تهافُت التعليل بالضرورة لإباحة الربا
التبرير الثامن : الضرورة
وهو تبرير يرفعه البعض لتبرير الاقتراض بفائدة من المؤسسات الربوية لامتلاك السكن.
وحجتهم القاعدة المشهورة : “الضرورات تبيح المحظورات”، والآيات التي استمدت منها هذه القاعدة قوله تعالى : {من كفر بالله من بعد إيمانِه إلا من أُكره وقَلْبه مطمئن بالإيمان}(النحل : 106).
وإذا أبيح الكفر عند الضرورة فالربا أولى، هكذا قالوا.
وهو تبرير غير صحيح واحتجاج باطل ومردود من وجوه عدة :
> الوجه الأول : أن الضرورات لا تبيح الربا في الإسلام، والآيات الخمس المستدل بها على إباحة المحظورات عند الضرورات هي خاصة بالمأكولات والمشروبات، وفيها وردت، وبسببها نزلت كما يفهم ذلك من لفظها وسياقها، يقول الله تعالى في سورة الأنعام : {وما لَكم ألا تاكُلوا مما ذُكر اسم الله عليه وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}(الآية 120)، وفي سورة الأنعام أيضا {قُل لا أجِد فِيما أُوحي محرّما على طاعِم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإِنّه رجس أو فِسقاً أُهِلّ لغير الله به، فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربّك غفور رحيم}(الآية 146)، وفي سورة البقرة {يا أيّها الذين آمنوا كلُوا من طيّبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كُنْتم إيّاه تعبدون، إنّما حرّم عليكم المَيْتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهِلّ به لغير اللّه، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}(الآية 172)، وفي سورة النحل {فكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيّبا، واشكروا نعْمة الله إن كُنتكم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم}(الآية 115)، وفي سورة المائدة {حُرّمت عليكم الميْتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به والمنخنقة والموقودة والمتردّية والنّطيحة وما أكَلَ السّبع إلا ما ذَكّيْتم وما ذُبِح على النّصُب…. فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}(الآية 4).
هذه هي الآيات ا لمؤسسة لقاعدة : >الضرورات تبيح المحظورات<، وهي كلها واردة في المطعومات والمشروبات، وهي وإن كانت مطلقة أو عامة بظاهرها في المضطر إليه، إلا أنه يجب قصرها عليها وتقييدها بها والمعنى فمن اضطر إلى شيء مما ذكر بدليل السياق وبدليل قوله تعالى : {فمن اضطر في مَخمصةٍ} والقاعدة الأصولية أن المطلق محمول على المقيد إجماعا إذا اتحد حكمهما وسببهما كما هنا. والاضطرار في المخمصة هو الاضطرار إلى ما يَدْفعُ الجوعَ والعَطشَ ويسُدُّ الرمَقَ ويُنْقِذ الحياة من الطعام والشراب، ومن هنا قال العلماء المحققون : >إن الضرورات لا تبيح الربا والعقود الفاسدة<، لأن الضرورة التي تبيح المحظورات هي ضرورة الجوع والمخمصة وقوفا مع قوله تعالى : {فمن اضطر في مخمصة} لا ضرورة الربح، وتوفير المال، وامتلاك الدور والقصور هربا من الكراء المتاح والاستيجار المباح.
وأما إباحة التلفظ بالكفر عند الإكراه فإن الذي أباحه هو الإكراه لا الضرورة والحاجة، وفرق بين الإكراه والضرورة، ولا يصح قياس أحدهما على الآخر، لأن الاكراه ارغام الشخص على الفعل وإن كان يكرهه ولا رغبة له فيه ولا حاجةَ له إليه، والمكرَهُ يفعل الفعل المكرَه عليه قسرًا وتحت التهديد. والمقترض لا يُكْرهُهُ أحدٌ على قبول الفائدة فلا يصح قياس الاحتياج للقرض على الإكراه على الكفر كما ادَّعاه بعضهم، نعم إذا أكْره أحد على دفع الربا أمكن القول بقياس الإكْراه على الربا على الإكْراه على الكفر، وجواز دفعه مع اعتقاد حرمته.
