التبرير التاسع :
الأخذ بمذهب أبي حنيفة في إباحة الربا في دار الحرب، وبفتوى المجلس الأوربي الذي أباح للأقليات المسلمة في أوربا شراء السكن عن طريق القروض البنكية الربوية وإلحاق المغاربة بالجالية في أوربا وإعطائها حكمها لعدم وجود الأبناك الإسلامية بالمغرب
وهو تبرير واه وغير صحيح. وهو تبرير مركب من مقدمات كلها مردودة مخالفة للكتاب والسنة والقواعد الاصولية.
وأول هذه المقدمات التي بُني عليها هذا التبرير هو ما نسب لمذهب الحنفية من إباحة الربا في دار الحرب.
وهو مذهب ضعيف جدا مخالف للكتاب والسنة وقول جمهور الأمة.
أما وجه ضعفه فيتمثل في ضعف مستنده ودليله الذي بني عليه فهو مبني أولا على حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : >لا ربا بين أهل الحرب<(الام 4/378) وفي رواية >لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب<(المغني 4/39).
وهو حديث لا يصح الاستدلال به ولا تقوم به حجة لأمور عدة :
1- هو حديث مرسل.
2- هو من رواية مجهولين.
ولذا قال فيه الشافعي رحمه الله ليس بثابت. وقال فيه ابن قدامة في المغني : >خبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به<(المغني 4/39).
3-وهو حديث مجمل محتمل لعدة معاني، يحتمل أن يكون معناه النهي عن الربا بين المسلمين وأهل الحرب على حد قوله تعالى : {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، أي لا ربا مشروع بين المسلمين
ويحتمل أن يكون معناه نفي تحريم الربا أي لا ربا ممنوع.
ومن القواعد الأصولية أن المجمل لا تقوم به حجة قبل بيانه، وأن ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال.
ثم هو مبني ثانيا على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة وأن أحكام المسلمين لا تجري على أهل الحرب. يقول الشافعي في كتاب الام : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو أن مسلما دخل أرض الحرب بأمان، فباعهم الدرهم بالدرهمين لم يكن بذلك يأمن، لأن احكام المسلمين لا تجري عليهم، فبأي وجه أخذ أموالهم برضاً منهم فهو جائز (الأم 378/4). وهو أيضاًرأي ضعيف عند الأصوليين. والمشهور عندهم أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يجب عليهم ما يجب على المسلمين. ويحرم عليهم ما يحرم على المسلمين.
وأما وجه مخالفته للكتاب فإن هناك عدة آيات تدل على تحريم الربا في دار الحرب.
الآية الأولى قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِي من الرِّبا إن كنتم مومنين، فإن لم تَفْعَلُوا فاذَنُوا بحرب من الله ورسوله، وإن تُبْتُمْ فلكُمْ رُؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تظلمون}(البقرة).
هذه الآية كما قال المفسرون نزلت في ربا كان لثقيف على بعض أهل مكة من أيام الجاهلية قبل فتح مكة، طالبوهم به بعد فتح مكة وبعد إسلا مهم، فنزلت هذه الآية، وهي نص صريح في تحريم الربا في دار الحرب بين أهل الحرب، والحجة فيها من وجهين :
1- في قوله : {وذروا ما بَقِيَ من الربا} فإن هذا تحريم لما لم يقبضوه من الربا وإيجاب لتركه. ولو كان الربا مباحا في دار الحرب لما أمرهم بتركه. ولما هددهم بحرب من الله ورسوله إذا لم يتركوه، ولأذن لهم في قبضه وعفا لهم عنه كما عفا لهم عما قبضوه قبل تحريمه في قوله : {فمن جاءَهُ موعظةٌ من ربِّه فانْتَهَى فَلَهُ ما سَلَف}.
2- في قوله : {فإن تُبْتُم فلكُمْ رؤوسُ أموالكم لا تظلِمُون ولا تظلمون} هكذا بصيغة الحَصْر المستفاد من تقديم الخبر على المبتدأ، {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُم}. أي ليس لكم إلا رؤوس أموالكم. ولو كان الربا مشروعا في دار الحرب بين أهل الحرب لما منعهم الله من أخذ ما عقدوه في دار الحرب قبل إسلامهم، ولما اعتبر أخذه ظلما كما يفيده قوله تعالى : {لاتَظْلِمُون ولا تُظْلَمُون} بأخذ الزيادة على رؤوس أموالكم.
