5- ملامح الرحمة في أوصاف الرسول
أما ملامح الرحمة في أوصاف الرسول وأخلاقه فهي التالية :
1- كان مثال التواضع، يجلس بين أصحابه فلا يتميز عنهم بشيء، بحيث إن الداخل على مجلسه ومجلس أصحابه لا يعرف من هو الرسول منهم. قال أنس بن مالك] “بينما نحن جلوس مع النبي في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، قال لهم أيكم محمد؟ والنبي متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا : هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل : ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي : قد أجبتك، فقال الرجل للنبي : إني أسألك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، فقال : سل عما بَدا لك، فقال : أسألك بربك وربن من قبلك، الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال : الله نعم.
قال: أنشدك، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال : اللهم نعم.
قال : أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال : اللهم نعم.
قال : أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا، فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي : اللهم نعم.
فقال الرجل : آمنت بما جئت به ، وأنا رسول مَنْ وَرَائي من قومي، وأنا ضِمَام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر.
وفي حجة الوداع كان يقوم بأعمال الحج، كما يقوم بها أي حاج، لم توضع له الاحتياطات لا في الطريق، ولا في مواقع المناسك. قال قدامة بن عبد الله ]، رأيت رسول الله يرمي الجمرة، على ناقة شهباء، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليكي(1).
وذات يوم كلم رسول الله رجل فَدهِش وارتعد، فقال له : >هوِّن عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد<، أي اللحم المجفف.
كان يكره أن يقوم الناس من مجالسهم تعظيما له. قال أنس بن مالك] : لم يكن شخص أحب إليهم من رسولالله كانوا إذا رأوا، لم يقوموا إليه، كما يعرفون من كراهية له.
وكان ، يشارك أهله في أشغال البيت، فقد سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : >ما كان رسول الله يصنع في بيته؟ قالت : كما يصنع أحدكم في بيته، يَخْصِف النعل، ويرقع الثوب<، وفي رواية أخرى : >كان في مهنة أهله<.
وقال عبد الله بن عباس ] ، كان رسول الله يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعْتقِل الشاة، ويجيب دعوة المملوك(2).
2- كما كان رسول الله مثال الحِلم، لا ينتصر لنفسه، وإنما يعفو ويصفح، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : >ما رأيت رسول الله منتصرا من مظلمة ظلما قط، إلا أن ينتهك من محارم الله شيء، وإذا انتهك من محارم الله شيء، كان أشدهم في ذلك، وما خُيِّر بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما<(3).
وفي غزوة ذات الرقاع سنة 9هـ، انتهز أحد المحاربين وهو غورث بن الحارث ـ فرصة القيلولة للرسول ، وللصحابة، فتسلل إلى موقع الرسول وأخذ السيف وقال للرسول : >من يمنعك مني؟ فسقط السيف م يد غورت، فأخذه رسول الله ، وقال : من يمنعك مني؟ فقال : كن خير آخذ قَدَرَ، فقال له : أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال عورث، لا، غير أني لا أقاتلك، ولا أكون معك، ولو أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، جاء غورث أصحابه فقال : جئتكم من عند خير الناس(4).
بل إنه من أوصاف الرسول وأخلاقه : أن محاولة استفزازه لا تزيده إلا حلما للمستفز. قال الحبر اليهودي الذي أسلم، زيد بن شُعنة : ما من علامات النبوة شيء إلا قد عرفتها في وجه محمد حتى نظرتُ إليه، إلا اثنتين لم أَخْبُرْهُما منه : سِبِقُ حِلمُه جهلَه، ولا يزيده شدةُ الجهل عليه إلا حلما، فكنت انطلق إليه لأخالطه فأعرف حلمَه من جهله.
وانتهز زيد فرصة حاجة الرسول من المال يؤلف به قبيلة أسلمت وأصابها الجفاف، فعقد مع الرسول عقدسَلَم(5) على التمر بثمانين دينارا.
ولما كان قبل الأجل بثلاثة أيام جاء يطلب اقتضاء دينه، قال زيد بن شعنة : فجدَبْتُ بُردَه جبذة شديدة حتى سقط عن عاتقه، ثم أقبلت عليه بوجه غليظ، فقلت : ألا تقضيني يا محمد؟! فوالله ما علمتكم ـ بني عبد المطلب ـ بمَطل وقد كانت لي بمخالطتكم علم.