> الوجه الثاني : أن نصوص القرآن والسنة في تحريم الربا جاءت عامة وبألفاظ صريحة في العموم ونص فيه مثل قوله تعالى : {الذين ياكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}(البقرة : 247) وغيرها من الآيات السابقة، ومثل حديث >لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده< وغيره من الأحاديث.
ومن القواعد الأصولية : أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع، وأن العام محمول على عمومه حتى يقوم الدليل الشرعي على خصوصه ولا وجود له هنا، والأصل عَدَمُهُ، وبهذا تشمل آيات الربا وأحاديثه حالةَ الضرورة وحالة الاختيار، كما تشمل الزمنَ الماضي والحاضر والمستقبل، وبذلك تتحقق عمومُ الرسالة وخلودُ الشريعة، ومن هنا كان تحريم الربا تحريما موبَّدا وحكما خالدا مخلَّدا لا سبيل لنسخه أو تقييده بدعوى التجديد في الدين أو الضرورة إليه أو الرحمة والرفق بالضعفاء والمحتاجين.
> الوجه الثالث : أن الربا الذي حرمه الله ونزل القرآن بتحريمه كان يقع في حال الضرورة كما يدل على ذلك :
1- ما سبق نقله عن الجصاص وغيره أن الربا المعروف في الجاهلية والذي كانوا يتعاملون به هو قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة يتراضون عليها، ومعلوم أنه لا يقبل الزيادةَ والقرضَ بفائدة إلا المحتاجُ إليه، ولا يرضى بأخذ ألف عاجلة ليرد بدلها ألفيْن أو ثلاثة مؤجلة إلا المضطرُّ الذي لا يجد من يقرضه بدون زيادة كما جاء في الحديث السابق أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال : لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة، وفي رواية لأن الصدقة تقع في يد الغني والفقير. والقرض لا يقع إلا في يد مَنْ يحتاج.
وقد تكون هذه الحاجة ا لتي تدفع المقترض إلى الاقتراض بفائدة هي الحاجة الى سد جوعته أو اطعام أهله الجائعين أو كسوة عياله العارين، ومع ذلك لم يرخص الله للمقترض في الاقتراض بزيادة لقضاء هذه الحاجة ودفع هذه الضرورة التي اضطرته للاقتراض بالربا. ولُعِن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله وموكله، آخذه ودافعه، المقترض المضطر المحتاج والمقرض المستغل لحاجة المقترض وضرورته، وجعلهما في الاثم واللعن سواء، ولم يعذر المقترض لحاجته ولم تشفع له ضرورته ولم يرحمه أرحم الراحمين ولا رسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين.
2- وكما يدل على ذلك أيضا ما رواه مالك وغيره من أهل العلم عن زيد بن أسلم وآخرين في ربا الدَّين أو ربا النسيئة الذي نزل القرآن بتحريمه، أنه كان يكون للرجل دَيْنٌ على آخَرَ فإذا حَلّ الأجلُ قال الدائن للمدين اتقضي أم تُرْبي؟ فإذا قضاه فذاك وإلا زاد المدين في قدر الدَّين وزاده الدائن في الأجل، وفي رواية فإذا تعذر على المدين القضاءُ زاد في الدَّين وزاده الدائن في الأجل. وفي رواية : >فإذا تعذر على المدين القضاء زاد في الدين وزاده الدائن في الأجل< فنزل القرآن بتحريمه وأوجب إنْظَار المعسر دون زيادة فقال تعالى : {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}(البقرة : 279).
ومعلوم أنه لا يقبل الزيادة في الدَّيْن ليُزاد له في الأجل إلا العاجزُ عن الأداء المضطر للتأخير والزيادة في الأجل، وهو ما تقيده الرواية الثانية >فإذا تعذر على المدين..< وهي حالة ضرورة وخاصيتها.
