذه من الهلاك، وإلا على الأقل أن يزيل على عاتقه مسؤولية التبليغ، فإذا تقاعست الأمة عن محاولة إصلاح العالم، كل فرد منها حسب مستواه وتخصصه وقدرته… فلتنتظر الخسران في الدارين، {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران : 104). إذن فوجود جماعة كافية من أفراد الأمة يقومون بعملية الإصلاح، فرض في حق الأمة، ليسقط عن الباقي وإلا فكل واحد مسؤول عن ذلك، قال : >لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت<.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يتماشى مع قدرات الأمة. ففي زمان الضعف، كف الأيدي والصبر هما المطلوبان، >صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة<، والثبات بالحفاظ على الأساسيات، من الواجبات، أي أن تحافظ على صلاح حالها ومقالها بتأدية عباداتها كما أمرت. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بالقلب وباللسان حسب الحالات. وفي زمن القوة والتمكين أن تبلغ الرسالة للعالمين بأي أسلوب شرعي، >من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان<(رواه مسلم).
والإصلاح يتطلب من الأمة المصلحة أن تكون أنموذجا بحالها ومقالها، وبحالها تكون أبلغ، في الامتثال للأوامر والصبر على المشاق والإخلاص لله تعالى، وفي علاقاتها ومعاملاتها وبيعها و… والمثل على ذلك أن شرق العالم الإسلامي وإفريقيا السوداء، لم يصلهما الجيش الإسلامي، وإنما سلوكات التجار وأخلاقهم هي التي جعلت تلك الشعوب تدخل في الإسلام.
ويجب أيضا أن نؤكد أن المصلحين أقلية ـ الصالحون ـ في حديث طويل عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال : >يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول أخرج بعث النار، قال وما بعث النار، قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ..<(رواه البخاري)، يبقى واحد بالألف للجنة، وليسوا كلهم شهودا. فالثبات والصبر حتى ولو بقيت لوحدك تدعو إلى الله “إن إبراهيم كان أمة” ويمثل المصلحون صمام الأمان للإنسانية {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}(هود : 117)، ومن ثمرة الإصلاح إنجاز وعد الله بالعزة والسيادة، وتمكين الدين المرتضى في الأرض {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}(النور 55).
السبيل إلى إعادة إخراج الأمة الشاهدة
طريق واحد لا ثاني له وهوالعودة إلى الله لتستجلب الأمة معيَّتَه ونَصْرَه {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(محمد : 7) والعودة إلى الله تكون بالرجوع إلى كتابه الكريم روح الأمة الذي يحيي القلوب ويزكي الأنفس {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} فهو الكتاب الذي أنزله الله ليبين للناس {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة} كيف يحققون غاية وجودهم التي هي عبادة الله وحده {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وبه حضرت الأمة شاهدة على الدنيا وعمرت الأرض عدلا ورحمة وأمنا وعاش الكل تحت رايته أرغد العيش، فالعودة إلى القرآن سماعا وتلاوة وتدبرا وتطبيقا يجعل الأمة ربانية في علاقتها مع الله ومع نفسها ومع الآخرين، لقد حرص النبي والصحابة الكرام على إسماع القرآن في دعوتهم إلى الله؛ لأنه الأسلوب الناجح في الإصلاح، فلما جاء أبو الوليد عتبة بن ربيعة ليعلم من أمره سمع منه ثم قال له : يا ابن أخي اسمع فقرأ عليه قوله تعالى {بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته..} وتلا سورة النجم على المشركين فخروا ساجدين لما سجد ، ولما قدم مصعب بن عمير المدينة، جاءه أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وهدده كل منهما، فأسمعهما القرآن فأسلما.
والوسائل الأخرى لإعادة إخراج الأمة الشاهدة ما هي إلا مكملات. فالتعليم مثلا الذي هو معمل لتخريج الناس وإنتاجهم في قوالب معينة، يجب إصلاحه على منهج الله،وجعل القراءة باسم الله ولله وإلى الله “إقرأ باسم ربك الذي خلق”. حتى يتخرج منه الربانيون الصادقون المخلصون لله الطائعون لأوامره الجاهزون للشهادة على الناس يشروطها، فإذا تخرج هؤلاء يصبح إعلامنا وحالنا وإدارتنا ومستشفياتنا و… يصبح كل هذا نموذجا تضرب به الأمثال في أقاصي العالم وبذلك تصبح الأمة من جديد شاهدة على غيرها، ويومئذ نفرح بفتح الله ونصره سبحانه وتعالى.