منذ نزول أول آية في تحريم الربا وإعلان الحرب على أهله من الله ورسوله ، ومنذ لعن آكله وموكله، وكاتبه وشاهده والمسلمون بجميع مذاهبهم وطوائفهم يومنون بتحريم الربا بجميع أنواعه وصوره ما ظهر منه وما بطن، وما قل وما كثر، ويتعوذون منه ويحذرون من الوقوع فيه جهلا، أو خطأ، ويحرصون على معرفة حكم ما ينوون القيام به من معاملات مالية احتياطا لدينهم، وخوفا من تسرب الربا إلى أموالهم.
وبالمقابل من ذلك الحين، ومنذ قال المرابون المشركون : “إنما البيع مثل الربا” والمرابون في كل زمان وكل مكان يتمنون بفارغ الصبر فتح باب الربا في وجوههم، ويحتالون بكل الطرق والوسائل للوصول إليه، وإقناع الناس بولوج أبوابه، تارة بإبدال اسم الربا بأسماء أخرى، وتارة باختلاق معاملات جديدة بأسماء جديدة، فرارا من حكم الربا، وتضليلا للناس، وتشويشا على الفقه، في محاولة سافرة لمغالطة الفقهاء، واستدراجا لهم، وتصيدا لزلاتهم، حتى وجدوا ضالتهم في فتاوى شاذة وغريبة بإباحة الفوائد البنكية التي يسلمها البنك لزبنائه المودعين على ودائعهم. وبجواز الاقتراض بفوائد من المؤسسات البنكية لشراء المساكـن.
الأمر الذي أحدث بلبلة في بعض الأوساط، وتشويشا على الرأي الصحيح، والقول الصواب الذي لا يحل الخروج عنه، والإفتاء بغيره، وهو أن الفوائد البنكية حرام في حرام أخذا وإعطاء في بلاد المسلمين وفي غيرها، لضرورة وغيرها، يحرم أخذها من الأبناك والمصارف، ويحرم إعطاؤها لها عند الاقتراض منها.
وحتى لا ينخدع القراء بهؤلاء المفتين وما قدموه من تبريرات ، وما أبدعوه من شبه، كان من الواجب مناقشة تلك التبريرات ، وإبطال تلك الشبه، وإظهار زيفها وفسادها وتناقضها، ومخالفتها للكتاب والسنة وإجماع الأمة.
> وأول هذه التبريرات أن هذه المعاملات البنكية معاملة مستحدثة، لم يعرفها الفقهاء السابقون على الإطلاق كما قال قائلون.
وهي مقولة الهدف منها إبعادها من دائرة النصوص وإدخالها لمنطقة الاجتهاد، حتى يسوغ القول بإباحتها باسم الاجتهاد.
وهي مقولة غير دقيقة، وغير صحيحة، فإن هذه المعاملة كانت معروفة قبل مجيء الإسلام. والجديد فيها إنما هو الجانب الشكلي والاسمي، أي البناية والموظفون داخلها، وعنوان البنك المكتوب على واجهتها، واسم الفائدة أو العائد أو السعر، للتغطية على الربا، أما الجوهر، والجانب الموضوعي الذي يجري داخل البناية وهو اقتراض النقود وإقراضها بزيادة. فقد كان معروفا في الجاهلية قبل مجيء الإسلام. يقول الإمام أبو بكر الرازي الجصاص في تفسيره أحكام القرآن : >والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به<(1)، وقال السدي في سبب نزول قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين. فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله}(البقرة : 278) إنها نزلت في العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
: >ألا إن كل ربًا من ربَا الجاهلية موضوعٌ وأول ربًا أضعُه رِبَا العباس بن عبد المطلبِ<(2)، وقال ابن حجر : كان الواحد من أهل الجاهلية يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا -ورأس المال باق بحاله- فإذا حل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل(3) وقال فخر الدين الرازي : أمَّا رِبَا النَّسِيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية ذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخُذُوا كُلَّ شهر قدرا معينا ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حَلَّ الدَّيْن طالَبُوا المديون برأس المال. فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به (التفسير الكبير 93/7)، وهذا عين المعاملة البنكية، يدفع الزبون ماله للبنك لآجال متفق عليها ويأخذ من البنك مبالغ محددة ورأس المال باق بتمامه.
