نوقشت بجامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ كلية الآداب ظهر المهراز ـ شعبة الدراسات الإسلامية ، وحدة القرآن والحديث وعلومهما ، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه بتاريخ 17/7/2006 ، التي تقدم بها الطالب الطيب الوزاني ، وقد منحت اللجنة العلمية الطالب ميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع ، وهذا ملخص التقرير الذي تقدم به الطالب أمام اللجنة العلمية :
الحمد لله على نعمتي الإيجاد من عدم ، والإمداد بسائر النعم ، وصل اللهم وسلم على المبعوث رحمة وحجة على العالمين، سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ، فإن الكلام في هذا التقرير سيشمل الحديث عما يلي :
أولا: إشكالات البحث
ينطلق هذا العمل في هذه الأطروحة من مجموعة من التساؤلات والإشكالات التي ظلت تؤطره وتوجهه ، ولعلأبرزها التساؤل عن :ما هي طبيعة المعارف في العلوم الشرعية كعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلم التفسير وأصوله وعلم الحديث وأصوله:أهي ذات طبيعة برهانية يقينية أم حجاجية ظنية ؟ فإن كانت برهانية يقينية فلماذا الاختلاف في مفاهيمها وقضاياها ونتائج استدلالاتها ؟أليست القطعيات مسلمة لا تقبل الخلاف فيها ؟ ألا يكون الخلاف الوارد على هذه العلوم آت من جهة الظن ؟ وهل وجود منطقة الظنيات قادح في القيمة العلمية لعلم ما ؟ فإن كان قادحا في علمية العلوم ، فهل يمكن أن يسلم من ذلك علم من العلوم، باعتبار أن كل العلوم تتضمن مجالا ظنيا يتحرك فيه إطاره الاجتهاد العلمي ؟فلو كانت نتائج أي علم علم يقينية لتوقف تطور ذلك العلم من أول لحظة ظهوره ؟ ألا يحق لنا القول بأن العلوم الشرعية وإن كانت تتضمن استدلالا برهانيا ونتائج يقينية فإنها أيضا يغلب عليها الظن ويتسع مجاله أكثر ؟ وإذا كان كذلك فأين تظهر هذه الطبيعة الظنية؟وكيف أثرت في نضج المقلات المعرفية وفي تطورها ؟ وكيف أدت إلى ظهور حركة الخلاف العلمي المعتبر ، والحجاج في مفاهيم هذه العلوم وقضاياها ونتائجها ؟ وهل كان هذا الحجاج عامل إثراء وإغناء للعلوم الشرعية خاصة والفكر الإسلامي عامة أم كان عامل هدم وتفرقة وتراجع حضاري ؟
هذه الأسئلة ومثيلاتها هي التي كانت محركا للبحث في هذه الأطروحة التي جاءت تحت عـنوان : “حجاجية المقال المعرفي في الفكر الإسلامي : دراسة في الحجاج وأثره في العلوم الشرعية ” فما هي المسلمات والفرضيات التي انبنى عليها العمل في هذه الأطروحة ؟
ثانيا : مسلمة البحث وفرضياته
إزاء الإشكالات السابقة وجد الباحث نفسه أمام مسلمة لا يمكن العمل بدونها، وفرضيتين لا يمكن التقدم في البحث من غير تقديرهما واعتبارهما.فالمسلمة تتعلق بوجوب التمييز في العلوم الشرعية بين دائرتين : دائرةما هو قطعي غير محتمل ، ودائرة ما هو ظني محتمل ؛فالمجال الأول غير قابل للخلاف وتفاوت الأنظار ، لأن المجادل في القطعيات لا يخرج عن أن يكون إما معاندا وإما جاهلا ؛ فإن كان معاندا وجب قطع مناظرته لأن المعاندة في القطعيات واليقينيات مكابرة ، والمكابرة غيرمسموعة عند أهل المناظرة ، أما إن كان جاهلا فحقه أن يعلم ويرشد لأنه لا حق للجاهل في المناظرة فيما يجهل. أما المجال الثاني فهو مجال قابل للاختلاف وتعدد الآراء وتفاوت الأفهام ، ومن ثم كان قابلا للحجاج وتدافع الآراء والاعتقادات ، كما أن تائج البحث والمباحثة فيه تكون نسبية وليست مطلقة ، ومحتملة للتفاوت والرجحان . وبناء على هذه المسلمة تأسست الفرضيتان التاليتان:
الفرضية الأولى: وتقوم على القول بأنه مادامت العلوم الشرعية يغلب عليها الطابع الظني فإنه يحتمل أن يغلب عليها الطابع الخلافي وتنبني علىها الحجاج لحل مسائل الخلاف.
الفرضية الثانية : وتقوم على افتراض أن غلبة الظن على مسائل العلوم قد لا يكون عيبا ولا منقصة في حقها بل قد يكون عاملا إيجابيا أسهم في ظهور الخلاف العلمي ونشأة الجدل والحجاج في مسائل هذه العلوم كما يحتمل أن يكون هذا الأمر سببا في تطورها وتزايد الأبحاث والمباحثة العلمية القائمة على أدلتها المعتبرة وحججها الراجحة والصالحة في الهدم والبناء المعرفيين.
