دروس ومعانٍ عظيمة من القصة الخالدة للذبيح وأبيه منها :
طاعة الله بلا تردد و الصبر والشورى بين الآباء والأبناء..
عندما تسطع شمس الحب على أفئدة المتحابين فتغمرها بأشعة النور الدافئة، وحينما يصعد ذلك الحب العظيم سُلّم القلوب درجة درجة بتوءدة وثبات، مخترقاً شغافها حتى يبلغ منتهاه، يعتلج بالصدور سارياً بين العروق والأوصال والدماء، حتى يفيض خيره على صاحبه ويتنسمه كالهواء، فتجده قوي الفؤاد، ثابت الجأش، طاهر الجنان، يتخطى كل الصعاب ليحيا به ويعيش معه الحقيقة التي لا ينخدع أمامها بالسراب.
وحين يعترض السراب طريق السائرين ويوهمهم بالأمل الكاذب ويطمس أعينهم عن رؤية الزيف والضلال، لتضعف عن الإبصار وتنخدع بالبريق واللمعان، يعمل حب الله عمله في النفوس فيحييها من بعد موات، ويقويها بعد ضعف ويعزها بعد ذل.
نعم.. إنه الحب الذي يفعل كما يقولون المعجزات!
البشارة والابتلاء
لقد قصّ الله تعالى علينا قصص أنبيائه ورسله الكرام، وأطلعنا في كتابه الكريم على دلائل حبهم العظيم له عز وجل، حبّاً ملك عليهم كل ذرة من أجسادهم الشريفة، وملأ قلوبهم الطاهرة، فلا مكان فيها لأحد سواه سبحانه، حبًا تجسّد في أقوالهم وأفعالهم.. في حركاتهم وسكناتهم، بل في أنفاسهم وزفراتهم، حتى صار عَلماً على نبوتهم العظيمة ودرجتهم الرفيعة ومنزلتهم التي لا يساميها أو يصل إليها أحد غيرهم.
ومما قصّه الله تعالى علينا في القرآن العظيم قصة الفداء التي اشتهر بها خليله إبراهيم عليه السلام، حيث اختبره وابتلاه في أعز ما يملك من متاع الحياة وزينتها.. ولده وفلذة كبده إسماعيل عليه السلام الذي رزقه الله إياه بعد صدق دعاء وطول مكث وانتظار، وهبه إياه بعد شوق كبير وحرمان، وقد بلغ من الكبر عتياً، وكان مولده في هذه السنّ وفي هذا العمر آية من آيات الرحمن، فحين دخلتعليه الملائكة الكرام وبشروه بالغلام قائلين: {إنا نبشرك بغلام عليم، قال لهم إبراهيم عليه السلام : أبشرتموني على” أن مسني الكبر فبم تبشرون}(الحجر : 53- 54). وقد تعجبت زوجه هي الأخرى فقالت: {يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب}(هود : 72).
الطاعة بحب
وها هو الولد.. الأمل والفرح والحياة المتجددة.. البهجة والأنس والسعادة.. ها هو وقد قرّت به العين وسعدت، واطمأنت به النفس وهدأت، وازدانت به الحياة وحسنت.. {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}(الكهف:46). لكن الخليل لا يرضى من خليله أن يزاحمه معه في الحب أحد، ومن هنا ابتلاه، وكانت الرسالة الأبوية من الخليل لولده بأمر الله: {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}.. تفيض رقة وعطفاً وأبوّة وشفقة، وتشع نوراً ويقينا، وإيماناً وتسليماً لأمر الله، فيأتيه الجواب من الابن المؤمن البار الذي يعي مضمونالرسالة، التي هي وحْي من الله تعالى وليست كغيرها من رسالات الناس، تماماً كما أنهم ليسوا كسائر البشر فهم الأنبياء المعصومون الأصفياء.
يجيب الابن بكلمات ممتزجة باليقين تعلوها ثقة لا شك فيها بالوعد الصادق أن ما عنده سبحانه خير وأبقى من هذه الحياة، وتدوي كلمات حبه لله قوية تنبع من الفؤاد: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}(الصافات : 102). وصدق الله العظيم: {والذين آمنوا أشد حبا لله}(البقرة:165).
