وأنا أطالع كتاب الحكم العطائية الذي قام بشرحه وتحليله الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حفظه الله، استوقفتني هذه الحكمة مليا، وبعد أن قرأت شرح وتحليل الدكتور لها زاد إعجابي بها، لأنها تعبر عما يجب أن يقوم به كل داع إلى الله قبل أن يتصدر المجالس والكراسي، وقبل أن يعتلي المنابر ويتوسط الحلقات حتى وددت لو أن كل واحد منا حفظها ووعاها وطبقها على نفسه، خاصة أننا نعيش في زمان كثر فيه الوعاظ والواعظات، والتكوين هنا وهناك، في زمان أصبح كل من نقر العلم نقراً، يتجه إلى الوعظ أو إلى تعليم كتاب الله دون أن يعمل على دفن نفسه أولا في عالم من التربية والتكوين والتزكية لتصبح ربانية تدعو بالقدوة قبل القولة وبالحال قبل المقال.
جاء في تحليل د. البوطي لهذه الحكمة >أن كلمة الخمول لا تعني هنا الكسل والدعة كما قد يتصور لدى الكثيرين، بل المقصود الابتعاد عن الأضواء وعن أسباب الشهرة وأن يكون الإنسان مجهولا لدى الآخرين لا يعرفه أكثر الناس، أي عليه أن يدفن وجوده مدة من الزمن في أرض الخمول ليرعى ذاته وينضج عقله ويربي نفسه ويصفي سريرته من الشوائب<.
ويقدم لنا بعد ذلك مقارنة رائعة ومنطقية، وذلك في قانون عالم النبات، حيث يقول : إن النواة التي نريد أن نستنبتها إذا ألقيتها على وجه الأرض ظاهرة بين الأتربة والحجارة ستمحق وتموت، والسبيل إلى استنباتها في دفنها في ظلمات التراب وباطن الأرض، وتُترك على هذه الحال مدة، بحيث تتفاعل مع ذاتها وتخرج جذورها تحت الأرض، بعد ذلك تمزق الأتربة التي فوقها، بل تشق الحجارة، وتخرج فروعها وثمارها، إذن فظهور النبات يمر بمرحلتين :
مرحلة التأسيس ثم مرحلة النمو والعطاء.
والقانون الإلهي واحد سواء فيما يتعلق بالنواة والبذور التي تستنبت، أو بالإنسان الذي يريد أن يكون ذاته بالتربية والتزكية بعيداً عن ضجيج الأنشطة الاجتماعية.
ولو أن هذا الإنسان قفز فوق مرحلة التأسيس وبدأ عمله فوق مسرح الشهرة وتحت الأضواء الساطعة فإن مآله الخيبة والفساد، لأنه إن تكلم فلن يصدر عن علم ناضج خالص لوجه الله، وإن هو أراد السير على صراط الله، فلسوف تعوقه نفسه الأمارة بالسوء عن الانضباط بهذا السير، وإذا اتجه إلى الأنشطة الإجتماعية شدته رغائبه إلى التنافس في حُظوظ المراكز والزعامات والتسابق إلى حيث المغانم والأموال لأنه لم يعمل على تكوين وتهذيب وتزكية وتربية نفسه وتنقيتها في عالم الخمول أولا.
وابن عطاء الله رحمه الله تعالى لم يقل هذه الحكمة من فراغ كما قال د. البوطي، بل استنبطها من سيرة الحبيب المصطفى ، حيث إنه كان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد، وكان ذلك هو العمل التأسيسي في رحلة القيام بالمهمة العظمى، وكذا كانتْ سيرة السلف الصالح، لذا فقبل أن يخرج كل واحد منا إلى المجتمع لينهض بواجباته الإجتماعية بين الناس فعليه بهذه الأمور الثلاثة :
1- العلم : فقبل التكلم بين الناس علينا بالعلم الذي يقود إلى الحق، وليس العلم الذي يقود إلى التباري والمباهاة كما قال عمر بن الخطاب ] : >لا تتعلم العلم لثلاث ، ولا تتركه لثلاث، لا تتعلمه لتماري به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به، ولا تتركه لثلاث : حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل منه<.
2- تزكية النفس : فالنفس التي نحملها بين جنباتنا تطمح دائما إلى البحث عن الزعامة والوجاهة وإلى منافسة الأقران ولا سبيل إلى قمعها وترشيدها إلا بالتزكية والتربية.
3- تطهير القلب من الأغيار : والمقصود هنا بالأغيار، حب المال وحب الزعامة وحب الوجاهة وحب الظهور، وحب الزوجة والولد حب من أسماهم الله عز وجل بالأنداد في سورة البقرة آية 164 {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبّا لله}.
إن الوصول إلى هذه الأهداف الثلاثة لا يتم ولن يتم إلا بإخضاع الذات لخلوات جزئية منظمة مبرمجة على حفظ كتاب الله عز وجل، والتدبر في آياته وقراءة السيرة العطرة وكل ما يحتاجه المسلم حتى تتخلص النفس من رعوناتها وأهوائها، وتصطلح مع الروح الهابطة إلى الجسد من الملإ الأعْلى.
إن الإنسان حين يبدأ عمله الإسلامي في المجتمع داعيا واعظاً وفجأة يصبح زعيماً مسؤولاً، أو واعظاً مشهوراً بين الناس على حين غرة، فإنه لاريب سيجند كل أنشطته الدينية، وإمكاناته الحركية لحماية ما قد ناله من شهرة وزعامة ومال، ولن يستفيد بعد ذلك سوى أوزاراً من الرياء والعجب تقوده إلى الشرك الخفي وهو يظن أنه يحسن صنعاً.
لكن إذا أخذ بوصية النبي والتي تعتبر منهجاً للتربية والعلاج >امسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك<. فسوف يتقلص سلطان الدنيا وأهواؤها شيئا فشيئا، ويتبين بعد ذلك أنه لا يوجد أحد من دون الله عز وجل يستأهل أن يكون عمله من أجله لأنه وحده الفعال وهو وحده الضار والنافع<(1).
والناظر في سير الصحابة والسلف الصالح يجد أنهم ما ملأوا الأرض عدلا ولا علماً ولا فقها إلا بعد أن دفنوا وجودهم حقاً في أرض الخمول، حيث أسهروا ليلهم في ساعة صفاء مع ربهم، وفطموا أنفسهم عن ملذات الدنيا، فأصبحت أرواحهم متصلة بالملأ الأعلى غير آبهين بالملذات الترابية ولا بالأضواء الساطعة لهم باليقين أن ما في الدنيا يفنى مهما كثر وما عند الله خير وأبقى.
ألا إن الدعوة إلى الله تعالى ليست مسرحية نتسابق فيها على أدوار البطولة، حتى يُصفَّق لنا بحرارة، أو أن يصبح اسمنا على كل لسان وأن نحصل على أعلى أجر، بل هي أكبر وأجل وأعظم من كل هذا، إنها دعوة ربانية شمولية، على المشتغلين في حقلها أن يدفنوا وجودهم في حقول العلم والمعرفة بعد التعامل مع كتاب الله عز وجل حفظاً وفهماً وتطبيقاً، ومع سنة الحبيب المصطفى علماً وعملا، حتى تصبح القلوب هي التي تخطب وتعظ…. فما يخرج من القلب لا يمكن أن يصل إلا إلى القلب.
فاللهم اجعلنا هادين مهديين لا ضالين مضلين.
ذة. خالة لقمان
—
1- الحكم العطائية شرح وتحليل الدكتور البوطي.