وقال الشيخ كنون ، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس، وواقع كثيرا : 5/92.
كما أن إعطاء النقود لمن يستثمرها بنصيب من الربح، أو بأجرة محددة للعامل على أن يكون الربح كله لرب المال كان معروفا أيضا وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تاجرا في مال خديجة رضي الله عنها قبل أن يتزوجها.
كما أن ما يعرف بالإيداع على الحساب الجاري عرفه المسلمون مبكرا أيضا، فقد كان الزبير بن العوام رضي الله عنه يأتيه الناس بالودائع النقدية ليحفظها لهم. فَيَأْبَى قَبُولَها إلا بشرط أن تكون دَيْنًا في ذمته، خشية ضياعها كما أخرجه البخاري(4).
وبهذا يتبين أن ما يقال من كون المعاملات البنكية معاملة جديدة غير معروفة سابقًا غَيْرُ صحيح . لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني، والأمور بمقاصدها كما يقول الأصوليون، نعم بعد ما جاء الإسلام وحرم القرض بزيادة ، والمضاربة بنصيب محدد اختفت هذه المعاملات من المجتمع الإسلامي الملتزم بشريعة الله، حتى ظهرت بظهور الاستعمار واتخذت أسماء جديدة استطاعت بها تضليل قوم وتشكيك أقوام لم يستطيعوا الوصول إلى أعماقها ومعرفة حقيقتها، وأنها قرض أو اقتراض بزيادة لا شك فيها ، وأنها عين الربا الذي حرمه الله ورسوله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهده وكل من أعان عليه أو دعا إليه.
> التبرير الثاني قالوا : ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نص صريح يحرم هذه المعاملة.
وهي مقولة مثل سابقتها غير دقيقة ولا صحيحة فهي :
أولا تنم عن إنكار الإجماع وغيره من مصادر التشريع، وتحصرها في الكتاب والسنة، وحتى الدلالات القرآنية والحديثية غير الصريحة لا تقتنع بها، وهذه ظاهريَّةٌ أكثر جمودًا من ظاهريَّةِ أهل الظاهر المرفوضة عند المحققين.
وثانيا يمكن القول بنعم ، وأن في الكتاب والسنة نصوصا صريحة في منع هذه المعاملة وتحريمها، أما الكتاب فقوله تعالى : {وأحَلّ الله البيعَ وحرَّم الرِّبَا} وقوله : {يمحق الله الربا}، وقوله : {اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا}. والربا في اللغة الزيادة، وشرعا الزيادة في أحد العوضين دون مقابل ، ولا شك أن البنك يدفع مائة ويسترجع مائة وعشرة مثلا عندما يكون هو المقرض، ويستلم من الزبون المودع مائة ليرد له المائة وعشرة عند ما يكون هو المقترض وإن سُمِّي مودِعًا.
وإذا راعينا القواعد الأصولية التي تقـول :
- المفرد المحلَّى بأل للعموم.
- وأن العام محمول على عمومه حتى يرد ما يخصصه.
- وأن دلالة العام على أفراده دلالة مطابقة، محكوم فيه على كل فرد فرد من أفراده مطابقة.
- وأن دلالة المطابقة من قبيل المنطوق الصريح عند الأصوليين.
- وأن دلالة العام عل كل فرد من أفراده دلالة قطعية عند السادة الحنفية وأنه بمنزلة الخاص في دلالته على أفراده.
استفدنا من ذلك كله أن دلالة آيات الربا على تحريم الفوائد البنكية دلالة صريحة لشمولها لها قطعا، لأنها زيادة في أحد العوضين دون مقابل، فهي داخلة في عموم الربا. ولهذا يقول العلماء : العموم يدل على الحكم في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل.
