مفهوم الإيمان
غني عن القول أن قضية الإيمان هي قضية مصيرية بالنسبة للإنسان, إنها سعادة الأبد أوشقاوة الأبد. إنها الجنة أبدا أوالنار أبدا.
والإيمان هوالأصل وما عداه فروع ومكملات, هوالأساس الذي يقوم عليه صرح المجتمع الإسلامي, وتنبع منه جميع قيم الحياة المثلى, والإيمان ليس مجرد إعلان المرء بلسانه أنه مؤمن فما أكثر المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تومن قلوبهم.
{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمومنين, يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون}(البقرة : 8- 9).
- وليس مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتاد أن يقوم بها المؤمنون، فما أكثر الدجالين الذين يتظاهرون بالصالحات وأعمال الخير وشعائر التعبد وقلوبهم خراب من الخير والإخلاص لله تعالى.
- وليس هومجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان فكم من قوم عرفوا حقائق الإيمان ولم يؤمنوا {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا}(النمل : 14).
وحال الكبر أوالحسد أوحب الدنيا بينهم وبين الإيمان بما علموه من بعدما تبين لم الحق {وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}(البقرة : 46).
- إن الإيمان في حقيقته عمل نفسي يبلغ أغوار النفس ويحيط بجوانبها كلها من إرادة وإدراك ووجدان…
وبعبارة أخرى انه منهج كامل لكل مجالات الحياة، لا يكون إيمانا حقا حتى يكون تطبيقا عمليا في واقع حياة المسلم، فالإيمان هوالذي يهذب الحياة ويسموبها إلى المدنية الحق، وإذا سيطر الإيمان على الإنسان أثمر فضائل الإنسانية العليا من الضياء والتعاون والإيثار والتضحية، ولقد كانت الدعوة إلى الإيمان أول مهمة قام بها رسول الله ليكون حجر الزاوية في بناء الفرد المسلم والأمة المسلمة. قال : >ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوما ألهتهمأماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا :نحن نحسن الظن بالله تعالى، وكذبوا لوأحسنوا الظن لأحسنوا العمل<(رواه البخاري)
من ثمار الإيمان
إن القرآن الكريم اعتبر كل ما يقوم على غير أساس الإيمان من علم وعمل خروجا على منهجه وضلالا يؤدي إلى الفساد والإفساد واعتبر الإيمان نورا وحياة وبعثا {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}.
فلا بد أن يقوم المجتمع على أساس الإيمان، وتنشأ الأجيال على الإيمان، وتبنى الأسر على الإيمان، وتوزن أقدار الناس بميزان الإيمان…
فالسعادة كل السعادة في الإيمان، وهي تحتاج إلى عناصر ثلاثة : إيمان بالله عز وجل إيمانا حقيقيا، واستقامة على أمره، وعمل صالح تجاه خلقه، وهذه متوافرة في كل زمان ومكان.
“غاضب زوج زوجته، فقال لها: لأشقينك! فقالت الزوجة في هدوء:لا تستطيع أن تشقيني،كما لاتملك أن تسعدني،فقال الزوج في حنق : وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة : لوكانت السعادة في مال وكنت تملكه لقطعته عني، ولوكانت السعادة في الحلي والحلل، لحرمتني منها، ولكنها من شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون، فقال الزوج في دهشة: وماهو؟ فقالت الزوجة في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي ،وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي.
هذه هي السعادة الحقة التي لا يملك بشر أن يعطيها، ولا يملك أحد أن ينتزعها ممن أوتيها.
الوسائل الشرعية لتجديد الإيمان
من المرتكزات المهمة في فهم قضية ضعف الإيمان وتصور علاجها هومعرفة أن الإيمان يزيد وينقص, فإذا ما تراخت الهمة الإيمانية وفترت العزيمة الروحية ارتد الإنسان إلى أسفل سافلين.
عن النبي قال : >إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم<(رواه الحاكم والطبراني).
وفيما يلي ذكر لعدد من الوسائل -على سبيل المثال لا الحصر- التي يمكن للمسلم أن يعالج بها ضعف إيمانه ومن ثمّ يجدده.
1) فهم الدين نفسه : فالمسلم الذي ذاق حلاوة الإيمان وفهم دينه فهما صحيحا لا ينصرف عن العمل في ميدانه وأقصد هنا الفهم المعتمد على الكتاب والسنة. الذي يستطيع أن يقيم في ذهن الإنسان المسلم المعالم الرئيسية للحياة الإنسانية كما يريدها الإسلام.