الآية الثانية قوله تعالى : {الذين يأكُلون الرِّبا لا يقومُون إلا كما يقُومُ الذي يتخَبَّطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا}(البقرة).
والحجة فيها أيضا من وجهين :
1- في قوله الذين يأكلون، هكذا بصيغة العموم الذين يأكلون، الشاملة للمسلمين وغير المسلمين ومن القواعد الأصولية أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأمكنة والبقاع. وبذلك تشمل الآية المسلمين وغير المسلمين في دار الحرب ودار الإسلام، الجميع يحرم عليهم الربا.
كما أن من القواعد أيضا أن العام محمول على عمومه حتى يرد الدليل على تخصيصه، ولا دليل هنا، والحديث السابق لا ربا بين أهل الحرب لا يصح تخصيص الآية به لعدم صحته ولاحتماله.
2- في قوله : {ذلك بأنهم قَالُوا إنَّما البيْعُ مِثْل الربا}. فإنه لا شك أن الذين قالوا هذه المقولة هم المشركون قالوها وهم في دار الحرب ورد الله عليهم بقوله : {وأَحَلّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا} فدل ذلك على أن الربا حرام على ا لمشركين في دار الحرب كحرمته على المسلمين في دار الاسلام. لأنه لو كان الربا مباحا لأهل الحرب في دار الحرب لما استنكروا تحريمه : {بقولهم إنما البيعُ مثلُ الربا} ولما رد عليهم الله تعالى بقوله : {وأحل الله البيع وحرم الربا} ولأمكن أن يقال لهم : لم أحرمْهُ عليكُمْ حتى تَسْتَنْكروا تحريمه.
الآية الثالثة قوله تعالى في موضوع الربا بين اليهود وأكلهم الربا وقد نهوا عنه، وهو دليل آخر على تحريم الربا يبن اليهود وهي عامة سواء كانوا في دار الحرب أو دار الاسلام.
وأما وجه مخالفته للسنة النبوية الصحيحة فإن هناك أحاديث كثيرة تدل على تحريم الربا في دار الحرب.
نقتصر منها على الأحاديث التالية :
الحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : >ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوعٌ لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون<(رواه أبو داود).
وفي رواية أنه قال : ألا أن كل ربا موضوع، وإن أول ربا أضعه ربانا : ربا عباس ابن عبد المطلب فهو موضوع كله.
وهو نص صريح في منع الربا في بلاد الحرب، لأن ربا الجاهلية بصفة عامة وربا العباس بصفة خاصة كان في دار الحرب قبل فتح مكة وقبل اسلام عباس، ووضعه دليل على منعه وتحريمه وتحريم اخذه.
الحديث الثاني حديث الأوزاعي، قــال : >كان المسلم يبايعُ الكافر على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستحل ذلك<(الام 4) وهو نص صريح في منع الربا بين المسلم والكافر.
الحديث الثالث ما رواه مسلم وغيره عن فضالة بن عبيد قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلميوم خيبر نبايع اليهود الأوقية من الذهب بالدينارين والثلاثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >لا تبيعوا الذهب بالذهب الا وزنا بوزن<.
وكانت خيبر دار حرب قال الشافعي لم يكن فيها مسلم واحد وما صالح إلا اليهود وهم على دينهم وإن ما حول خيبر كله دار حرب.(الام 4/354).
وهو أيضا حديث نص صريح في منع التعامل بالربا بين المسلم والكافر.
الحديث الرابع حديث >لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه<.
وهو حديث عام في الأشخاص. وهو يستلزم عموم الأمكنة والبقاع كما يقول الأصوليون وهو مقتضى عموم الرسالة إلى الناس كافة. ومن هنا.
قال كافة العلماء الحلال في بلاد الاسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في بلاد الاسلام حرام في بلاد الكفر وهو مقتضى القياس الصحيح.
ومن هنا أيضا خالف أبو يوسف وكثير من الحنفية إمامهم، وقال أبو يوسف معترفا بخطإ شيخه وصواب مذهب الجمهور : القول ما قال الاوزاعي، لا يحل هذا ولا يجوز وقد بلغتنا الآثار التي ذكر الأوزاعي في الربا. (الام 4/379).
