يؤول لفظ النصر من حيث جذره اللغوي إلى “أصل صحيح يدل على إتيان خير وإيتائه” كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة. ويوشك أن تنحصر تجليات هذا المعنى في غالب استعمالات اللفظ في إفادة الإعانة. وربما اختصت بأتمها وأحسنها. قال في (التاج) : “النصرة حسن المعونة”.
ولعل أصل مفهوم النصر في اصطلاح القرآن جَارٍ على هذا المعنى، لولا أن صوره تختلف بحسب ما يسند إليه اللفظ.
فالنصر إذا ما أسند إلى الله سبحانه كان موجها إلى رسله وأتباع رسله خاصة {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا}. وذلك بتهييء الأسباب المعتادة وغير المعتادة من الخوارق عونا لهم على التمكين من أعدائهم حتى يظهروا عليهم ويكسروا شوكتهم ويخمدوا نار عداوتهم. فكل وسيلة من وسائل الظفر للنبيئين والمؤمنين وما يفضي إلى انتصافهم من ظالميهم الذين آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وقاتلوهم في دينهم، مما هو مسوق منه سبحانه مساق الإنعام والامتنان {وما بكم من نعمة فمن الله}.
فهذه العندية حقيقة عقدية بالأساس، لها مسيس علاقة بإيمان المؤمنين وإخلاصهم وربما اتبع القرآن. فيما اتبع -لأجل تحقيقها في النفوس- أسلوبين اثنين:
الأول : تقريرها بأسلوب التوكيد الجاري على طريق الحصر والقصر، وذلك في صورة حكم كلي {وما النصر إلا من عند الله}. وقد ذيل به تصوير مشاهد مرتبطة بأول موقعة في الإسلام، وهي موقعة بدر الكبرى، وذلك بعد تبشيره سبحانه النبيَّ بالظفر، وطمأنة المؤمنين بما يكون به النصر وهو المدد الملائكي في خلال آيات من آل عمران والأنفال فسيق التذييل لتنبيههم واللاحقين من بعدهم، على سبيل الاعتبار فيما يستقبل من مدافعات، إلا أن التعلق ينبغي أن يكون بالمسبِّب لا بالسبب، لأن ما حصل من قبل الملائكة من النفع إنما هو من أمر الله بما أودع فيهم من قوة لأجل ذلك الغرض، قال أهل التفسير (وجملة {وما النصر إلا من عند الله} تذييل، أي كل نصر هو من الله لا من الملائكة).
الثاني : تسفيه أحلام المشركين خاصة فيما يعتقدون من نصرة آلهتهم لهم، وذلك بالتوبيخ والتحقير تارة كما في قوله سبحانه {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان} (أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف)، وبالتعريض تارة أخرى والتعجيب من حال هذه الناشئة عن تجدد غرورهم وضلالهم برغم تجدد عجز آلهتهم التي يدعونها عن الخلق والنصر كما يستفاد من صيغ المضارع في قوله سبحانه {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون}. ولقد كان ـ فيما كان ـ من تجليات هذا الاعتقاد الفاسد قول أبي سفيان يوم أحد “أُعْلُ هبل” وقوله “لنا العزى ولا عزى لكم”.
فصدور النصر من الله سبحانه وحده لا شريك له، له معنى اعتقادي سَامٍ ينبغي أن يترسخ في نفوسنا، وأن يكون منا نصب العين لئلا نطلبه من سواه جل وعلا كائنا من كان. ولنا في ثبات المخلصين من الصادقين الأسوة والقدوة. فلقد دعا نوح عليه السلام حين نفد الصبر واشتد الأمر بقوله {رب انصرني بما كذبون} وقوله {إني مغلوب فانتصر}.
كما ينبغي أن نورث هذا المعنى العقدي، بكل الوسائل التربوية التعليمية والإعلامية المتاحة، خلفا عن سلف حتى يصير مركوزا في ذاتنا الواقعية والتاريخية. إذ لا يسلم الزمان كما هو شاهد الحال بعد شواهد الوحي والتاريخ من قوى الاستكبار والاستعباد، التي لا بد لصدها من شيوع ثقافة الممانعة والمقاومة بين المستضعفين وفق قيم القرآن الذي ينبذ كل أشكال الاعتداء، ويأذن في رد الظلم بالدفع على قدر العداء {ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغِي عليه لينصرنه الله}.