إننا جميعاً نقرأ هذه الآيات ونؤمن بها ونعرف تلك القصة العظيمة وننقلها لأبنائنا ونحكيها كما جاءت في قرآننا، ولا سيما في موسم الحج وعيد الأضحى والفداء، نثني فيها على خليل الله نجاحه في الامتحان وحصوله على أعلى وسام، {يا إبراهيم قد صدقت الرءيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين}(الصافات : 104- 106). وكلنا يتذكر جائزة الفداء العظمى ونزولها من السماء {وفديناه بذبح عظيم}(الصافات : 107). حيث نجدد ذكراها كل عام بذبح الأضاحي والتقرب بلحومها إلى الله.
وفي هذه السلسلة (تأملات في قصة الفداء) نعيش معا إن شاء الله ونتنقل بين أنواع مختلفة من الفداء، التي يمثل حب الله فيها دافعاً أساسياً له، ونأخذ معاني عظيمة من تلك القصة الخالدة التي جسدت هذا الحب في أعلى صوره، وتوجت أفعال المحبين وتوجهاتهم، نعيشها في الماضي ونربطها بالحاضر، ونستضيء بها في المستقبل بمشيئة الله عز وجل.
وإذا كان الله تعالى قد افتدى الذبيح وحماه من حدّ السكين، كما قال السدي: “أنه أمرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً، بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس، ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك {قد صدقت الرءيا}(الصافات:105). فإن في كل ذلك عظات وعبراً، ودروساً، تنادينا جميعاً {فهل من مدكر}(القمر : 17).
ففي أمر الله تعالى نبيه وخليله إبراهيم عليهالسلام بذبح ولده إشارة لنا جميعا لقول رسول الله : >أشد الناس بلاء الأنبياء<.. وأن الابتلاء لا بد منه، ليوطن كل منا نفسه على الصبر عليه والنجاح فيه.. قال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}(العنكبوت : 2).
وفي إخبار إبراهيم ولده برؤياه، دليل على صدق بلاغ الأنبياء، وأنهم لا يكتمون شيئاً من وحي الله تعالى لهم.
وفي أمر الله تعالى له بذبح ابنه رسالة واضحة أن الوالد وما ولد وكل ما ملك، ملك لله وحده يفعل بهم ما يشاء، وأن لله ما أعطى وله ما أخذ، ونحن جميعاً عبيده وتحت ملكه وسلطانه.
علامات الصدق
وفي امتثال إبراهيم وابنه عليهما السلام لأمر الله علامة من علامات الصدق في الاتباع، حيث إن الطاعة لا بد أن تكون وفقاً لمراد الله لا اتباعاً لأهواء النفوس.
في تبليغ إبراهيم أمر الله لولده بقوله: “يا بني” إظهار لمشاعر الرحمة والشفقة عليه، وتذكير له بالأبوة وحقها المطلوب منه من طاعة وبر. كما أن قوله: {يا أبت افعل ما تؤمر} وهو الذي سيطيع أمر ربه مهما حدث أراد به مشاركة والده في الطاعة، وهو يعلم امتثاله لهذا الأمر.. فهي {ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}(آل عمران : 34).
موقف تربوي
وهذا موقف تربوي مفيد للآباء الذين لا يسمحون لأولادهم بمجرد مناقشتهم أو مشاركتهم في أمر ما، قد يخص حياتهم ومستقبلهم، ولا يولون آراءهم أدنى عناية، وربما يعاملونهم كأي قطعة أثاث في الدار بحجة أنهم صغار!
في قول إسماعيل عليه السلام يا أبت افعل ما تؤمر(الصافات) عون لوالده على طاعة الله، وتسهيل له للقيام بالمهمة المطلوبة منه على أكمل وجه، ومن هذا يؤخذ أن المرء حينما يجد على الخير أعواناً يسهل عليه عمله، ويحدث التنافس فيه، ولا سيما إن كان هذا العون ينبع من داخل أفراد الأسرة فإن أثره يكون أقوى وأشد.
{ستجدني إن شاء الله من الصابرين}(الصافات : 102) أدب رفيع راق من العبد مع ربه ومولاه، فكل خير هو منه سبحانه وإليه، وكل عمل صالح يكون يسيراً على من يسره عليه، لذا وجب اللجوء إلى الله لطلب العون منه في كل حين، والاستعانة به في أمور الدنيا والدين، لتحقيق قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين}(الفاتحة : 5).