ومثل ذلك يقال في أحاديث الربا إنها شاملة للفوائد البنكية دالة عليها بالمطابقة دلالة صريحة. فهل ينتظر هؤلاء أن يجدوا في القرآن أو السنة عبارة: الفوائد البنكية حرام حتى يقتنعوا بأن في القرآن والسنة نصا صريحا على تحريمها؟.
ألا يكفي ما سبق عن الجصاص والسدي، وغيرهما من أن الربا المعروف عند العرب هو القرض بزيادة ؟، وأن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} نزلت في السلف بزيادة ، وأن القاعدة الأصولية أن صورة السبب قطعية الدخول في العام لا تخص بالاجتهاد كما يقول الأصوليون؟، ومعنى هذا أن القرض بزيادة الذي يمارسه البنك أخذا وعطاء باسم الفائدة أو العائد أو غير ذلك من الأسماء، هو عين الربا المأمور بتركه في هذه الآية وداخل فيها قطعا، ومشمول لها جزما. وأن الآية نص صريح في تحريمه. فهل بعد هذا يصح القول أنه ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نص صريح يحرم الفوائد البنكية؟.
> التبرير الثالث قالوا : إن المعاملات البنكية ليست قرضا، وأن ما يتسلمه البنك من زبنائه من أموال لا يمكن حمله على معنى القرض حتى يتناولها النهي عن القرض بزيادة كما أكد ذلك بعضهم وشبهته أمران:
1- أن القرض لا يكون إلا لمحتاج كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال : >لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة<(رواه ابن ماجة). قالوا : والبنك غني غير محتاج.
2- أن القرض لا يكون إلا بطلب من المقترض ، والبنك لا يطلب القرض من أحد. ولكن صاحب المال يذهب إلى البنك بحريته، ومحض إرادته، ليضع ماله تحت تصرفه.
هكذا قالوا وبهذا احتجوا وهو كلام لا يفيد.
أولا : لأنه لم يقل أحد من فقهاء الإسلام إن من شروط القرض أن يكون المقترض محتاجا للقرض وأن يذهب لطلبه ، وما في الحديث- على تسليم صحته- هو إخبار عما هو الشأن والغالب في السائل والمقترض، ليس شرطا فيهما.
ألا ترى أن السائل قد يسأل وليس في يده شيء فلا يناقض ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : لأن السائل يسأل وعنده ، فكذلك المستقرض قد يستقرض تكثرا واستكثارا ، والقيد الخارج مَخْرَجَ الغالب لا مفهوم له كما يقول الأصوليون .
وثانيا: الواقع يؤكد أن المستقرض قد يكون غير محتاج، ولا طالباً للقرض، فقد عرض أبو موسى الأشعري عامل عمر على العراق على عبد الله بن عمر وأخيه عبيد الله رضي الله عنهم جميعا أن يقرضهما مالا من أموال الدولة، يشتريان به سلعا من سلع العراق، ويبيعانها في المدينة، ويؤديان رأس المال للخليفة، ويأخذان الربح لهما. ولكن عمر رضي الله عنه طالبهما برأس المال وربحه، ورأى أن أبا موسى حاباهما دون بقية الجيش من أجل أنهما ابنا أمير المومنين إلى أن أشار عليه بعض الحاضرين بجعله قراضا ففعل. رواه مالك في الموطأ والدارقطني في سننه.
فهذا قرض معروض وليس مطلوبا، وقرض لغير محتاج فإن ابني عمر لم يكونا محتاجين.
وثالثـا: فإن كثيرا من المعاملات يصرح الفقهاء بمنعها ، ويعللون ذلك بأنها تؤدي إلى سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا . ومعنى هذا أنه لا فرق بين السلف المدخول عليه ابتداء، والسلف غير المدخول عليه، ولكن تؤدي إليه المعاملة ، ومعنى ذلك أخيرا أنه ليس من شرط السلف أن يكون مطلوبا.
