إن التمثيل الرفيع للإسلام عنصراً للتوازن قروناً طويلة في قارات عديدة، هو عمق فريد له مزاياه الذاتية….
وما عرفه التاريخ من السمو إلى القمم والذرى لم يحصل كله مرة واحدة في العصر الواحد. بل ما فتئت القمم والذرى تبدل مواقعها مع السهول والسهوب أو شواطئ البحار، والأعماق السحيقة مع الجبال والتلال، وكما هو في فيزيائية الأرض . فالذين ظهروا على مسرح التاريخ، تفتتوا واندثروا واحداً تلو الآخر، ثم تبعهم الذين جاؤا من بعدهم في التكرار الدائم للتاريخ… والزمان في خضم سيلانه يهدي باقات زهور الإقبال لطائفة، ويطبع أختام الأدبار على طائفة غيرها. فربما قفزت أمم من ذروة إلى ذروة، وربما عجزت أمم أخرى من دس رؤوسها في حفرة تحميها، وقد عاشت كلها في عصر وزمان واحد. ولذلك لا تُعَدّ القرون الوسطى قرونا مظلمة للأمم جمعاء، كما لا يُعدّ عصر التكنولوجيا والعلوم الذي نحن فيه نوراً وضياء للمجتمعات كلها.
الدولاب الدائر الدائم لتكرر التاريخ لم يفتر ولم ينِ عن الدوران على غرار واحد من الأشباه وبالمقاييس ذاتها. فظهر التصاعد إلى الذرى هنا أو هناك، وفي عصر أو آخر، لكن لم يحصل السموق أو الهبوط أبداً في قارة بذاتها وفي عصر بعينه بصورة عامة وشاملة. وكذلك هو الحال الذي نحن فيه اليوم أيضاً. فعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين، ترى شعوبا في بلاد من الأرض يسابقون العصر ويسبقون غيرهم بأشواط تذهل العقول، فيطؤون بقدمٍ القَمَرَ، وبأخرى تابعاً دوّاراً غيره… وبلاداً من الأرض خاب جدها وفألها لا زالت في الظلام، تئن وجعاً في قبضة بداوة وبؤس موروث من ألف سنة. ولن يتغير هذا الحال في الزمن القابل. فمهما انتشرت الحضارات في الأرض، ومهما تطورت التكنولوجيا، فسوف تعمر وترتقي أرجاء بهجرة العقول إليها، وتتزعزع أرجاء بفرار العقول منها. وتبقى أرجاء مركزا في التوازن الدولي، فتتدخل في كل شأن من شؤون البشر وفي كل شئ، وتتعرض أرجاء إلى المداخلة في شؤونها فتهيم على وجهها.
وما من سبب يدعو إلى الشك في أن إنساننا، والأجيال الفتية منه خاصة، سيكون فكراً متحكماً في سنوات الألفية الثالثة، وفي القابل القريب، إن لم تعصف أعاصير ذارية، وما لم تُبَدَّد المكتسبات المتراكمة حتى الآن بأي وسيلة أو سبب. فإن أجيال اليوم السائرة في الطريق، المشدودة بالتوتر الميتافيزيقي الكامل استعداداً للثأر من الغبن والقهر والظلم الذي أصابها منذ قرون، يبشِّر من الآن ببشائر مهمة عما سيتحقق من تجديدات أساسية في جميع الشرائح والهياكل الاجتماعية في مداخل الألفية الثالثة. وحينما يحلّ الموسم، سيمنح الإيمان والعزم والثبات وعشق الحقيقة والفكر المنهجي ثماره فنعيش “حَيَواتٍ بعد الموت” عديدةً تحتضن وحدات الحياة كافة.