إن الإنسان المسلم إذا اتضحت أمام ذهنه هذه الحقائق صعب عليه أن يحيا دون إسلام- ووجد نفسه مدفوعا بصدق وإيمان- إلى البحث عمَّن يتعاون معهم على الخير والوصول إلى الحق.
2) الإقبال على كتاب الله عز وجل : تلاوة، وفهما وتدبرا، وعملا، ومدارسة، وتبليغا، ولا شك أن فيه علاجا عظيما ودواء فعالا، قال الله عز وجل : {وننزل من القرآن ما هوشفاء ورحمة للمؤمنين}(الإسراء : 82).
وقد كان رسول الله يتدبر كتاب الله تعالى ويردده وهوقائم بالليل، وكان صحابته رضي الله عنهم أجمعين يقرأ ون ويتدبرون ويتأثرون، وكان أبوبكر ] رجلا رقيق القلب إذا صلى بالناس وقرأ كلام الله لا يتمالك نفسه من البكاء، ومرض عمر بن الخطاب ] من أثر تلاوة قوله تعالى : {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع}(الطور : 7- 8).
وقال عثمان ] : >لوطهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله<.
ويلخص ابن القيم رحمه الله ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه بالقرآن لتجديد إيمانه، فيقول : “ملاك ذلك أمران : أحدهما، أن تنقل قلبك من وطن الدنيا، فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها، وتدبر وفهم ما يراد منه، وما ترك لأجله، وأخذ نصيبك من كل آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ القلب بإذن الله”.
3) المواظبة على حضور مجالس القرآن الكريم مدارسة وتدبرا ولذلك قال عز وجل : {كتاب أنزلنه إليك مبارك ليدبروا آياته ويتذكر أولواالألباب}(ص : 29).
فجعل غاية انزاله للقرآن التدبر والتذكر، ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هويقظة القلب، وعمران الوجدان بالإيمان. وقد فقه الصحابة الكرام هذا المقام الرفيع للقرآن الكريم، فتلوه حق تلاوته، وتدبروا معانيه، وانطلقوا من توجيهاته، واتبعوا أحكامه، فسهل الله تعالى دربهم وأنار سبيلهم،ووفقهم وأعانهم، فتغيرت قلوبهم وعقولهم وأفعالهم،وصاروا سادة الدنيا وقادة الأرض.
4) الحضور المستمر لمجالس ولقاءات الذكر الإيمانية كمحطة للمداومة على تجديد الإيمان ساعة : >تعال نؤمن بربنا ساعة< مقالة كانت للصحابي الجليل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يقولها إذا لقي الرجل أصحابه، فقال مقالته ذات يوم لرجل فغضب الرجل فجاء إلى النبي فقال، يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة ] يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال النبي : >يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بهاالملائكة<(رواه أحمد بن حنبل وانفرد به في مسنده عن أنس ابن مالك رضي الله عنه).
وبذلك كان ابن رواحة يجدد إيمانه ويذكر إخوانه بتجديد هذا الإيمان. وهوأمر مطلوب ممن يخالط أغيار الدنيا وتعلق بقلبه وأدرانها، فلا بد من الجلاء والصقل والتنظيف، وهذا لا يتحقق إلا بتذكر المعاني السامية التي كان عبد الله بن رواحة ] يتعهد بها إخوانه.
إن مجالس الذكر، وحلق التقرب من الرب الرحيم جل وعلا، هذه لها من الفوائد والجوائز ما ذكره الرسول : >وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده<(رواه مسلم).
إن الناس تغشاهم ساعات الغفلة كما تغشاهم ساعات الرحمة، فلا بد من تجديد الإيمان حتى تنمحي الغفلة وتحيى اليقظة في قلب العبد المؤمن، فإذا ما وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من السموفإنه يحمل هذا الإسلام بنفس غير نفسيات البشر، وبعزيمة تصغر دونها العزائم ويعتبر نفسه أنه هوالمكلف بهذا الدين، فالأمر الإلهي موجه له والنهي الرباني يعنيه وهكذا…
رحم الله ابن رواحة الذي كان يحب مجالس الذكر، والذي كان يدعولها في كل حين ولحظة دون ملل ولا كلل، رحم الله ابن رواحة الذي علم عمق الأثر الإيماني التي تحدثه مثل هذه المجالس في قلوب العباد.
