الخطبة الأولى
قال تعالى : {شَرَعَ لكُم من الدِّين ما وَصَّى به نُوحاً والذي أوْحَيْنا إِلَيْك وما وَصَّيْنا به إبْراهِيم ومُوسَى وعِيسَى أن أَقِيمُوا الدِّين ولا تتَفَرَّقُوا فِيه}.
إن الله تعالى لو قدَّر أن الإنسان يُمْكن أن يختطَّ لنفسِه بنفْسِه مَنهجاً صالحاً أثْناءَ سَيْرِه في مجاهيل الحياة الدنيا، منهجا صالحاً يكْفُل به سعادة الحاضر ويضْمَنُ له المستقبل الرَّغِيد بعد انتهاء دوره في الدنيا. لو أراد الله تعالى أن يكون الإنسان قادراً على الاكتفاءِ بنفسه، لتَرَكَهُ بدون إرسْال رُسُلٍ، وبدون إنزال كُتُب.
ولكن الله عز وجل يعلم أن الإنسان عاجزٌ عجزاً تامّاً عن الاكتفاء بنفسه في مَجَالِ معْرفةِ الطريق المُوصلة للسعادة والسلامة في الدنيا والأخرى.
ولذلك أرسَلَ الرسلتلو الرسل، وأنزل الكُتُب تَلْوَ الكتب تُوضِّح للإنسان المنهج السليم، وتُنيرُ له الطريق الأقْوم، علَّ هذا الإنسان الضعيف العاجزَ يُنْقِذُ نفسَه من المهالك والمعاطب في الدنيا والآخرة.
هذا المنهجُ هو الذي سماه الله تعالى ديناً، والدِّين ليس برنامجاً سياسيّاً، ولا برنامجا تعليميا، ولا برنامجاً اجتمعاياً، ولا مشروعاً انتخابيّاً، ولا مظْهراً شكليّا يؤديه الإنسان في المناسبات، كلاَّ. ولكن الدّين معناه الخضوعُ قَلباً وقالَباً، مخْبَراً ومظهراً، باطناً وظاهراً لله ربّ العالمين، الذي لا يُخْدَعُ، ولا تنْطَلِي عَلَيْه الحِيَل، لأنه سبحانه عالِمُ الغيب والشهادة، يعْلَمُ الجَهْرَ وما يخْفَى، يعْلَمُ ما تُكِنُّه الصُّدُور وما تُضْمِرُه النفوس، وما تقترفُه الجوارح، ولأنه سبحانه وتعالى لا ينْسى ولا ينَام ولا يَغْفُل {لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ ولاَ نُوْمٌ} {وعِنْدَهُ مَفَاتِح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلمُ مافي البرّ والبَحْر وما تسقُط من ورقة إلا يعلمها ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين} {يَعْلمُ ما يَلِجُ في الأرْض وما يخرجُ منها وما ينزل من السماء وما يعرج فِيها وهو معكم أينما كُنْتُم واللَّهُ بما تَعْملون بَصِير}.
ولهذا قال الله تعالى لنا على لسان جميع الرسل {أنْ أقِيمُوا الدِّين} ولم يقل : أدُّو الدّىن، أو تظاهروا بالدين، أو الْبَسُوا أشكال الدين. ولكن {أَقِيمُوا} ولا تَتِمُّ الإقامة للدين على حقيقتها إلا إذا كان المُقيمُ للدين يعْرفُ حقيقَة الله تعالى الذي يُقام لَهُ هذا الدِّين، يعْرفُ عِلمَه، ويعرف قوته، ويعرف عظمته، ويعرف أكْبريَتَه، أي أنه أكْبَرُ من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، وأقوى من كل قوي، وأرحَمُ من كل رحيم..
ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه بعث لنا الرُّسُلَ وأنزل لنا الكتب لنمشي على بيّنَةٍ من أمرنا في كل شأن من شؤوننا.
فالله تعالى قال {أنْ أَقِيمُوا الدّين} وقال {وأَقِيمُوا الصّلاة} وقال : {وأقِيمُوا الشهادة لله}.
فالإقامة معناها : لبْسُ الدِّيــن، ومعناها : الانصباغ بالدِّين، قال تعالى : {صِبْغَةَ اللَّهِ ومَنْ أحْسَنُ مِن اللَّهِ صِبْغَة} وقال {ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر} فلنَنْجَحَ في حياتِنا الدنيويّة والأخرويّة لابُدَّ مِن إقامة الدِّين بِبُعْدَيْه الباطني والظاهري، والباطن قبل الظاهِر، أي تحْسِين الباطن بالإخلاص والصدق والمحبة والطاعة قبل تحسين الظاهر. تحسين الباطن بالإيمان والامتثال التام لأوامر الله تعالى. بدون تردُّدٍ ولا مناقشة ولا مراجعة.