ورابعا : على تسليم اشتراط الحاجة والطلب في السلف جدلا فإنا نقول : البنك طالب ومحتاج أيضا.
البنك طالب لأن فتح أبوابه للعموم والدعاية التي يقوم بها، والإغراءات التي يقدمها ويشهرها، هي أقوى بكثير من طلب عادي يقدمه الفرد العادي.
والبنك محتاج أيضا إلى أموال زبنائه لتوسيع نشاطه، وتقوية موقعه، ومن أجل ذلك يدخل في منافسات حادة مع نظرائه لاستقطاب تلك الأموال. وإذا حبست عنه اختنق، وربما أفلس إذا قاطعه المودعون وحبسوا عنه ودائعهم.
فكيف يصدق القول : إن البنك غير طالب وغير محتاج ، وإن ما يتسلمه من أموال الزبناء ليس قرضا؟ . بل هو عين القرض ولا يصح تكييفه بغير القرض لأن الأموال التي يتسلمها البنك من زبنائه تعتبر دينا في ذمته بمقتضى القانون ، ويعطي لأصحاب الأموال وصلا بالدائنية ، وفي حالة الخسارة أو التلف يتحمل ذلك وحده، ويلزم برد المبالغ لأصحابها كاملة، مع الفوائد التي التزمها بمقتضى القانون. وهذه خاصيات القرض.
وإذا كان ذلك قرضا فما يقدمه للزبناء من الفوائد على أموالهم حرامٌ في حَرَامٍ ، سواء سمَّى ذلك فائدة أو ربًا، أو سعرًا، أو عائدًا، أو غير ذلك من الأسماء المضللة لأنه سلفٌ بزيادة، وقرضٌ جَرَّ نفعا وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فآيات الربا السابقة، فإنه كما سبق عن الجصاص والسدي نزلت في السلف بزيادة وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : >الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار لا فضل بينهما<(رواه مالك، المنتقى : 4/259)، قال الباجي وغيره : الحديث شامل للبيع والقرض.
وقال صلى الله عليه وسلم : >من أسلف سلفا فلا يشترط على صاحبه غير قضائه<، الدارقطني : 3/46.
وقوله : >إنما جزاء السلف الوفاء والحمد< : 2/55 ، صحيح ابن ماجة.
وحديث ابن ماجة أنه صلى الله عليه وسلم : >نهى عن سلف جر نفعا<.
وهو نص صريح وعام في كل قرض وكل نفع.
وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد، ومعلوم من الدين بالضرورة لا يسع أحدا إنكاره أو جحوده.
> التبرير الرابع : ما قاله بعض آخر من حمل المعاملة البنكية على المضاربة وأنها نوع من الاستثمار ، وأن أصحاب الأموال يودعون أموالهم في البنك بنية استثمارها لهم بنصيب محدد من الربح.
وهو تبرير واه وتكييف غير صحيح:
أولا : لأن الإجماع منعقد على أن المضاربة المشروعة هي أن يعطي رب المال ماله لمن يتجر فيه بجزء شائع من الربح يتفقان عليه، مثل النصف والثلث ونحو ذلك، قال ابن رشد في البداية : لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض… وأجمعوا على أن صفته أن يعطي الرجل الرجل المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال، أي جزء كان مما يتفقان عليه، ثلثا أو ربعا أو نصفا: 2/236.
وثانيا: أن المال في المضاربة أمانة في يد العامل المضارب وليس دينا في ذمته إجماعا.
وثالثا :فإن الخسارة في المضاربة على رب المال وحده، وليس على العامل شيء منها بالإجماع أيضا، إلا إذا تعدى أو فرط، ولا يجوز اشتراط الخسارة عليه كليا أو جزئيا ، البداية : 2/236.