5) عدم إضاعة الوقت في الحديث عن أمجاد الإسلام والفئة المؤمنة ومشكلاتها، مما يؤدي بالانسان المسلم إلى الانطواء والانزواء وضعف الإيمان، بدل العمل والعطاء والبناء للحاضر والتمهيد للمستقبل…
إنما يخط للمستقبل الذين يعرفون ماضيهم وحاضرهم، ثم ينتقلون بسرعة وإحكام إلى وضع الخطوط العملية التي تتحول بها العبرة والتجربة إلى مشروع متكامل.
6) الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت مع المسارعة إليها والاستمرار عليها والاجتهاد فيها وتنويع العملوهوأمر عظيم وأثر في تقوية الإيمان وفي تجديده ظاهر كبير، وقد ضرب الصديق في ذلك مثلا عظيما، يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : >من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبوبكر ] : أنا، قال : فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال : أنا، فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبوبكر ] : أنا، قال : فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبوبكر رضي الله عنه : أنا، فقال رسول الله : >ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة<(رواه مسلم).
فهذه القصة، تدل على أن الصديق رضي الله عنه كان حريصا على اغتنام الفرص، وتنويع العبادات والقرب، وكانت أيامه حافلة بالطاعات.
فكلما نوع العبد من قربه الخيرات، وتقلب بين جنباتها كلما جدد إيمانه، وتعرف على الحال التي هي أنفع لقلبه وأتقى لربه…
ومن رحمته تعالى وحكمته أن نوع علينا العبادات وأعمال الخير كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر والدعاء، وحتىالنوع الواحد ينقسم فرائض وسنن مستحبة والفرائض تتنوع، وسبحان الذي جعل أبواب الجنة على أنواع العبادات كما جاء عنه : >من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة<(رواه البخاري ومسلم).
7) ذكر الله تعالى وهوجلاء القلوب وشفاؤها وهوروح الأعمال الصالحة، وقد أمر الله به، حيث قال عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا}(الأحزاب : 41).
و{اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}(الأنفال : 45) و{ولذكر الله أكبر}(العنكبوت : 45) و{ألا بذكر الله تطمئن القلوب}(الرعد : 28) و>لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله<(رواه الترمذي وابن ماجه).
وهومرضاة للرحمان مطردة للشيطان مزيل للهم والغم وجالب للرزق فاتح للأبواب المغلقة وهوغراس الجنة وسبب لترك آفات اللسان كالجدال والمراء، وهوسلوة أحزان الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فعوضهم الله بالذكر الذي ينوب عن الطاعات البد نية والمالية ويقوم مقامها.
فالبدء بهذا العلاج والحرص عليه من شأنه أن يجدد الإيمان ويقويه ومن ثمّ يقوي الصلة بالله عز وجل وتسهل عليه الطاعات كقيام الليل والنوافل من صيام وصدقة…
8) الإكثار من ذكر هادم اللذات وزيارة المقابر : فترقب الموت وتصور أهواله والعلم بقرب الرحيل من أنفع الأمور للقلب، فهويعلي الهمة الإيمانية، ويزهد في الدنيا: ويبعث على الجد في العمل.
9) الخوف من سوء الخاتمة : لأنه يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان في القلب، وأحوال الناس في سوء الخاتمة كثيرة سطر أهل العلم عددا منها، فمن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء. أنه قيل لبعضهم في موته.قل. لا اله إلا الله، فقال لا أستطيع أن أقولها، وقيل لآخر: قل لا اله إلا الله فجعل يهذي بالغناء، وقيل لتاجر لما حضرته الوفاة. قل لا اله إلا الله ، فجعل يقول هذه قطعة جيدة… هذه على قدرك… هذه مشتراها رخيص حتى مات.
10) محاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان وذلك لقوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبــير بما تعملون}الحشر : 18).
وقال عمر بن الخطاب : >حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا…<.
فلا بد أن يكون للمسلم وقت يخلوفيه بنفسه فيراجعها ويحاسبها وينظر في شأنها. وماذا قدم من الزاد ليوم الميعاد. – وهذا باعث على تجديد الإيمان-.
11) الدعاء : من أقوى الأسباب التي ينبغي للعبد أن يبدلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “إن الإيمان ليخلق من جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم.” رواه الحاكم والطبراني.
وختاما أقول : إن الداعية إلى الله تعالى لابد أن يكون مفطورا على الإيمان ,وأن يحاول ما وسعه أن يقوي هذا الإيمان ويجدده باستمرار , ويزيد ه من الطاعات والقربات ,حتى يكون أهلا لحمل أعباء الدعوة إلى الله تعالى، ويستشعر المسؤولية في العمل لهذا الدين ويسعى لنشره والتبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.آمين
ذ.محمد يعقوبي