{فلما أسلما وتله للجبين}(الصافات : 103) صورة الاستسلام والانقياد من إبراهيم لأمر الله، ومن إسماعيل طاعة لله ولأبيه، حية تتمثل في أعلى صورها، وفيها يظهر من معاني العبودية الخالصة لله التي فاقت كل مشاعر الأبوة والبنوة الموجودة بالفطرة في كليهما وانتصرت عليها.
{وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرءيا(الصافات : 104) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: >فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين<(أحمد). وذلك دلالة النجاح وعلامة الصدق في الامتثال.
{كذلك نجزي المحسنين}(الصافات : 110) أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً. وهذه ثمرة من ثمرات الطاعة والصبر على البلاء {ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب(الطلاق : 2). وفيه تصبير لأهل البلاء وبيان لعاقبة الصبر والصابرين، وإظهار لفضيلة الإحسان والحث عليه.
{إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم}(الصافات : 106- 107) فبعد النجاح تكون الجائزة، وما أعظمها.
ما دورك أنت في الحياة؟
وأنت أيها المسلم أباً كنت أم ابناً.. ما دورك في الحياة؟ وهل تذوقت طعم الحب لمولاك حين قمت بعبادته وحرصت على طاعته؟ وماذا تتعلم من درس الفداء الكبير؟
لقد وهبك الله تعالى أيها الأب الكريم أولاداً وذرية، فهل علمت قدر تلك النعمة وعظمها؟ وهل مارستَ معها واجبات الأبوة التي أُمرْتَ بها، وهي مهما بلغت فلن تكون شاقة كما حدث لأبي الأنبياء عليه السلام، بل لقد طلب الله تعالى منك أمراً هو أيسر بكثير مما ابتلى بهخليله وابنه المؤمن المطيع، فحين طلب منه ذبح ابنه لم يطلب منك غير حسن تربية ولدك وتأديبه وتعليمه الدين الحنيف ومكارم الأخلاق.
وها هو ذا رسولنا الكريم يقول: >ما نحل والد ولداً من نُحل أفضل من أدب حسن<(الترمذي). ويقول: >أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم<(ابن ماجه).
وهلا أقبلت معه على مأدبة الله فتزودتم خير الزاد فكان لكم النصيب الأوفى منها؟ يقول ابن مسعود ] : >إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلما من مأدبة الله ما استطعتم”. ويقول: “ليس من مؤدب إلا وهو يؤتي أدبه، وإن أدب الله القرآن<(الدارمي).
إن بإمكانك أن تطلب من ربك الفداء وتفتدي نفسك ورقبتك أنت وأولادك من غضب الله، بل وتترك أثراً صالحاً من بعدك يرفع الله به ذكرك في الأنام، ويصلح ذريتك ويحفظها من شرور المعاصي والآثام، كل ذلك بصدق التوجه وحسن العمل والاقتداء، وما عليك إلا أن تشمر عن ساعد الجدّ، وتعمل صادقاً بحق، فلامكان في الفردوس الأعلى لغافل أو كسول ضيّع فرصة الحياة بل وغفل عنها، فلتجتهد في الأخذ بأسباب ذلك القبول والفداء.
وأنت أيها الابن
هل وعيتَ الأمر وعرفت القضية وتزودت من قصة الفداء والتضحية؟ إن طاعتك لوالديك في المعروف جزء من طاعة الله، وهما لا ولن يأمراك بغير المستطاع ولن يؤمرا بذبحك بأي حال، هل تأخذ من نبي الله إسماعيل عليه السلام القدوة في الطاعة وحسن البلاء؟ لتجد في والديك جذور قوتك وثبات فرعك الضعيف الذي يستمد منهما القوة والغذاء.
لقد أمرك الله تعالى في كتابه الكريم فقال: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}(الإسراء : 23- 24). ووصاك بالإحسان إليهما فقال: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا}(الأحقاف:14). فهل أنت حقاً من المحسنين؟
إن قصة الفداء إذن ليست كسائر القصص، وإنما هي حق من عند الله تعالى.. الإيمان بها واجب، والفائدة منها كبيرة، والعبرة بين سطورها يعيها كل عاقل، فهل وعيناها؟ إن في ذلك لذكرى {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}(ق : 37).
> المجتمع ع 1727- 1728
إيمان مغازي الشرقاوي