المقدمة الثانية التي بني عليها التبرير السابق تنطلق من تصور أن أبا حنيفة يجيز الربا في دار الحرب مطلقا سواء دفع الربا المسلم للكافر أو العكس. وهوسوء فهم لقول أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة إنما يجيز الربا في دار الحرب إذا كان المسلم هو الذي يأخذه من الحربيِّ أما إذا كان المسلم هو الذي يدفع الربا للحربيِّ فإنه لا يجوز عنده، هذا ما نقله عنه أهل العلم، الشافعي في الام وابن قدامة في المغني.
وهو الذي يدل عليه تعليلُه الجوازَ بأن مال الحربيِّ مباح فبأيِّ وجْهٍ أخذه المسلمُ جازَ، فإذا أعطاه برضاه لم يكن في ذلك أي محظور.
وبهذا يتبين فساد الاستدلال بقول أبي حنيفة على جواز اقتراض المسلمين في أوربا من البنك بفوائد. لأن المسلمين في أوربا هم الذين يدفعون الفوائد الربوية لغير المسلمين. الأبناك الأوربية. وأبو حنيفة لا يجيز للمسلم أن يعطي الربا للكافر. كما لا يجيزه غيره من فقهاء الاسلام لانه داخل دخولا أوليًّا وبالاجماع في عموم حديث >لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه<.
ولأنه يدعم اقتصادهم ويقوي شوكتهم.
المقدمة الثالثة التي بني عليها هذا التبرير هي تنزيل قول أبي حنيفة في الربا بدار الحرب على الأقلية المسلمة بأوربا. وهو تنزيل غير دقيق ولا صحيح ومردود من وجهين.
1- أن أوربا ليست دار حرب، فالجالية المقيمة فيها دخلتها بجوازات سفر وتأشيرات دخول وتحمل بطاقات إقامة، والدول الأوربية المضيفة تربطها بدول الجالية علاقة دبلماسية عادية، واعترافات متبادلة، ومعاهدات سلام شاملة ودائمة، وهذه الإجراءات كلها تنفي عن أوربا صفة دار الحرب، وابو حنيفة لا يجيز الربا في غير دار الحرب بين المسلم والكافر مطلقا دفعه الكافر للمسلم أو العكس.
2- أن الأقلية المسلمة في أوربا هي التي تدفع الربا -الفوائد- لغير المسلمين -الأبناك الأجنبية-، وكلها مملوكة لغير المسلمين، وهذا لا يجيزه أبو حنيفة لا في دار الحرب ولا في دار الاسلام. فالاستناد إلى قوله والتلويح بمذهبه في الإفتاء بإباحة الاقتراض بفوائد للجالية المسلمة بأوربا قصد شراء المساكين تحميل لابي حنيفة ما لم يقله، وإساءة تطبيق لقوله على الواقعة محل الفتوى، وهو عمل مرفوض وغير مقبول وعَارٍ عن الصحة.
المقدمة الرابعة إلحاق المغاربة بالجالية المسلمة في أوربا وإعطاؤها حكمها في جواز الاقتراض بفوائد لشراء السكن.
وهذه المقدمة أكثر المقدمات فسادا ونشازا وأبعدها عن الصواب.
أولا : لأن المغرب بلد إسلامي بشعبه ونظامه، فالتسوية بينه وبين أوربا وإعطاء المغاربة حكم الجالية المسلمة في أوربا ومعاملتها معاملة الأقلية في الاقتراض بفائدة إساءة بالغة للمغرب والمغاربة جميعا، واجتهاد غير موفق وغير حكيم وغير مؤسس علميا فإن وجود البنوك الإسلامية وعدم وجودها ا لذي أسست عليه هذه الفتوى ليس هو المقياس الشرعي في التفريق بين دار الاسلام ودار الحرب، فقد عاشت البلاد الإسلامية قرونا وقرونا لا تعرف البنوك أصلالا إسلامية ولا غيرها، فهل كانت هذه البلاد غير إسلامية ودار حرب؟ لعدم وجود البنوك الإسلامية فيها؟.