ورابعا : المضاربة تقتضي اقتسام الربح بين العامل ورب المال إن كان هناك ربح ، وإذا لم يكن ربح فلا شيء لرب المال والعامل إجماعا أيضا.
وخامسا:المضاربة لا يجوز فيها قسم الربح إلا بعد نضوض رأس المال وإحضاره وحضور رب المال إجماعا، البداية : 2/240.
وسادسا : المضاربة لا يجوز تأجيلها إلى أجل عند الجمهور.
وسابعا : المضاربة لا تجوز بالدين إجماعا كما قال ابن المنذر : 5/67 المغني.
والمعاملة البنكية على عكس ذلك كله.
فالأبناك تعتبر مدينة بما تتسلمه من أموال الزبناء بمقتضى القانون وتقدم لهم وصلا بذلك ، وتتحمل الخسارة وحدها بقوة القانون أيضا. وتحدد لأرباب المال فوائد مسبقا بنسبة رأس المال، كان هناك ربح أم لا. وتقسم الأرباح قبل رد الأموال إلى أصحابها أو إحضارها وفي غيبتهم . وبذلك تخرق في معاملتها ستة إجماعات فلا يصح اعتبارها مضاربة صحيحة جائزة، كما أنها تحدد أجلا تختلف الفوائد بحسب طوله وقصره.
وثامنا : فإن المضاربة لا يجوز فيها تحديد مقدار الربح الذي يأخذه العامل أو رب المال مسبقا سواء تم تحديده بعدد، أو بنسبة رأس المال. لما في ذلك من الغرر لأنه يحتمل أن لا يكون هناك ربح أصلا أو لا ربح إلا ذلك القدر المشترط لرب المال، فيخسر العامل ماله وعمله في الحالة الأولى، ويخسر عمله في الحالة الثانية، ويسلم لرب المال رأس ماله وفوائده في الحالتين ، وذلك ظلم للعامل، وغبن له، ومخاطرة لا يقرها الشرع، قال فيه مالك : ليس هذا من قراض المسلمين.
ومن هنا انعقد الإجماع على منع المضاربة بجزء محدد المقدار للعامل أو لرب المال، حكى هذا الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وابن رشد في البداية وآخرون. وهو إجماع صحيح وثابت لا يعرف له مخالف، والإجماع حجة قائمة بنفسه، ومصدر من مصادر التشريع وأقواها ، لأنه لا يحتمل التأويل، ولا يقبل النسخ ، ولا ينعقد إلا عن دليل صحيح، من كتاب أو سنة أو قياس صحيح ، وإن لم يعرف عين ذلك المستند كما يقول الأصوليون.
وإنه لمن العجب أن نجد بعد هذا كله من يقول :
- تحديد الربح مقدما مسلم به في الفقه الإسلامي.
- أو يقول : إن تحديد الربح مقدما واجب.
- أو يقول : تحديد الربح مقدما هو ما أوجبته الشريعة الإسلامية.
- أو يقول : أوجبت الشريعة الإسلامية وضع الأموال في البنوك، وتحديد العائد واجب.
فعن أي فقه يتحدث هؤلاء؟ إذا كان الفقه الإسلامي باختلاف مذاهبه ومدارسه يحرم تحديد نصيب العامل أو رب المال من الربح مسبقا في المضاربة ؟ ومن هم الفقهاء الذين اتفقوا على وجوب تحديد الربح مقدما ، وليس جوازه فقط ـ إذا كان مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأتباعهم وكل الفقهاء الذين سبقوهم أو جاؤوا بعدهم مجمعين على تحريم تحديده مسبقا، وما هي الشريعة الإسلامية التي يتحدثون عنها؟ والتي أوجبت وضع الأموال في البنوك ، وأوجبت تحديد الربح مسبقا.
وبعد هذا ألا يدري هؤلاء ماذا يعني قولهم : إن الفقهاء اتفقوا على وجوب تحديد النصيب في الربح مسبقا ، أو أن الشريعة الإسلامية أوجبت وضع الأموال في البنوك وأوجبت تحديد الربح مسبقا.
