10- مبادئ الإسلام في التزكية أحسن من المبادئ الغربية
نحن الآن نقلد الغرب الذي يرى أن بإمكان أي إنسان أن يطعن مثلاً في تولي بعض الناس مسؤوليات خصوصا المرشحين إذا ثبت أن هذا المرشح تعاطى المخدرات أو تعامل بها أو باعها، وعليه يمكن اقصاء بعض المرشحين إذا ثبت تورطهم في قضية المخدرات، وهذا جميل أن المتعاطي للمخدرات أو بائع المخدرات لا يصح أن يكون نائبا عن الأمة ولكن المعصية ليست هي بيع المخدرات فقط.
فهذا الذي نقوله بالنسبة لبائع المخدرات نقوله أيضاً إذا كان زانيا وإذا كان سكيراً، فما الفرق بين بيع المخدرات والسكر والزنى؟! كل ذلك حرام فإذا وجدنا أن إنساناً ما سكيرٌ أو زانٍ أو تاركٌ للصلاة أو مخلّ بواجباته الشرعية قلنا إنه لا يصلُح أن يليَ شيئا من أمور الأمة وتنتهي القضية، ونكون قد انسجما مع ديننا وأخذنا المبدأ من أوله إلى آخره، أي لا نُقَطِّع هذا الأمر فنأخذ منه ما نشاء، وندع ما نشاء. فلماذا نقصي فقط بائع المخدرات؟! أهو العاصي بمفرده؟! بائع المخدرات مجرم لاشك؟! ولكن هل بائع الخمر أقل منه إجراماً؟! هل الذي عنده خمّارة الآن وفتحها يعني أنه رجل صالح؟! أي يُرشَّح وينجح؟!.
مع الأسف أن هذا هو الواقع في مجتمع المسلمين المتخلفين؟! مع أنه يُعْتَبر مُجرماً، أما باقي المجرمين الآخرين فمعروفون، فالمرشون معروفون، والطاعنون في الله والرسول والدين معروفون، ومع ذلك يُرشحون وينجحون، لأننا نجرِّم ما جرمه الغرب فقط، وليس ما جَرّمه الإسلام.
توثيق التزكية بشاهدين عدلين كفيل بضبط الطريق للمسؤوليات
إن هذا سَبْقٌ ابتدأه الإسلام، ولاشكّ أن الناس في المستقبل حينما يحرصون على مصالحهم وعلى شؤونهم لابد أن يعودوا إلى هذا الأمر، ونحن الأمة الإسلامية لنا الضوابط التي بموجبها يمكننا أن نحاسب جميع الذين لا يصلحون لا لهذا المنصب فقط، بل لكل المسؤولياتولكل الولايات، حيث نقول لهم إن هذا لا يصلح لأنه سكير، وهذا لا يصلح لأنه بائع خمر، وهذا لا يصلح لأنه مُقامر، وهذا لا يصلح لأنه زان وهكذا نُشطب كثيرا من أسماء الذين أفسدوا فعلا، أو حين تولوا وجدناهم أنهم أفسدوا، أي الذين تولوا بغير مراعاة هذه الشروط ما فعلوا أبدا إلا الفساد والشر، وجاءوا على أصولهم لأنهم كانوا فسقة، فجاءوا بما يشهد بأنهم كانوا كذلك في سابق أمرهم، وهم لازالوا على ذلك.
إذن الله عز وجل يأمر بالإشهاد، أي بإشهاد ذوي عدل، وبالخصوص في حالة خاصة وهي حالة المراجعة والطلاق. لأن ما نحن بصدده من جو السورة يتحدث عن قضية الطلاق والمراجعة، فهؤلاء النساء إذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف.
ثم قال الله تعالى {وأشهدوا} أي على هذا بالضبط، أي على قضية التطليق أو الطلاق أو المراجعة، فيجب إشهادٌ على هذا لأن الإنسان إنما له فُرَصٌ قليلة معدودة للطلاقوالمراجعة الصحيحة، فالإنسان لا يمكنه أن يطلق كيفما شاء، كلّ مرة يطلق، وكل مرّة يراجع، إنما الأمر معدود، هناك طَلْقَةٌ تعقُبها طلقة، ثم تكون الطلقةُ البائنة بَيْنُونَةً كبرى، وينتهي الأمر، وتنتهي الأسرة، وتتنهي العلاقة والرابطة، والناسُ ربّما بحكم الحنين والشوق والندم على أنهم أساءوا ربما يغالطون أنفسهم في العَدِّ، فربما كان أحدهم قد طلّق طلاقا ثالثا فيُحاول أن يُغالط نفسه أو يُغالط أهله فيقول إنما هذه طلقة ثانية، ويُلغي واحدة من حسابه بدعوى أنه كان غضباناً فالناس يُحاولون في هذا المجال التلاعب بالعدد، فلذلك يلزم احضار الشهود حتى يكونوا شاهدين على أن الأمر تم على هذا النحو، لا على نحوٍ آخر، ولذا أمر الله تعالى بأن نُشهد عدلين لا يكتُمان الشهادة ولا يحرّفانها ولا يُغيّرانها.