وثانيا : فإن أبا حنيفة كما رأينا لا يجيز للمسلم أن يدفع الربا لغير المسلمين في دار الحرب أو دار الإسلام. والمغاربة المقترضون للسكن يؤدون الفوائد الربوية للبنوك كليا أو جزئيا لغير المسلمين.
وثالثا : فإن أبا حنيفة يؤسس رأيه على الضرورة وعدم وجود القرض الحسن كما رأيناه سابقا.
التبرير العاشر :
الادعاء أن في القرض بفائدة رفعا للحرج عن المسلمين وتيسيرا عليهم في معاملتهم ونفعا مؤكدا لهم.
وهو تبرير كسابقيه غير صحيح ومردود من وجوه عدة.
أولا : أنه اجتهاد في محلِّ النص مخالف للسنة والإجماع الصريح على تحريم القرض بفائدة واشتراط الزيادة في السلف. روى مالك وغيره عن أبن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار لا فَضْلَ بينهما<، وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال : >من أسلف سلفا فلا يشترط على صاحبه غير قضائه<(رواه الدارقطني).
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قَبْضَةً من علف. كما قال ابن مسعود، أو حبةً واحدة. 3/157.
ثانيا : أن تبرير الجواز برفع الحرج والتيسير يؤدي إلى إباحة الربا والاقتراض بفائدة في كل الحالات لأن كل قرض يرفع الحرج عن المقترض وييسر عليه الأمر في معاملاته، وهذه طبيعة القرض بفائدة منذ كان، ومن أجل ذلك يقبل المقترض دفع الفائدة، ولولا ذلك لما قبل الزيادة ورضي برد أكثر مما اقترض.
ولا شك أن إباحة القرض بفائدة باطل فما يؤدي إليه من التعليل والتبرير باطل أيضا.
ثالثا : إن هذه المصلحة الملوح بها رفع الحرج والتيسير والمنفعة هو من المصالح الملغاة التي قام الدليل على إلغائها وعدم اعتبارها حين حرم الله ورسوله القرض بفائدة ولم يلتفت إلى ما فيه من رفع الحرج والتيسير والمنفعة. ومن القواعد الأصولية أن المصالح الملغاة لا يجوز الأخذ بها ولا اعتبارها أو مراعاتها في استنباط الأحكام وتعليلها لأن ذلك يشكل نوعا من المحادة لله ورسوله أن يلغي الله ورسوله وصفاً ثم يأتي الانسان ويعتبره ويقيم عليه شرعا.
رابعا : أن هذه المصلحة معارضة بما في الربا من المفاسد الاقتصادية والاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى. ومن القواعد الأصولية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
>وخامسا : أن الأمر بعكس ما يدعى من رفع الحرج والتيسير في الاقتراض بفائدة، فالقرض بفائدة هو نفس الحرج وعين التعسير وأن ما يتوهم فيه من النفع ورفع الحرج سرعان ما يتحول إلى أشد الحرج وأعسر العسر عندما يصير الألف آلافا، والمليون ملايين، أو كما قال تعالى : {أضعافا مضاعفة} أو تباع أملاكه، أو يودع السجن. ومن شك في ذلك فليسأل ضحايا القروض الربوية عن أموالهم وثرواتهم.
والخلاصة أن الإفتاء بإباحة الفوائد البنكية أخذاً أو عطاء وهو اجتهاد غير موفق، وإساءة للشريعة الاسلامية وافتراء عليها إن لم يكن محادة لها واعتراضا عليها.
كما أنه خدمة جليلة للبنوك الربوية لا تقدر بثمن طالما انتظرتها وتمنتها، فهي من جهة تهدم الحاجز الديني الذي أقامه الاسلام في وجهها وظل دائما يحول بين المسلمين وبين البنوك الربوية يحميهم من جَشَعها واستغلالها.
ومن جهة أخرى هي تجنيد للأمة وتعبئتها لخدمة الرأس المال الامبريالي بإمداد بنوكه بالسيولة النقدية الكافية، لتوسيع نشاطها، وترسيخ نفوذها، واحتكارها، ثم اقتراضها منها ثانية بفوائد ثابتة. وبذلك تأكل أرباح المدخرين وتستنزف جهود المستثمرين المقترضين وتستبيح أموال المسلمين بفتاوى المسلمين وإنا لله وإنا إليه راجعون.
بارك الله فيكم