ثالثا: أهمية البحث
ترجع أهمية البحث في موضوع ” حجاجية المقال المعرفي في الفكر الإسلامي : دراسة في الحجاج وأثره في العلوم الشرعية “إلى مجموعة من الاعتبارات العلية لعل أهمها :
أ ـ الأثر الهام الذي يضطلع به منهج الحجاج والمناظرة في تلاقح الأفكار وشحذ الأذهان ، وإكساب ملكة النقد العلمي ، وطرق فحص الحجج ومعارضتها ، والاقتدار على الترجيح بينها ، وقد كان لهذا المنهج أثره الواضح في مسيرة العلوم الشرعية :من حيث تقنينمباحثها وتقويم أدلتها ، الأمر الذي يستدعي البحث في هذا المنهج للكشف عن خصوبته المنهجية وصلاحيته للتطبيق على بقية العلوم الشرعية والإنسانية .
ب ـ أهمية الاستدلالات الحجاجية الطبيعية وغناها في مقابل الاستدلالات البرهانية الصوريةالتي أخذت بها المقالات الفلسفية فما رعتها حق رعايتها ، وذلك كله في محاولة للرد على كثير من الدعاوى القائمة على إضفاء الطابع اليقيني والبرهاني على المقالات الفلسفية وإعلاء قيمتها في مقابل التنقيص من قيمة نتائج المقالات الشرعية لمجرد أنها مقالات يغلب عليها الظن. لذلك يسعى هذا البحث إلى بيان قيمة المنهج الحجاجي وغنى استدلالاته مقارنة مع المنهج البرهاني .
رابعا : خطة الإنجاز
لتحقيق الأهداف المنشودة تم تقسيم هذه الأطروحة إلى ثلاثة أبواب مع مقدمة وخاتمة ، وأربعة فهارس تخص الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمصادر والمراجع ثم فهرس المحتويات .
فالباب الأول يحاول الإجابة عن إشكال : ” أين تتجلى مظاهر الحجاج في العلوم الشرعية ” وقد تم إبراز ذلك من خلال ثلاثة نماذج ومظاهر وهي : أولا تعريفات العلوم، وثانيا عوامل نشأة هذه العلوم وتطورها، وثالثا مصطلحات عناوين المؤلفات والكتب المدونة في هذه العلوم .
الباب الثاني يحاول الإجابة عن إشكال : “ما طبيعة مواد الحجاج الشرعي أهي برهانية قطعية أم هي ظنية رجحانية ؟ وماهي قيمة كل واحد منهما ؟ وهل يمكن اجتماعهما في الخطاب الواحد؟ “ولتحقيق الغرض من هذا الباب تم تناول مسألة القطع والظن في الأدلة الشرعية (الدليل السمعي ، والدليل اللغوي ، والقياس الشرعي والدليل العقلي).
أما الباب الثالث فجاء لتقريب القول في مجموعة من الإشكالات نحو كيف ساعدت مباحث القوادح الجدلية ومباحث التعارض والترجيح في تقنين البحث والمباحثة في سائر العلوم الشرعية ، وضبط مسالك النظر والمناظرةفي أي علم كان ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن حصر توظيفها في البحث الشرعي الإسلامي أم يصح تعديتها لتكون صالحة لتقنين البحث العلمي في العلوم الإنسانية وفي سائر العلوم ذات البعد الظني والعملي؟
رابعا: خلاصات ونتائج : من الخلاصات التي يمكن إيرادها في هذا المقام :
أ ـ إن الجانب الظني في العلوم ـ أيا كانت ـ له أهميته في إثارة الخلاف العلمي وتوفير الشروط العلمية لقيام الجدل والحجاج والمناظرة ، وحسن استثمار الخلاف والحجاج العلميين يؤدي إلى نضج مباحث العلوم في المسائل والمناهج .
ب ـ إن الطبيعة الحجاجية للمقال المعرفي في الفكر الإسلامي تتجلى في جوانب كثيرة لعل أبرزها جانب تعريف العلوم ، وجانب طبيعة المصطلحات الموظفة في عناوين المؤلفات ، وجانب الطبيعة العملية الواقعية حيث الارتباط بالحاجات الإنسانية العملية والاستجابة للتحديات الواقعية .
ج ـ إن التزام علماء المسلمينبمنهج الحوار والجدل والمناظرة في بناء مقالاتهم العلمية وفي حل خلافاتهم الموضوعية مع المخالف داخل الملة أو خارجها ليدل على كون الفكر الإسلامي فكرا حواريا حجاجيا يقوم على الاجتهاد العلمي الرصين وعلى مراعاة الخلاف العلمي المبني على دليله من أهله ، كما يدل على التحلي بروح التسامح الفكري والحرية والإستقلالية في البحث العلمي ، ويدل أيضا على رجاحة العقل وقوة التمكن الفكري : إذ ساعد الجدل مع المخالف أيا كان نوعه في تقريب هوة الخلاف وفي الاستفادة من مختلف الاجتهادات العلمية التي قويت حجتها وثبتت مناسبتها ؛كما ساعد الحوار مع المخالفين من خارج الملة على ممارسة الدعوة إلى الإسلام وتبليغه إلى الآفاق تبليغا علميا قائما على سلطة الحجة في البيان والإقناع .