ذلك أن تثبيت هذه الحقيقة في الوجدان هو من باب إصلاح الاعتقاد الذي هو أساس إصلاح التفكير والعمل، وهو المدخل الأول لرفع ما تعيشه الأمة اليوم على المستوى الرسمي أكثر من أشكال الخضوع والخنوع لأعداء الإسلام، والتعلق بأهدابهم على صَغار واحتقار، ليرعوا -وهم أكابر محاربينا- ما سمي زورا عن طمع ووهن بسلام الشجعان، ويفرضوا علينا بعد تدويل قضايانا ما قرروه بالجور من أحكام، ما يزال ضررها بالأمة بالتهديد والوعيد والحصار والدمار محل قطع لا يقبل الاحتمال مهما تذرع المتذرعون من قياداتنا بأشباح مصالح ومصالح أشباح {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.
إن اليقين في الله بالنصر ينبغي أن يتحول إلى قوة في الإرادة، وحركة في الواقع، منضبطة بتعاليم الإسلام وحدوده، صبورة على مشاق الدفاع ومكارهه، سيما وأن ذلك من أمر الله التكليفي الذي إذا ما تعطل في الأمة استشرى الفساد وكثر الخبث وافتتن الناس. فتنزيل هذا اليقين بتحقيق مناطاته يقوم من حصول نصر الله الموعود مقام الشرط {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}. ونصر الله إنما هو نصر لدينه بنصرة رسالة رسوله تحصيلا للصلاح والفلاح {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
على أن هذه النصرة ميثاق رباني أخذه الله على أنبيائه عبر تاريخ الرسالات قبل المؤمنين من أمة محمد ليكون موضع حفظ من قبل الأجيال. قال سبحانه {وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنن به ولتنصرنه..} قال الشيخ ابن عاشور رحمه الله “وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء، يؤذنهم فيه بأن رسولا يجيء مصدقا لما معهم، ويأمرهم بالإيمان به وبنصره، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليكون هذا الميثاق محفوظا لدى سائر الأجيال، بدليل قوله {فمن تولى بعد ذلك} الخ، إذ لا يجوز على الأنبياء التولي والفسق ولكن المقصود أممهم كقوله {لئن أشركت ليحبطن عملك} وبدليل قوله{قال فاشهدوا}(1).
ثم إن طلب نصرته عليه السلام ما زال أمرا مستمرا في أمته منذ بعثته إلى قيام الساعة. وهو يتخذ إجمالا شكلين اثنين :
النصرة الدعوية : كما في قوله سبحانه {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله}.
فالمراد من هذه النصرة تبليغ الرسالة المحمدية إلى الناس وتبيينها لهم ليهتدوا بتعاليمها للتي هي أقوم، وهي تعتمد وسائل سلمية من الحكمة والموعظة والجدال الحسن مع الصبر على ما دون ذلك من أذى. فالنصرة الدعوية على هذا النحو هي التي شبهت “بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى عليه السلام. فإن عيسى لم يجاهد من عاندوه، ولا كان الحواريون ممن جاهدوا ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض ثم دب إليه التغيير حتى جاء الإسلام فنسخه من أصله”(2).
النصرة الجهادية : كما في قوله سبحانه {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}، فالجهاد بالمال يكون بإنفاقه بأي صورة من صور الإنفاق ابتغاء تثبيت الدعوة وتقويتها وتوسيعها وإسناد أهلها. وأما الجهاد بالنفس فيكون ببذلها في مواقف القتال حماية للأمة بدفع أعداء الدين وإجابة المستنصرين من مستضعفي المؤمنين {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}. ولقد ضرب المهاجرون والأنصار في نصرة الإسلام بالدعوة والجهاد بأوفر سهم، فخلفوا لأجيال الاسلام ميراثا تطبيقيا عسى أن تأخذ منه بحظ وافر {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض}.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه جندك ويذل فيه عدوك. آمين
——
1- تفسير التحرير والتنوير 3/298 دار سحنون للنشر والتوزيع تونس
2- نفسه 28/198-199
عبد المجيد بلبصير