الأمر في الشريعة الإسلامية يكون للوجوب وللإرشاد وللبيان
الأصل في الأمر {واشهدوا} يكونللوجوب، إذا حفت به قرائن وملابسات، تدل على ذلك، وأحياناً ينزل من درجة الوجوب إلى درجة الإرشاد أي إلى بيان ما هو أولى أي ليس كل أمر في كتاب الله ينصرف إلى الوجوب.
فالأصل أنه للوجوب لكن إذا جاء النهي عن الشيء ثم جاء بعده الأمر بفعل ذلك الشيء فالأمر لا يكون للوجوب وإنما يكون لتخفيف النهي أي أن الأمر الذي يعقب النهي يدل على الإباحة ولا يدل على الوجوب مثال ذلك أن الله سبحانه وتعالى نهى الحاج المحرم عن الصيد {غير مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُم حُرم} ثم قال الله تعالى : {فإذا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا} فهذا لا يعني أن كل حاج تحَلَّلَ يجِبُ عليه أن يصطاد، لا، إنما يحل له شيء كان ممنوعا. وهكذا الأمر في باب الأصول يتنوع بحسب القرائن وبحسب الملابسات التي تلابسه، فالمرأة التي جاءت تسأَل النبي عن أبي الجهم ومعاوية بن أبي سفيان اللذين كانا قد خطباها فقال لها : لا تنكحي معاويةولا أبا الجهم، أما معاوية فصعلوك لا مال له، أي كان معدما فقيراً، أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه، إما أنه كثير الضَّرْب للنَّاسِ، أو كثير السَّفَر، ولكن أَنكِحِي أسامة، فهذا لا يعني أنه يجب علينا بمقتضى هذا الحديث أن لا تتزوج المرأة رجلا فقيرا، أو رجلاً كثير السفر، لا، إنما هو بيان لهذه المشورة، وهذا الإرشاد، فأرشدها كما يُرشد أي واحد منا صديقه الذي يأتي ليسأله، وهذا لا يدخل أبدا في باب الوجوب.
فالذين حملوا الأمر على الوجوب {وأشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ منكم} قالوا : إن الإشهاد في حالة الطلاق والمراجعة واجب، وهذا قول ابن عباس، وأحد قولي الإمام الشافعي، وعنده أن الذي يُطلق امرأة يُشهد على ذلك، وإذا راجع أشهد على ذلك. من باب أن الأمر يُفيد الوجوب، وهو كذلك قول لطاووس بن كيسان ولبعض الفقهاء.
لكن جمهوراً من الفقهاء صرف هذا الإشهاد هنا إلى باب واحد وهو الإشهاد على المراجعة، ولا يتحتم عليه أن يُشهد عند الطلاق وإنما يُشهد عند الإرجاع، وهذا قول غالبية وعامة الفقهاء.
لكن الذي عليه مالك رحمه الله وهو قول كذلك لأبي حنيفة أن الإشهاد هنا إنما هو للاستحباب، بمعنى أنه يُسْتَحب للذي طلق أو راجع أن يُشهد فالطلاق، ينبرم وينعقد بلا إشهاد، من طلق زوجته بلا إشهاد فهي مطلقة، إنما الإشهاد مستحب للتوثيق ولضمان الحقوق، وكذلك إن راجع فهو يفعل نفس ذلك مثل ذلك، إن راجع أشهد رجلين على ذلك حتى يحتاط للأَمْر وهو عنده على سبيل الاستحباب ومُستند مالك رحمه الله وأبو حنيفة :
أولا أن عامة الصحابة والرعيل الأول من الصحابة لم يكونوا يفعلون أكثر من أنهم يُطَلَّقُون ويُشِيعون ذلك ولم يكونوا يتشدّدون في قضية الإشهاد، أو يشترطون إشهاداً هذه واحدة.
والأمر الثاني أن هذا الأمر عندهم مقيس على البيع، والبيع يُستحب فيه الإشهاد، وخصوصا إذا كان دَيْناً ومنه قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا تدايَنْتُم بدَيْن إلى أجل مسمًّى فَاكْتُبُوه} هو توثيق أيضا، أيْ زيادة في الإشهاد أن يُكتب ولكن هذا الأمر ليس واجبا أن يُكتب كل بيع، وكُلُّ دَيْن إلا إذا خِفْنا، إذن يبقى الأمر عند حدود الاستحباب وعليه فإن الإشهاد في الطلاق والرَّجْعة مُستحبٌّ كما قال مالك وأبو حنيفة، وهذان الدليلان فيهما نظر.
د.مصطفى بنحمزة