فإن أقبحَ غَزْوٍ غزانا به المُلْحِدُون الجاحِدُون من كفَرة اليهود والنصارى وفسَقَة الفجار والدُّعَّار هُو أنَّهُم عَلَّمُونا الكَذِبَ على أنفسنا وعلى الله وعلى الناس، الكذِبَ في السياسة، الكذب في التجارة، الكذب في المعاملة، الكذب في الإعلام، الكذب في الدّعاية، الكذب في الانتخابات، أي إقامة الحياة كُلِّها على الكذب والخداع والمخاتلة.
أما الطّامة الكبرى فهي : الكذب في الدِّين، وقد فضح الله تعالى مُصَنِّعِي مَدْرسَة الكذب، ومُصَدِّري سِلعَتها، فقال {يَقُولون بأفواهِهم ما ليس في قلوبِهم والله أعْلم بما يكتمون}(آل عمران : 167) وقال : {أفتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدّنيا ويَوْم القيامة يُرَدُّون إلى أشدّ العذاب ومَا الله بغافِلٍ عما يعْملُون}(البقرة : 84) وقال {أفكُلّما جاءكُم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتُم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقْتلون}(البقرة : 86) وصدّروا سلعة الكذب للمنافقين فقالوا لهم : {آمنوا وجْهَ النّهار واكْفُروا آخره لعلهم يرجعون}(آل عمران : 71).
ومن جملة أساليب الكذب التي يخدعون بها الناس : ابتكارُهُم أيّاماً لتلهيةِ الناس وخداعهم بالشعارات، فاخترعوا : يوما للطفل، ويوماً للبيْئة، ويوما للشيخوخة، ويوماً لحقوق الإنسان، ويوماً لمحاربة الرشوة، ويوما للمرأة، ويوماً للعمل، ويوماً لمحاربة السِّيداً. بماذا يحاربون الرشوة والسيدا وتلوث البيئة؟! يحاربون كل ذلك بالكلام المُعَاد المَكْرُور المُمِلِّ، وفي نَفْسِ الوقْتِ يُغْرقون المجتمعاتِ بالتلوِّث الأخلاقي المُفسِد للضمائر والأعراض.
لقد مرَّ على ظهور مَرَضِ السيدا أكْثرُ من عقْدٍ من الزمان، وعُرفَتْ أسبابُه تماماً، وهي التي تتلخَّصُ في التحلُّلِ الأخلاقي المتمثِّل في انتشار فَاحِشَة الزنا، وفاحشةِ اللّواط. ألم يقل الله تعالى في فاحشة الزنا : {ولا تَقْربُوا الزِّنا إنَّه كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاَ}(الإسراء : 32) وقال : {ولاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَر مِنْها وما بَطَن}(الأنعام : 151) فالله عز وجلنهى عن مُجَرَّدِ القُرْب، حتى لا نصل إلى الوقوع، أي أن الله تعالى يُداوِينا بالوقايات، لأن الوقاية أفضل من العلاج. ومن الوقايات :
1) عَدَم التفكير في الفاحشة أصْلاً، وذلك لا يتم إلا بملء أوقات الفراغ، وملء أوقات الشباب والشابات بالعمل الجدي الصالح، فهل حقا آباؤنا ومسؤولونا وحكوماتنا ورؤساؤنا مشغولون بهَمِّ التخطيط لملء أوقات الإنسان بالطموحات السامية والاهتمامات العالية؟!
2) تعليم الكبار والصغار طُرُق العِفة وتدريبهم عليها، وحثُّهم على سلوك سُبُلها، من إيمان بالله، وحفظ لكتاب الله، وتزوُّدٍ بالمثُل العليا من الصالحين والصالحات، فهل مدارسُنا ومساجدُنا ومعاملنا تقوم بذلك؟!
3) اختيار الرُّفقة الصالحة لأبنائنا وبناتنا وأنفسنا لنتعلم منها كيف نَخْشَى الله عز وجل في السر والعلانية.
4) توْعيةُ الكبار والصِّغار برسالة الإنسان في الحياة، فالله لم يخلق الإنسان عبثا، ولم يخلق الكون عبثا، فهل نقوم حقا بالتوعية بهذا الدور عن طريق التعليم، والإعلام، والأسرة والإدارة، والملعب، والشارع، والمسجد؟!