وإذا كان الربا الذي نزل القرآن بتحريمه هو هذا، أي القرض بزيادة أو التأخير بزيادة وهي حالات ضرورة كانت دلالةُ آيات الربا على تحريم الربا حال الضرورة دلالةً قطعيةً، لأنها صورة سبب النزول، وصور السبب قطعية الدخول في العام ولا تخص باجتهاد كما يقول الأصوليون.
> الوجه الرابع : أن الحكمة من تحريم الربا هو الرفق بالمحتاجين الى القرض والمضطرين إليه ومنع الأغنياء من استغلال حاجتهموضرورتهم ليفرضوا فوائد وزيادات عليهم مقابل إقراضهم أو إنْظَارهم..
وإذا أبيح الربا للضرورة بطلت هذه الحكمة وتمكن الأغنياء من استغلال حاجة المضطرين ولم تبق فائدة في تحريم الربا في القرض وهو خلاف ما قررته الشريعة الاسلامية السَّمحة من تحريم فوائد القرض في كل الحالات.
> الوجه الخامس : أن علة تحريم الربا بصفة عامة والقرض بزيادة بصفة خاصة أنه من أكل أموال الناس بالباطل الـذي حرمه الله تعالى في قوله : {ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل}(البقرة : 187) لأن الزيادة ا لتي يأخذها المقرض من المقترض لا مقابل لها، فهو مثلا يعطي عشرة ليأخذ من المقترض عند الأجل خمسة عشر، فالخمسة الزائدة على عشرته لا مقابل لها يأخذها من المقترض المحتاج ظلما وباطلا.
وهذه العلة موجودة بتمامها في حالة الضرورة كوجودها في حالة الاختيار.
ومن القواعد الأصولية أن العلة يلزم من وجودها وجود الحكم، وهي تقتضي تحريم الربا حال الضرورة لوجود هذه فيها.
وقال جعفر الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس.
فإذا أبيح الربا في القرض للضرورة لم يبق للقرض الحسن أي وجود.
> الوجه السادس : أن الضرورة للقرض تجعله واجبا شرعا كما يقول فقهاؤنا والواجب لا يجوز أخذ الأجر عليه. وقد نص فقهاؤنا على أن المضطر إذا خاف عى نفسه الهلاك يجوز له المقاتلة للحصول على ما اضطر إليه من طعام أو شراب، إذا امتنع من هو مستغن عنه مِنْ بَيْعه له أو إِقْراضه إياه.
> الوجه السابع : على تسليم أن قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” تشمل بعمومها الربا فإن الضرورة المبيحة للمحظورات غير موجودة وغير متحققة وشروطها غير متوفرة في موضوع الاقتراض للسكن، فإن من شروطها :
1- أن تكون واقعة بالفعل يعيشها الإنسان ويعاني منها وواقعا تحت تأثيرها وضغوطها فعلا.
2- أن تبلغ الضرورة بالشخص حدا يخشى على نفسه الهلاك أو شدة الأذى في نفسه أو جسده إذا لم يتناول الحرام المضطر إليه.
3- أن لا يجد ما يسد رمقه وينقذ حياته إلا ذلك الحرام المضطر إليه.
هذه هي الضرورة التي تبيح المحظورات وهذه شروطها.
أما الضرورة المتوقعة والمتخوف من وُقُوعها مستقبلا، والضرورة التي لا يخشى منها الإنسان على نفسه في حياته وجسمه، وإنما يخشى منها على ماله وربحه، والضرورة التي يمكن التغلب عليها وتجاوزها إلى البديل المباح فإن هذه الضرورات كلها لا تبيح محظورا، ولا تحل حراما ولا يرخص لصاحبها في أكل الميتة وتناول الحرام كما تدل على ذلك الأحاديث النبوية ونصوص علماء الأمة.
وإذا كانت الضرورة لا تبيح الميتة إلا إذا خاف المضطر على نفسه الهلاك أو شدة الأذى فإن الربا أحْرَى بذلك أن لا تحله الضرورة إلا إذا خاف على نفسه الهلاك لأن الربا أشد تحريما من الميتة والخمر والخنزير، فكيف بعد هذا يصح القول بإباحة الربا لبناء الدور والقصور وتوفير المال والتخلص من الكراء.
-يتبع-