أول السمات التي تضفي على الأدب جمالا وتميزا سمة الصدق، يقول تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلمُ الذين ظَلموا أيَّ منقلب ينقلبون}(الشعراء.224 -227). فالآية تبرز بوضوح جمالية الصدق في الأدب والفن عموما.
وترى المعاجم اللغوية أن الصدق ضد الكذب، و تفسر بعض كتب البلاغة العربية الصدق بأنه مطابقة الخبر للواقع، والكذب بعدم مطابقته للواقع، لكن الصدق في الأدب يعني الصدق الشعوري المنبعث من الإيمان، والناتج عن الالتزام بقيم الإسلام. وهذا الصدق في العمل الأدبي لا يتناقض مع التعبير الفني وجماليته ووسائله المختلفة طالما أن هذه الوسائل توضحالحقيقة، وتكشف عن كنهها، وتؤكدها في ذهن المتلقي.
وقد وردت هذه السمة ضمن قول عمر بن الخطاب في زهير بن أبي سلمى: “ولا يمدح الرجل إلا بما فيه”1. وهي عبارة يُفهم منها معنى الموافقةٍ مع واقع الحال، أو الصدق في الواقع. كما وردت كلمة الصدق في بيت شعر لحسان بن ثابت بمفهوم مطابقة نفسية الشاعر أو حاله2:
وإن الشعر لب الـمرء يعرضه
على الــمجــالــس إن كَيسًا وإن حُمُقًا
وإن أشـعــــــر بـيـت قـــــائــلـه
بـيـت يـــقـــــال إذا أنــشـــدتــه صــدقا
وقد خاض عديد من النقاد العرب في هذا المفهوم بعد ابن الخطاب وابن ثابت أمثال الجاحظ وابن طباطبا وغيره، يقول الجاحظ: “وأنفع المدائح للمادح وأجداها على الممدوح وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً أن يكون المديح صدقاً ولحال الممدوح موافقاً وبه لائقاً.” فمن خلال هذه القولة تتجلى لنا بوضوح الدعوة إلى الإلتزام بالصدق في الشعر عنده. ووقفإحسان عباس3 على معنى “الصدق” في نقد ابن طباطبا في كتابه “عيار الشعر”، فرأى أن لدى ابن طباطبا استعمالات مختلفة له:
1. الصدق الفنّي أو إخلاص الفنان في التعبير عن تجربته الذاتية. يقول ابن طباطبا “فإذا وافقت هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند المستمع لا سيّما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها استفزازًا لما كان يسمعه”4.
2. صدق التجربة الإنسانية -وهذه تتمثل في قبول الفهم للحكمة- يعلل ابن طباطبا ذلك “لصدق القول فيها، وما أتت به التجارب منها”5
3. الصدق التاريخي وذلك “يتمثل عند اقتصاص خبر أو حكاية أو كلام “6.
4. الصدق الأخلاقي ، فالقدماء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مدحًا وهجاءً … إلا ما قد احتمل الكذب فيه حكم الشعر من الإغراق في الوصفوالإفراط في التشبيه…. فكان مجرى ما يوردونه مجرى القصص الحق والمخاطبات بالصدق7.
5- الصدق التصويري ، ويسميه ابن طباطبا “صدق التشبيه” فعلى الشاعر “أن يعتمّد الصدق الحق والوفق في تشبيهات”8.
وفي العصر الحديث نجد من المهتمين بمفهوم الصدق في الأدب الناقد محمد النويهي الذي وضع كتابًا خاصاً يعالج موضوع “الصدق في الأدب”، ويتبن لنا من خلاله صعوبة التحديد مطلقاً، رغم أنه قدّم لنا فيه بعضًا من شروطه:
1- تكون عاطفة الأديب التي يدّعيها قد ألمت به حقاً، وأن تكون عقيدته التي يبثها هي عقيدته الحقيقية في الموضوع التى يتناولـه.
2- أن تكون حدة تصويره ناشئة عن حدة شعوره وقوة حساسيته – لا عن رغبة المبالغة والتهويل.
3- ألا يخالف تصويره النواميس البدائية للكون كما نعرفه، ولا حقيقه السلوك – السلوك الإنساني فيما نخبره من البشر في تجاربهم ومواقفهم (هذا فيما عدا الموضوعات الخرافية والأسطورية …..).
4- أن يكون من شأن صنعته أن تزيد عاطفته جلاء وقرباً، لا أن تقف أمامها حجاباً يشغلنا تأمله من النظر فيها”9
وهذه الاستعمالات المختلفة للصدق تجتمع حول معنى تحري الحق، من هنا فالصدق في الأدب يتحقق إذا انطلق من عاطفة المبدع وانفعاله، وصدر عن رؤيا متعمقة للواقع والأشياء تتجاوز الأحداث لاستبصار أبعادها الجوهرية والجمالية.
دة. أم سلمى
umusalma@Islamway.net
——-
1 – العمدة. ابن رشيق. ج 1 . ص 80.
2 ديوان حسان بن ثابت. ص 169.
3 – في كتابه : تاريخ النقد الأدبي عند العرب.
4 – عيار الشعر . لبن طباطبا. ص 21-22.
5 – نفسه. ص 125. // 6 – نفسه. ص49. // 7 – نفسه. ص 15. //8 – نفسه ص 22- 23.
9 – محاضرات في عنصر الصدق في الأدب، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1959.