أليس غريباً أن يكون لنا يوْمٌ لمحاربة السيدا، والكثيرُ من مجتمعاتنا تحاربُ الحجاب، وتنشر العُرْيَ، والخلاعة عن طريق المسلسلات وأفلام المجون، وأغاني الإباحة، بَلْ وتأسيس مواخير الفساد في الرياضات والفنادق وعُلَب الليل؟! هل بهذا تحارب السيدا؟! فاللهم تداركنا برحمتك.
الخطبة الثانية
أليس غريباً أن يقول الله تعالى : {إنَّ الذِين يُحبُّون أن تَشَيعَ الفاحشةُ فِي الذِين آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ في الدُّنْيا والآخرةِ واللّه يعْلَمُ وأنْتُم لا تَعْلَمُون}(النور : 19) والذين يناقشون هذا المرض الخطير المعروف الأسباب يحصِرُون العلاجَ في اسْتعْمالِ العازِلِ الطِّبِّيّ، كأن العازِل الطبِّي جوازُ المرور لارتكاب الفاحشة بدون مؤاخذة، وكأن استعمالالعازل الطبي يُسقِط حقوقَ الله تعالى، وحقوق المجتمع، من أين جاء هذا الفهمُ الأعْوج؟! ومن أيْن هذا العلاج الأعْرج؟!
جاء كل هذا من تأثُّرنا بالنظرة الكُفْرية الاستعمارية التي تعْتَبِر ممارسة الفاحشة حَقّاً من حقوق الفرد، رجلاً كان أو امرأةً يمارسُه في الحلال أو الحرام، لأن هؤلاء الكفار المستعمرين لا يفرقون بين الحلال والحرام، ولهذا فهُمْ يَرَوْن أن ممارسَة الفاحشةِ برضا الطرفَيْن لا مؤاخذة عليها، ولا عقاب، سواء بين الرجل والمرأة، أو بين الرجل والرجل، أو بين المرأة والمرأة، كُلُّ ذلك حَقٌّ من حقوق الإنسان، ولا حَقَّ لغَيُور، أو مُصلح، أو مَسْؤُول، أو رجُل إعلام، أن يُنكر ذلك. فهُمْ يرَوْن بناءً على هذه النظرة أن استعمال العازل الطبي فقط هو الكفيل بوقاية الإنسان من عقوبة السيدا. والمسلمون المغزُوُّون من الاستعمار بهذه النّظرة، أصبحوا يتبنَّون نفس النظرة، ونفس العلاج، متناسين علاجنا الحاسم، وعِلاجَ الإسلام الحاسم في قضية الفاحشة. وهو الذي يتمثل في :
> تسهيل الزواج > وفي إلزام المرأة بستْر مفاتنها عن الرجل > وفي عدم اختلاء الرجل بالمرأة بدون محرم > وفي غض البصر > وفي عقاب الزناة بأقسى العقوبات إذا جاهروا بذلك > وفي تبيين مفاسِد الجريمة العِرْضية وخطورتها على الفرد والمجتمع أخلاقيا واقتصاديا وسياسيا > وفي تبيين عقوبة الله تعالى في الآخرة لمن لم يُعاقَب في الدنيا.
الفرق في اختلاف النظرة هو أن الكفار لا يومنون بالله تعالى، ولذلك فهم لا يعرفون له حقا. بينما المسلمون يعرفون الله تعالى ويومنون به، ويعرفون حقَّه، ومن حقه سبحانه أن ينهانا عن فِعل كُلِّ ما يُفسِدُ عقولنا أو أعْراضنا، أو أموالنا، وأن يأمُرَنا بمعاقبة كُلِّ من تجاوز الحدود، ومن حقه أن يعاقبنا في الدنيا والآخرة إذا نَحْنُ فرطنا في أمْر من أوامره، أو نهْيٍ من نواهيه. وهذا هو ما يُْعرف بَيْن المسلمين بحقّ اللّه في الشّرْعِ الإسْلامي، أو الحقِّ العامِّ في العُرْفٍ القانوني.
وعلى هذه النظرة الإسلامية :
< فالأب مُواخَذٌ ومحاسَبٌ إذا رضي الفاحشة لابنته أو ابْنِه، ومؤاخذ إذا اشترى لابنته اللباسً العاريَ الكاشف ورضي به وكذلك الزوج بالنسبة لزوجته، والأخ بالنسبة لأخته، وكذلك كل مسؤول سواء كان مديراً أو أستاذاً، أو شرطيا، أو قائداً…. >فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته<.
فقول الله تعالى {قُلْ للمومِنِين يغُضُّوا مِن أبْصارِهم ويحْفَظوا فُرُوجَهم} (النور : 30) لازِمٌ ومُلزم، لجميع المومنين والمومنات.
الدعاء.
ذ. أبــو الأنوار