إنه يعني:
أولا : تخطئة الصحابة والتابعين والسلف الصالح وكل فقهاء الإسلام الذين قالوا بمنع تحديده ولم يقولوا بوجوب تحديده.
وثانيا: كما يعني ذلك تفسيق الأمة وتجريح علمائها الذين تعاملوا في المضاربة بجزء شائع غير محدد أو لم يضعوا أموالهم في البنوك لأنهم خالفوا الشريعة التي أوجبت عليهم وضع الأموال في البنوك وتحديد الربح مسبقا.
وثالثا : يعني أن هؤلاء المفتين لا يعرفون معنى الواجب. ولا يفرقون بينه وبين الجائز لأنهم مرة يقولون: التحديد لا بأس به إذا رآه الحاكم، ومرة يقولون : واجب أوجبته الشريعة الإسلامية، وكفى هذا دليلا على مدى الارتباك الذي وقعوا فيه، والتناقض البين في مواقفهم وفتاويهم، فهل يمكن للمعاملة الواحدة أن تكون واجبة جائزة في آن واحد؟ وهل يجرؤ أحد على تخطئة الصحابة وكل الفقهاء وتجريحهم كما يلزم على قولهم؟
> والتبرير الخامس وهو يصب في اتجاه الذي قبله، وحاصله أن المعاملة البنكية مضاربة والمضاربة تكون حسب اتفاق الشركاء وتراضيهم، ولا يشترط فيها عدم تحديد الربح مسبقا.
واستدلوا على ذلك أولا بقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
وثانيا بما نقلوه عن خلاف من قوله، إنه لا دليل على اشتراط هذا الشرط.
وثالثا بما نقلوه من فتوى الشيخ الغزالي لشاب قطري -لا يحسن التجارة ويخاف على ماله- بوضعه في البنك وديعة.
وهي شبهة واهية لا تفيد.
أما الاستدلال بالآية فمردود من وجوه ثلاثة.
أولا: أن الآية خاصة بالتجارة والأموال كما تقول : “إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم” ، والتجارة مبادلة مال بمال والمضاربة عقد بين رب المال والعامل، فالمال فيها من جانب واحد والعمل لا يسمى مالا عند السادة الحنفية ، فلا يصدق عليها اسم التجارة ، فلا يتناولها اللفظ.
وثانيا : اتفاق الفقهاء على أن المضاربة لا نص فيها في الكتاب والسنة ، قال ابن حزم : كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة ، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد.
فلو كانت هذه الآية شاملة للمضاربة لاستدل بها الفقهاء على مشروعيتها، ولما قال ابن حزم إنه لا أصل لها في الكتاب. فالاستدلال بهذه الآية على مشروعية المضاربة خطأ واضح، وغفلة عما قاله العلماء في مشروعية المضاربة.
وثالثا على تسليم شمولها جدلا -وهو لا يصح- فإن الآية مطلقة ، والإجماع على منع تحديد الربح مسبقا، فتقيد الآية بما دل عليه الإجماع جمعا بين الدليلين ، وتقييد الكتاب بالإجماع لا خلاف فيه، وأيضا تراضي المتعاقدين لا يحل الحرام، كما هو الشأن في القمار والغرر ومهر البغي… لأن رضا الشرع قبل رضا المتعاقدين.
وأما ما نقلوه عن خلاف من قوله إنه لا دليل لاشتراط هذا الشرط من القرآن أو السنة فغريب أمرهم وغريب أمر خلاف.
