إن هذا العالم يجرب أن يقنع نفسه بالمنجزات العلمية والتكنولوجية هنا وهناك، وان يُسرّي عن غمه بالثروة والراحة حيناً بعد حين. لكن الحقُّ انه لا يمنح سعادة ثابتة ولا يستجيب لميول الأبدية عند الإنسان. ولذلك، ما من شئ يتخذه دواء وعلاجاً، إلا ويزيد في قتام أفق الأمل الإنساني ويلحق بؤساً ببؤسه الروحي.
لندع هذا العالم متبختراً بالعلم والتكنولوجيا إزاء الفراغ والغثيان الذي أوجده في الحياة الاجتماعية بنتيجة الخطأ العظيم باعتبار نقطة انطلاقه، وسالياً ولاهياً باللذائذ والأذواق، أو متطلعاً ببصره إلى أعماق الفضاء في افتقاد الروح والمعنى الذي ضيعه عن قلبه، هادراً العمر خلف ضالته في وديان غير الوديان! فنحن نعيش منذ جيلين حَرّ سرور العودة إلى روحنا الذاتية بوتيرة أسرع سيراً وأدق منهجاً مما شهدناه في الماضي. فإن إنساننا الذي اعتاد حتى الآن أن يستغيث بالمادة والماكنة ويقيس كل شيء بالمعايير الجسمانية، استيقظ -وإن بغير تمام الوعي- بالصفعات المتوالية للطواطم التي استعبدته منذ قرنين عبودية لا ترضى له عتقا، فخالجه شعور بأنه ضحية في معبر تحولٍ تاريخي… فعلم أن عليه أن يملأ الفراغ المهول بين واقعه وذاته بالهمة والإخلاص والدموع والشعور بالمحاسبة، وزج نفسه في المسيرة بذخيرةالعزم والتوكل والثبات. ولن ينتهي الترحال وان انتهت السبل وانقطعت، بعدما قال: “السياحة يارسول الله!” فالمسير الآن إلى الآباد!. وإن مصدر قوة روحه اللازم الذي لا فكاك منه في سبيل: اكتشاف حقيقة الإيمان من جديد، واستشعاره في وجدانه، وتربية إرادته بالعبودية لله، ثم دوام انفتاحه على ميول الخير، والإحساس بحقيقة: “لي مع الله وقت وحال” بتعميق شعور الإحسان يوماً بعد يوم، ثم الارتباط الدائم “بالأخرويات” وامتلاك آفاقٍ ميتافيزيقية رحيبة. فإن أفلحنا في التزود بمثل هذه الذخائر المعنوية، فلابد أن تُهرع إلى الحياة، مع هواتف الربيع عند حلول الموسم، تلك البذور المنثورة بنشوة العبادة في أرجاء الأرض كلها، وتحيي مواسم ورد عديدة دفعة واحدة في مجتمع المغمومين.
إن من أجدى الأمور في بناء الجيل الحاضر هو تيسير مجيئهم ورواحهم بين عوالمهم الذاتية وبين الوجود بتحفيز عزم التفكر المنظم فيهم، وتحبيب الإيمان والتعلم والتمحيص والتفكير، بتدريبهم على مطالعة الآفاق والأنفس ككتاب مفتوح. فسيحل محل رسالة “التكون من جديد” أن نقدم إلى آفاق مداركهم وعقولهم تلك الملاحظة المذكورة آنفاً بوسائل الصوت والقول والصور، وأن نحقق انتقالهم إلى الاتصال بعوالم أرحب وأوسع بإنقاذهم من الحبس الضيق للبدن والجسمانية… ثم إزالة الكدر والقسوة من أرواحهم، وعرض أعز آمال طبيعتهم الإنسانية دلالاً وأعظمها جمالاً وفتونا على آفاق قلوبهم المشتاقة إلى ما بعد الآفاق البشرية. وبدهي أن الأرواح التي لم تكتسب خفة بالتصفية بالايمان والمعرفة والمحبة غير قادرة أبداً على التحليق في سماء ما بعد الأفق. بل دع التحليق في سماء ما بعد الأفق، فتلك الأرواح الجائعة لا تنفك عن التلوث بالرغبات الدنيوية… فتمتلئ قلوبهم وتطفح بالأحقاد والكره… وتهيمن حركة أنفسهم على أنظمة أرواحهم… ولا يزيدون على الأكل والشرب والنوم والجلوس والقيام، فيغدون عبيداً للبدن يأبون الانعتاق!
إن المحبة هي الحقيقة الفريدة التي يمنحها الإيمان والمعرفة وتعلق القلب بالله، لروح الإنسان. أما ما ينتزعه منها فهو الحقد والكره والهوى… فإن معاني الإيمان والمعرفة والمحبة توحد بين الكون والإنسان… وفي الوقت عينه تنجيه من عذاب الكثرة وآلامها، فتذيب وحدته ووحشته في عالمه الذاتي في إكسير “معية” الحق تعالى، فتقدم إليه الحياة التي يحياها في تذوق يحسوها كأساً فكأسا!
فالأجيال المنطلقة إلى الغد، المجهَّزة بهذا الجهاز، والمزودة بهذا الزاد، من اجل الارتقاء بالنوع البشري كله إلى الكمالات الإنسانية، تنتشر وتهاجر إلى جهات الأرض الأربعة بعشق وطيد وشوق رحيب، ومن غير الانسياق لمكسب أو ربح. ومع غلق منافذ الشهرة والحظوظ غلقاً محكماً، ستتحمل أقسى الأحوال، وتنهض بأثقل الأعمال، ثم تغادر ولا تُلْفت جِيداً إلى الخلف ولا تعبأ بحمد أو إطراء. هؤلاء، أينما حلوا، سيصبغون بألوان الاحترام والخشية الطافحة على تصرفاتهم كل عين، وكل قلب، حتى إن لم يتفوهوا بكلمة عن الدين، وان لم يلفظوا بقول عن التدين… وسينفتح كل من يتصل بهم، وفي ظلهم، على آفاق “المعنى” الرحبة والغنية، بدلاً عن حقائق المادة القصيرة بعداً والنسبية حالاً، فيبلغون إلى سعة تتعدى الخيال في الدنيا نفسها، ويتولون “سلطنة” تستعصي على الوصف بالكلام.