2- اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوج
تحدث الدكتور محمد التاويل في الأعداد السابقة عن أدلة عدم جواز اعتماد الخبرة لنفي الولد عن الزوج منها : أنه مخالف لكتاب الله ولقضائه ، ويواصل الحديث عن اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوج في حلقة خامسة
الشبهة السابعة :
القياس على الأم
يتفق أصحاب هذه الشبهة على القول إن ابن الزنا يلحق بأمه، وينسب إليها، وترثه ويرثها إجماعا فكذلك الأب يجب أن يلحق به ابنه من الزنا وينسب إليه ويتوارثان قياسا على الأم إلا أنهم سلكوا مسلكين في تحديد العلة الجامعة بين الأصل المقيس عليه وبين الفرع المقيس.
فبعضهم يرى أن العلة هي تخلقه منهما. ويضيف أنه لا يعقل أن يكون الولد ابنا شرعيا لا حقا بأحدهما. الأم.. وغير شرعي بالنسبة للأخر ـ الأب ـ وقد ولد منهما معا في عملية مشتركة بينهمامحرمة عليهما معا، فإما أن يكون ابنا شرعيا لا حقا بهما معا. وإما أن يكون ابنا غير شرعي لهما معا، أما أن يكون ابنا شرعيا للأم، وغير شرعي للأب فذلك غير معقول ولا مقبول.
هكذا يقول هذا البعض وبهذا يحتج ويدعي أنه قياس صحيح وسليم.
لكنه احتجاج باطل ومردود من وجوه عدة :
>أولا : هو قياس فاسد الاعتبار، مخالف للأحاديث الصحيحة التي تدل على أن ابن الزنا لا يلحق بالزاني ولا يصح استلحاقه مثل حديث : >لا مساعاة في الاسلام، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته. ومن ادعى ولداً لِغَيْر رشدة فلا يرث ولا يورث<.
وهو نص صريح في إبطال استلحاق ابن الزنا. لقوله : ومن ادعى ولداً لِغَيْر رشدة فلا يرث ولا يورث، وكذلك حديث : >الولد للفراش، وللعاهر الحجر<، وحديث : >أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث<.
وهما حديثان عامان لفظا ومعنى، العموم اللفظي في قوله >وللعاهر<، فإنه مفرد معرف بأل فيعم. وفي قوله : >أيما رجل< هكذا بصيغة >ايما< المفيدة للعموم المؤكد وضعا ونصا.
والعموم المعنوي مستفاد من تعليل نفي الولد عن الزاني بالعهر المستفاد من ترتيب الحكم على الوصف في قوله : >وللعاهر الحجر<، ومن ترتيب المشروط على الشرط. في قوله : >ايما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا<.. فإن الشروط اللغوية أسباب شرعية كما يقول الأصوليون.
وبهذا العموم المزدوج والمؤكد يشمل الحديثان كل عاهر وُلد له وَلدٌ من عهارته، فإنه لا يلحق به سواء ادعاه واستلحقه، أو انكره ونفاه. وبذلك يتبين أن هذا القياس قياس باطل فاسد الاعتبار لا يصح الاحتجاج به ولا تعدو إثارته والتذكير به أن تكون انتقادًا لشرع ثابت، واعتراضًا على حكم أكده الرسول بكلامه وقضائه.
>وثانيا التعليل بتخلقه منهما معا واشتراكهما فيه هو تعليل غير صحيح أيضا مخالف للقواعد الأصولية التي تشترط في العلة أن تكون وصفا ظاهرا غير خفي، وأن تكون مطردة منعكسة، كلما وجدت وجد الحكم وكلما انتفت انتفى الحكم، وبعبارة أخرى يلزم من وجودها وجود الحكم، ومن عدمها عدم الحكم.
ولا شك أن كون الطفل متخلقا منهما معا وصف خفي غير ظاهر فلا يصح التعليل به.
وثالثا فإن هذه العلة المعلل بها غير مطردة، فإن مقتضاها لحوق الولد بالزاني سواء اعترف به أو نفاه، لوجود العلة، وهو خلاف الإجماع المنعقد على أن لا يلحقه إذا لم يستلحقه أو نفاه.