غريب أمرهم كيف يردون الإجماع الصحيح الثابت لمجرد قول خلاف، وهم يعلمون أن الإجماع لا يجوز خرقه بعد انعقاده، وأن قول غير المجتهد لا يعبأ به في مخالفة الإجماع في حال انعقاده من أهله ، وغريب أمر خلاف كيف تجرأ على هذه المقولة؟ وما حمله على هذه المقولة؟
فإن كان لم يطلع على الإجماع فذلك قصور منه لا يليق به، وإن كان يريد إنكار حجيته بعد الاطلاع عليه كما يفهمه قوله لا دليل لاشتراط هذا الشرط من القرآن أو السنة، ، فهذه أدهى وأمر فإن إنكار حجية الإجماع من شيمة المبتدعة الذين يرمون من وراء ذلك فتح باب التسيب والتلاعب في أحكام الشريعة.
وإن كان يريد أن هذا الإجماع لا مستند له من القرآن أو السنة فيرده أن الإجماع دليل في نفسه، والدليل لا يحتاج إلى دليل، وإلا لزم التسلسل، وقد رأينا قول ابن حزم أن المضاربة ثابتة بإجماع صحيح مجرد ولا أصل لها في الكتاب والسنة. فكما ثبت أصلها بإجماع مجرد يصح إثبات هذا الشرط فيها بإجماع مجرد، وإن كان الصحيح عند الأصوليين أنه لابد للإجماع من مستند إلا أنه لا يشترط تعيين ذلك المستند بل يجوز كما قال ابن العربي أن يضيع المستند ويبقى الإجماع دليلا على وجود المستند.
وعلى تسليم أنه لابد من معرفة مستند الإجماع فيمكن القول: إن مستند هذا الإجماع هو :
أولا : أحاديث النهي عن الغرر، وأحاديث وآيات النهي عن أكل أموال الناس بالباطل لأنه في حالة اشتراط تحديد مقدار الربح الذي يأخذه رب المال كما هو الشأن في المعاملة البنكية لا يدرى هل يكون هناك ربح أم لا؟ وعلى تقدير وجوده لا يدرى قدره، فإذا حدد ما يأخذه رب المال مسبقا فيحتمل أن لا يربح العامل شيئا ويلزمه دفع المبلغ من ماله الخاص لرب المال، ويجتهد أن لا يربح إلا ذلك المبلغ المحدد، فيلزمه دفعه لرب المال أيضا ، وفي الحالتين لا يبقى للعامل شيء فيضيع عليه عمله وماله ، وفي ذلك ظلم له وغبن وأكل مال الغير بالباطل.
وفي حالة تحسين الظن واحتمال أن تكون الأرباح أكثر مما حدد لرب المال حسب الدراسة التي يقوم بها البنك فإن القدر الباقي بعد نصيب رب المال لا يمكن تحديده بالضبط مهما دققت الدراسات ، ومعنى ذلك أن نصيب العامل مجهول القدر، وذلك موجب للفساد لأحاديث النهي عن الإجارة بأجر مجهول مثل حديث : >من استأجر أجيرا فليسم له أجره<.
وثانيا : يمكن أن يكون مستنده ما سبق عن الحافظ ابن حجر والفخر الرازي في ربا الجاهلية : أنهم كانوا يدفعون المال لغيرهم على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ويكون رأس المال باقيا فإذا حل الأجل طالبوا المدين برأس المال أو الزيادة قدر الدين والزيادة في الأجل، وهذه المعاملة هي عين المضاربة المحدد فيها الربح مقدما التي نزل القرآن بتحريمها.
وأما ما نقلوه عن الشيخ الغزالي فما أظن أن الغزالي نصح الشاب بوضعه في البنك مقابل فائدة بل قال له ضعه وديعة، والوديعة هي الحساب الجاري الذي لا فائدة عليه، وحتى لو صرح الغزالي بإباحة الفائدة فإنه لا يلتفت إلى قوله ولا عبرة به ويقال له ما قيل لخلاف.
> التبرير السادس : حمل هذه المعاملة البنكية على الوكالة المطلقة، بمعنى أن البنك وكيل لصاحب المال لاستثماره فيما أحل الله وما يعود عليه من الربح فهو قانع به، كما يقول بعض آخر.
