… وإن كنت أنْسى فلن أنسى أبدا تلك الزيارة المباركة التي قمت له لغار حراء…
أتسلق صخور جبل النور الصلدة في ذلك اليوم شديد الحرارة والشمس وكأنها قد اقتربت في الرؤوس فلا أشجار ولا مخابئ تقيك حر الشمس اللافحة والهواء الجاف لكن كل ذلك يهون.
فما يغمر القلب من شوق ووجدان من فرحة الوقوف بباب الغار يفيض على البدن فتغدو الرحلة متعة والمسالك الوعرة بردا وسلاما وأنسا.
وأنا أتسلق الصخور الصلدة تذكرت رسول الله وهو يسلك نفس المسالك مرات ومرات عديدة وتذكرت السيدة خديجة ] وهي تسلك نفس المسلك وقد تجاوزت الخمسين من عمرها… تذكرت كل ذلك وغيره فازددت حماسا ولهفة للوصول.
الوصول إلى الغار ليس بالأمر الهين فعليك أن تصل إلى قمة الجبل ثم تنزل في ممر عميق وضيق جدا يفضي بك إلى مدخل الغار، وهو بالمناسبة عبارة عن فجوة ضيقة جدا بين صخور الجبل العظيمة وقد مالت بعضها على بعض. دخلت الغار وجلست بداخله وأنا متأكد أنني أجلس في نفس المكان الذي جلس فيه الحبيب ، الساعات الطوال وهو يتأمل في هدوء وسكينة متناهية في ملكوت السماوات والأرض قبل بعثته ، عندها فهمت معنى التأمل الحقيقي والتركيز الفكري والوجداني الصحيح.
فهمت عندها أن ذلك الهدوء وتلك السكينة كانت ضرورية حتى يؤتي التأمل حقيقته وكنهه وكان ضروريا لإعداد محمد بن عبد الله إعدادا سليما لحمل الرسالة العظيمة {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}.
فثقل الرسالة كان لا بد له من إعداد وجداني وتأمل عميق مُركَّز وأنت تتأمل وليس في ذهنك شيء. مثل هذا التركيز هو الذي يفضي بك إلى التأمل الصحيح وهو الذي يجعلك ترى الحقائق بجلاء ووضوح أكثر وهو الذي يمكِّنك من فهم كنه الأشياء على حقيقتها وسر الكون من حولك، وإذا فهمت ذلك جيدا فهمت وتذوقت فعلا عظمة الخالق وتذوقتفعلا طعم هذه المحبة “ومن ذاق عرف”.
خرجت من الغار والفرح يتملكني بأن يسر الله لي الوقوف والجلوس في مكان جلس فيه رسول الله ..
لم أستفق من نشوتي إلا وأنا أنتقل بين صخرات الجبل ويُخيل لي انني أسمع صوت جبريل عليه السلام وصدى صوته الملائكي تردده الصخور ليزيد المكان مهابة وإجلالا وغربة.
|”يا محمد أنا جبريل وأنت نبي هذه الأمة” فيعيدها مرات ومرات .
يخرج رسول الله [ والظلام دامس فينظر إلى السماء فإذا بجبريل صاف قدميه بين السماء والأرض يراه كلما أدار رأسه إلى ناحية. ظلام دامس وهدوء أزلي وصوت ملائكي مزلزل لا قبل لرسول الله به.
إنه الفزع الشديد والرعب القوي يتملك رسول الله حتى أنه خشي على نفسه وليس معه أحد إلا الواحد الأحد…
وينزل جبريل عليه السلام ليضم رسول الله ضما قويا وهو يقول له “اقرأ” ليخلي سبيله في المرة الثالثة ليقرأ عليه أول غيث ينزل من السماء ليحيي الأرض ويطهرها من أرذان الجاهلية والأفكار الفاسدة.
{اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق…}.
وتنزل هذه القطرات الأولى الندية فتضيء أرجاء الكون.. ووحشة المكان.
وتبدأ معها غرس أول بذرة في الدعوة لهذا الدين العظيم فيعم الخير الكون كله وتذوي كلمة التوحيد أرجاء العالم لتملأ الكون كله رحمة وعدلا وأمنا بعدما ملئ جورا وظلما…
وأنا أحلق في ملكوت الله من هذا المكان الذي شرفه الله بانطلا قة أول قطرة خير منه لإخراج هذه الأمة من الظلمات إلى النور… وأنا مضمخ بعبير وعبرة المكان وجلاله لم استفق إلا وأنا من جديد على رأس الجبل وفوق الغار بالذات أنظر صوب الكعبة المشرفة فأراها بهية مهيبة وكأنها أمامي رغم بعد المسافة بين الغار والكعبة المشرفة.
فهمت عندها رمزية هذا المشهد، فالنور المنبعث من هذا الغار لا قرار له إلا في رحاب ذلك البيت العتيق ومنه يشع هذا النور ليعم أرجاء الكون كله إلى قيام الساعة.
ذ. عبد القادر لوكيلي