قال زيد بن شعنة، فارتعدت فرائص عمر ]، وقال : أي عَدُوًّ الله، أتقول هذا لرسول الله، وتصنع به ما أرى، وتقول له ما أسمع؟! فوالذي بعثه بالحق، لولا ما أخاف فَوْتَه لسبق رأسُكَ! ورسول الله ينظر إلى عمر في تؤدة وسكون، ثم تبسم، وقال : لأنا وهو أحوج إلى غير هذا : أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن اتِّباعه.
قال زيد بن سعنة، فذهب بي عمر ]، فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت : ما هذا؟ قال : امرني رسول الله ، أن أزيدكَ مكان مارُعْتثكَ(6).
فقلت : أتعرفني يا عمر، قال : لا، فمن أنت؟ قال : أنا زيد بن سعنة، قال : الحبر؟ قلت : الحبر، قال : فما دعاك إلى أن تفعل برسول الله ما فعلت، وتقول له ما قلت؟ قلت : يا عمر، إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتُها في وجه رسول الله ، حين نظرتُ إليه، إلا اثنتين لم أخبُرْهما منه، يسبق حلمُه جهلَه، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد أخبرته منه، فأشهدك ـ يا عمرـ اني قد رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، اشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .(7).
3- كان رؤوفا، حريصا على الرفق بأمته في كل الأمور، قال أبو سعيد الخدري]، صلى بنا رسول الله ، صلاة الغداة، وسمع بكاء صبي، فخفَّفَ الصلاة، فقلنا يا رسول الله : خففت هذه الصلاة اليوم؟ فقال : إني سمعت بكاء صبي، فخشيت أن يفتِنَ أمَّه(8).
وقال معاذ بن جبل] : بعثني رسول الله إلى اليمن. فقال : يا معاذ، إذا كان في الشتاء، فغلِّس(9) بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يُطيق الناس، ولا تملَّْهم، فإذا كان الصيف، فأسخري(10) لفجر، فإن الليل قصير، والناس ينامون، فأمهلهم حتى يدَّارِكوا(11).
وفي ليلة الإسراء والمعراج، لما فرض الله تعالى على الأمة المحمدية خمسين صلاة في اليوم والليلة، راجع ا لله عز وجل في التخفيف على أمته، بإشارة من نبي الله موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وكان يدعو : يا رب خفف على أمتي، يا رب خفف على أمتي، وفي كل مراجعة كان الله عز وجل، ينقص خمسا حتى قال في النهاية : يا محمد، إنها خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة(12).
على أن الأمة المحمدية تشمل كل البشرية ، من بعثة الرسول إلى قيام الساعة، من آمنوا منهم، وهم أمة الإجابة، ومن لم يؤمنوا من اليهود والنصارى وغيرهم، وهم أمة الدعوة.
يقول الرسول : “والذي نفس محمد بيده، لا يسمع مني أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار(12).
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}(التوبة : 129).
—————-
1- أخلاق النبي ، لابن حبان الأصبهاني، ارقام : 56-60
2- أخلاق النبي ، لابن حبان الأصبهاني، ص ك 35، 41 ومسند الإمام أحمد، رقم 929.14 ج 23، ص :193، وهو صحيح.
3- عقد السلم عقد على موضوع مثلي، يقدَّم فيه الثمن، ويؤخَّر فيه المثمن.
4- عوض رسول الله لزيد بن سحنة ما لحقه من ضرر معنوي، الذي حصل بتهديد عمر له، وكان التعويض عشرين صاعا.
5- أخلاق النبي ، لابن حبان، ص : 74، وصحيح ابن حبان، رقم : 288، ج 1 ص : 531. وهو صحيح.
6- أخلاق النبي لابن حبان الأصبهاني، ص : 66-67.
7- بكر بالصلاة وقت الغَلَس، وهو شدة ظلمة اليل.
8- أخر صلاة الفجر حتى ظهور الإسفار، أي ضوء الصبح، قبل طلوع الشمس.
9- أخلاق النبي لابن حبان الاصبهاني ص : 67.
10- صحيح الإمام مسلم، رقم : 2890.
11- صحيح الإمام مسلم، رقم : 153.
د.محمد الحبيب التجكاني