وهو تكييف غير صحيح ولا دقيق لما يأتي:
أولا: لأن الوكالة كما يعلم الجميع يتصرف فيها الوكيل لفائدة الموكل وحده، والربح كله لرب المال وحده ، ولا شيء فيه للوكيل كما يدل على ذلك مايلي:
أ- حديث البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي دينارا ليشتري له شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه.
ب- حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشترى أضحية، فأربح فيها دينارا، فاشترى أخرى مكانها، فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : >ضح بالشاة وتصدق بالدينار<(رواه الترمذي).
ففي هذين الحديثين أن الدينار الذي ربحه كل من عروة وحكيم أعطياه للنبي صلى الله عليه وسلم لأن المال ماله حديث : >الخراج بالضمان<، وضمان المال في الوكالة من الموكل فيكون الربح له، ومن هنا جاء الإجماع على أن الربح في الوكالة كله للموكل صاحب المال.
وثانيا: أن المال في الوكالة أمانة في يد الوكيل ، ويده يد أمانة لا ضمان عليه فيه ولا يتحمل خسارته إلا أن يتعدى أو يفرط.
والمعاملة البنكية على خلاف ذلك، فالبنك يتصرف في الأموال المودعة تصرف الأصيل المالك الوحيد للمال، وتعتبر الأموال المسلمة له ديونا في ذمته بقوة القانون، ويقدم لأصحابها وصلا بالدائنية . وفي حالة الخسارة والتلف يتحمل البنك ضمان تلك الودائع بقوة القانون ، ويلزم برد تلك الأموال لأصحابها زائدا فوائدها، ويختص بالأرباح كلها في حال وجودها ، وما يعطيه للزبناء من الفوائد ليست نصيبهم من الأرباح، بل هي مبالغ يلتزم بأدائها في آجالها، كانت هناك أرباح أم لا، وربما قدمها عند تسلم الأموال المودعة.
وثالثا : أن اعتبار تلك المعاملة وكالة بأجر لا يصح أيضا، لأنه زيادة على ما تقدم فإن الوكالة بأجر تقتضي.
أولا: تعيين الأجر وتحديد مقداره عند العقد لحديث : >من استأجر أجيرا فليسلم له أجره<.
وهذا غير موجود لأن الذي يحدده البنك هو ما يعطيه للزبون رب المال، وأما ما يأخذه البنك كوكيل بأجر فغير معلوم.
وثانيا : لأن الأجرة في الإجارة تعتبر دينا في ذمة المؤجر يتبع بها كيفما كانت نتائج العمل . وفي المعاملة البنكية لا يعتبر أرباب الأموال مدينين للبنك بشيء إذا لم يحقق ربحا.
وبعد هذا كله كيف يمكن الجمع بين القول بأن هذه المعاملة وكالة، والقول بإعطاء الربح للبنك وتضمينه المال، فهل يوجد في الفقه الإسلامي من يعطي الأرباح للوكيل ويضمنه الخسارة؟ وكيف سمح البعض لنفسه بالاستدلال بحديث البخاري السابق على أن هذه المعاملة وكالة استثمار للطرفين. بينما الحديث صريح في أن عروة البارقي دفع الشاة والدينار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ لنفسه إلا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالبركة في بيعه
> التبرير السابع : قالوا إن ولي الأمر إذا رأى أن تحدد البنوك الأرباح مقدما فلا بأس بذلك وهو تبرير واه ، فإن تحديد الربح مقدما حرام بالإجماع ، والحاكم لا يجوز له الأمر بالحرام وخرق الإجماع. وإذا أمر به فلا تجوز طاعته، ويجب الإنكار عليه لحديث : >لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق<، وحديث : >إنما الطاعة في المعروف< وحديث : >من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان<.
—
1- أحكام القرآن للجصاص 1/465 1
2 – أسباب النزول للواحدي 59 ، ونحوه لابن رشد في المقدمات : 4/259
3 – حاشية كنون على الرهوني : 5/93
4 – الفتح : 6/228