5- المستهزئون بالرسول وكفاية الله أمرهم
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله على أمر الله تعالى صابرا محتسباً مُؤَدِّياً إلى قومه النصيحة، على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء، وكان عظماءُ المستهزئين -كما حدثني يزيدُ بن رُومان(1)، عن عروة بن الزبير(2)-، خمسةَ(3) نفرٍ من قومه، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم وهم :
1) الأسْوَدُ بن المطلب بن أسَد، أبو زَمْعَة، وكان رسول الله -فيما بلغني- قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه به، فقال: >اللَّهُمَّ أعْمِ بَصَرَه وَأثْكِلْهُ وَلَدَه<.
2) الأسْوَد بن عبد يَغُوث بن وَهْب بن عبد مَناف بن زُهرة.
3) الوليدُ بن الـمُغِيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مَخْزوم.
4) العاصُ بن وائل بن هشام السهمي.
5) الحارثُ بن الطّلاطلة.
فلما تمادَوْا في الشر، وأكثروا برسول الله الاستهزاء؛ أنزل الله تعالى عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأعْرِضْ عَنِ الـمُشْرِكِينَ إنَّا كَفَيْنَاكَ الـمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إلاَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(الحجر: 94 – 96).
قال ابن إسحاق بسنده : عن عُرْوة بن الزبير أو غيره من العلماء، أن جبريل أتى رسول الله وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله إلى جنبه، فَمَرَّ به الأسْوَد بن المطلب، فَرَمى في وجهه بِوَرَقةٍ خَضْراء فَعَمِيَ، ومر به الأسْوَدُ بن عبد يَغُوث، فأشار إلى بطنه فاسْتَسْقَى بطنه فمات منه حَبَناً(4).
ومر به الوليدُ بن المغيرة فأشار إلى أثر جُرح بأسفل كَعب رِجله كان أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سَبَلَه(5) وذلك أنه مَرَّ برجل من خُزاعة وهو يَريشُ نَبْلاً له(6) فتعلَّقَ سَهْمٌ من نَبله بإزاره فَخَدَشَ في رجله ذلك الخدْشَ، وليس بشيء، فانْتَقَضَ(7) بهفقتله ومَرَّ به العاصُ بن وائل فأشار إلى أخْمُص رجله، فخرج على حمار له يريد الطائفَ فَرَبَضَ به على شِبْرِقَةٍ(8) فدخلت في أخْمُص رجله شَوْكةٌ فقتلته.
ومَرَّ به الحارثُ بن الطّلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض(9) قَيْحاً فقتله.
وصية الوليد بن المغيرة وقصة أبي أُزَيْهِر الدَّوْسيّ:
قال ابن إسحاق: فلما حضرت الوليدَ الوفاةُ دعا بنيه، وكانوا ثلاثة: هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد؛ فقال لهم :
أي بَنِيَّ، أوصيكم بثلاث فلا تضيعوا فيهن: دمي في خُزاعة فلا تُطِلُّنَّه(10) والله إني لأعلم أنهم منه بُرَآء، ولكني أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم، ورِبَايَ في ثقيف فلا تَدَعُوه حتى تأخذوه، وعُقْري(11) عند أبي أُزَيْهِر الدَّوْسيّ فلا يَفُوتَنَّكم به.
وكان أبو أُزَيْهِر قد زوَّجَهُ بنْتاً له ثم أمسكها عنه فلم يُدْخلها عليه حتى مات، فلما هلك الوليدُ بن المغيرة وَثَبَتْ بنو مَخزوم على خُزاعة يطلبون منهم عَقْل الوليد(12)، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم.
ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أُزَيْهِر وهو بسوق ذي المجاز، وكانت عند أبي سُفْيان بن حرب بنت أبي أُزَيْهِر >عاتكة<، وكان أبو أُزَيْهِر رجلاً شريفاً في قومه، فقتله بِعُقْر الوليد الذي كان عنده لوصية أبيه إياه، وذلك بعد أن هاجر رسول الله إلى المدينة، ومَضَى بَدْرٌ، وأصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين؛ فخرج يزيد بن أبي سُفْيان فجمع بني عبد مناف، -وأبو سُفْيان بذي المجاز- فقال الناس: أُخْفِرَ(13) أبو سُفْيان في صهره فهو ثائر به، فلما سمع أبو سُفْيان بالذي صنع ابنه يزيد -وكان أبو سُفْيان رجلاً حليما مُنْكَراً(14) يحب قومه حبّاً شديداً- انْحَطَّ سريعاً إلى مكة، وخشي أن يكون بين قريش حدَثٌ في أبي أُزَيْهِر، فأتى ابنه وهو في الحديد في قومه، فأخذ الرمح من يده ثم ضرب به على رأسه ضربةً هَدَّه منها، ثم قال له: قَبَّحَكَ الله!! أتريد أن تضرب قريشاً بعضهم ببعض في رجل من دَوْس سنؤتيهم العَقْلَ إن قبلوه، وأطفأ ذلك الأمر .
ولما أسلم أهل الطائف كلم رسولِ الله خالدُ بن الوليد في ربا الوليد الذي كان في ثقيف لما كان أبوه أوصاه به.
قال ابن إسحاق: فذكر لي بعض أهل العلم أن هؤلاء الآيات من تحريم ما بقي من الربا بأيدي الناس نزلن في ذلك من طلب خالد ذلك الربا {يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ}(البقرة : 278) إلى آخر القصة فيها.
المشركون الذين آذوا الرسول في بيته:
قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يُؤذون رسول الله في بيته: أبو لهب، والحكم بن العاص بن أمية، وعُقْبة بن أبي معيط، وعَدِيّ بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي، وكانوا جيرانه، لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، وكان أحدهم -فيما ذكر لي- يطرح عليه رحِم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في بُرْمَته(15) إذا نُصِبَتْ له، حتى اتخذ رسول الله حجراً(16) يستتر به منهم إذا صلى؛ فكان رسول الله إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به رسول الله على العود، فيقف به على بابه ثم يقول: >يابني عَبْدِ مَنَاف، أيُّ جِوارٍ هذا؟< ثم يلقيه في الطريق.
ذ. المفضل فلواتي
——
1- يزيد بن رومان : مولى آل الزبير، روى عن ابن الزبير، وأنس، وعبيد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر وغيرهم. وروى عنه هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر، وأبو حازم سلمة بن دينار وغيرهم، توفي سنة 103هـ، وكان عالما كثير الحديث ثقة.
2- عروة بن الزبير : هو عروة بن الزبير بن العوام، روى عن أبيه وأخيه عبد الله، وأمه أسماء وخالته عائشة، وروى عنه الكثير من الرواة توفي سنة 99 هـ وقيل 101هـ وعمره 67 سنة.
3- كان المستهزئون خمسة نفر، أي العظماء فقط الذين اشتهروا بصفة الاستهزاء وإلا فهم أكثر من خمسة.
4- مات منه حبنا: أي مات منتفخا من داء الاستسقاء وهو داء يجعل الجسد يمسك الماء ولا يخرجه فتمتلئ كل خلايا الجسم بالماء.
5- يجر سبله: يجر ثوبه المسبل أي ثوبه الطويل عن كعبيه يجره خلقه.
6- أي يضع لنبله ريشا والريش يوضع في مؤخر السهم لتسهيل توجيهه وتسريع انطلاقه.
7- انتقض الجرح: تجدد بعدما برئ، أي تعفّن من جديد.
8- أي ركض فأدخله بين أغصان شجرة شبرق وأغصانه تمس الأرض وهو شجر كثير الشوك.
9- فامتخض : تحرك القيح في رأسه، وانتشر.
10- أي لا تدعوه وتتركوه بغير ثأر، وأطل دمه: تركه هدرا.
11- العُقر : مَهْر المرأة إذا وطئت بشُبهة، وهو كذلك دية الفرج المغصوب.
12- أي يطلبون منه أن يؤدوا إليهم ديته.
13- أخفر : غُدر بصهره، أي قُتل بدون حق.
14- منكرا : داهية فطِنا، يقال : نَكِر فلان : جَادَ رأْيُه وفطِن.
15- البرمة: قدر من فخارأو حجر.
16- حجرا: جدارا.