في زماننا، وإلى حدٍما، سوف يرسم فكرُ الإنسان المعاصر ومَبْلَغُه في الثقافة وأعماقُه الإنسانية ورحابه الميتافيزيقية، ملامحَ هذا “الانبعاث بعد الموت” القديم قدم التاريخ البشري وقدره الوضيء السعيد. لقد وجد العصرُ نَفْسَه، حتى بلوغه أعتاب القرن الواحد والعشرين، على سطح مُنحدرٍ من استمرار الرهق والاضطراب والقلق والسقوط. ولئن ساق الحال بعضهم إلى اليأس والانكسار، فقد أيقظ في الذين لم يستسلموا تماماً للظلمات، الغيرة “الملية” ومشاعر الإخلاص، بقدر حرية وجدانهم وصفاء أفكارهم… وإذ أيقظها فيهم، صار وسيلة لنضوج قابليات كثيرة تعدل الدهاء عظمة. وكان له وقع وأثر -كنفخ الصور- في العالم الثالث خاصة، ظهر في حركات إحياءٍ متتابعةٍ. فهذا العصر العفريت الذي كان محضنا لمفاسد لم يُرَ مثلُها حتى الآن كان في نفس الوقت لأمتنا وأمثالها من الأمم منطلقا للارتقاء العمودي وميناء للإبحار نحو آفاق البعث والنهوض.
وما ينبغي أن نعمله اليوم هو أن نهرع إلى موقعنا في التوازن الدولي بالشعور الجاد بالمسؤولية وبهويتنا الذاتية ومن غير هدر للزمن. فإن تَلَكَّأنا في تعيين هذا الهدف، فقد نعجز عن إدراك الغد، بله التقدم والتطور! فأمامنا اليوم أحد خيارين: إما الكفاح المصيري في الهمة والإحياء… وإما الاستمتاع بالراحة والاسترخاء والتسليم للموت الأبدي.
القرآن الكريم يمدنا بمدد تجديد الذات والحفاظ على جدتنا الذاتية بالعرض المتكرر لقضية أن نكون أو لا نكون! {إن يَشَأ يُذهبكم وَيأتِ بخلق جَديد}(إبراهيم: 14) {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}(فاطر: 16- 17) {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}(محمد: 38) وآيات كثيرة أخرى شرّفتْنا بالنـزول، نكتفي بإيراد هذه النماذج منها للإيفاء بالمقصود.
ومن المحتمل بقوة أن الْمَعْنِيِّينَ اليوم بالذهاب والاستبدال في الآيات الكريمة هم الأرواح الميتة وسكان العالم الثالث الذين لم يجددوا أنفسهم وفشلوا في الحفاظ على جِدَّتهم وفرَّطوا في حق إيمانهم وتفحمت عوالمهم الداخلية (مع حفظ معنى إيمانهم بالله تعالى مصانا). أما الآتون من بعدهم، فالمحتمل انهم الجيل الجديد وجيش القدسيين جميعاً، الذين أتموا التحفز والتوتر الميتافيزيقي بطول الشحذ والحد منذ قرون في دنيا المحزونين والمغمومين، والمرشحون للارتقاء بإنساننا المستصغر والمستهان به إلى ذروة قيمٍ فوق القيم.
وما فعله الغرب حتى اليوم هو إهمال قيمه الدينية ووصايا حضرة المسيح \، إذ شنوا الحروب في القارات وأشاعوا الرق والاستغلال أينما حلوا… فلطخوا وجه العالم بالسواد! فعالم الغرب الآن يحلم بالكوابيس تحت أنقاض الدنيا المعنوية التي هدها بنفسه وجعلها خرائب في قلوب البشر، ويسقط في الحيرة والقلق في كل مكان إزاء العقل السليم والفكر الحر… والأنكى للجرح، أن هذا العالم بائس لا حيلة له، ومهزوز، ومرتعش هلعاً خشية صفعات الرأي العام الذاتي المتوقعة لأنه لا يدري عن جزمٍ أين الداء وفيم الخطأ؟! لكنه – إذ يئن في شدة البؤس- لا يعيد النظر في نفسه، بل يكافح في التدافع ليصرف البشر عن متاهات اليوم بدفعهم إلى الترف والسفه واللذائذ الجسمانية.
محمد فتح الله كولن