والخلاف المنقول عن بعض الفقهاء على ضعفه وشذوذه إنما هو في حالة اعترافه به واستلحاقه له. وهو مردود بالإجماع قبله وبالحديث السابقٌ ومن ادعى ولداً من غير رشده فلا يرث ولا يورث.
كما أن مقتضاها ايضا إلحاقه به ولو كانت أمه متزوجة، وهو أيضا خلاف الإجماع. وخلاف قضائه في ابن وليدة زمعة الذي ادعاه سعد بن أبي وقاص لأخيه بوصاية من أخيه عتبة. ونيابة عنه. وقوله : >الولد للفراش وللعاهر الحجر<. ثم هو خلاف قضاء عمر وعثمان ] الولد للفراش وللعاهر الحجر كما سبق. وبهذا يتبين أن التعليل بتخلقه منهما لا يصح لأنها علة خفية وغير مطردة.
ولعله لهذا سلك بعض أخر من هؤلاء المدعين مسلكا ثانيا في تصحيح هذا القياس، فادعى أن العلة في لحوق الولد بأمه الزانية هو معرفتها، والتأكد من أمومتها له بولادتها له، وأن علة نفيه عن الزاني هو الجهل بالأب الحقيقي الذي تخلق من نطفته. فإذا علم ذلك باعترافه به أو التحليلات الطبية والبصمة الوراثية وجب إلحاقه به قياساً على الأم. وأضاف بعض هؤلاء أن الفقه معذور في عدم أخذه بالخبرة الطبية في إثبات النسب ونفيه، وقد زال هذا العذر بتطور الطب واكتشاف البصمة الوراثية التي تؤكد بصفة يقينية لا شك فيها وجود أو عدم وجود العلاقة البيولوجية بين شخصين لذلك يجب الرجوع إليها واعتمادها في ثبوت النسب أو نفيه بين الأم وولدها كما يجريبه العمل في بعض البلدان الأوروبية. وهذا خطأ آخر من هؤلاء في تعليل الحكم الشرعي وفي تصور الموقف الشرعي في هذا الموضوع الهام جدا.
اما الخطأ في تعليل الحكم الشرعي فيتجلى في تعليل لحوق الولد بأمه بالعلم بها، وتعليل عدم لحوقه بالزاني بالجهل بالأب الحقيقي. فإن هذا استنباط للعلة بغير دليل يدل عليها من جهة، ومن جهة أخرى هو مخالف للعلة الصحيحة المنصوص عليها بطريق الإيماء في عدة أحاديث. هي أن العلة في عدم لحوق الولد بالزاني هو كونه من زنا. كما يدل عليه حديث الولد للفراش وللعاهر الحجر. فإن ترتيب الحكم على المشتق يوذن بعلية ما منه الاشتقاق كما يقول الاصوليون وأيضا هو التفريق بين حكمين بوصفين يوذن بأن الحكمين معللان بالوصفيْن، فلحوق الولد علته الفراش. وعدم لحوقه به علته العهر.
وكذلك قوله أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا. هكذا بصيغة الجملة الشرطية فإنه يدلى علىأن علة كونه ابن زنا هو العهارة ايضا. للقاعدة الأصولية ان الشرط سبب، والجواب مسبب. كما يقول القائل :
إن الجزاء لا زم مسبب
والشرط ملزوم له وسبب.
والسبب والعلة مترادفان.
كما أن التعليل بالجهل بالأب الحقيقي يقتضي لحوقه به عند العلم. وهو ما يريد إثباته هؤلاء بتعليلهم الخاطئ. وهو مخالف لإجماع الأمة على أنه لا يلحق به سواء علم أو جهل. ومخالف لعموم الأحاديث السابقة : وللعاهر الحجر وغيره مما سبق فإنه شامل بعمومه للعاهر المعلوم والمجهول، الكل سواء، لا حق له في الولد. وليس له إلا الحجر. ثم هو مخالف لقضائه في زوجة هلال بن أمية التي قذفها زوجها بشريك بن سحاء. وكانت حاملا. ولاعن النبي بينهما.
ودعا الله تعالى أن يبين، وقال : أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الآليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك، فقال لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. يعني َلَحدَّها لظهور زناها.
فهذا ابن زنا عرف أبوه، ولم يلحقه الرسول به، بل ألحقه بأمه. كما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا، فدل ذلك على أن ابن الزنا لا يلحق بأبيه ولو علم ابوه الحقيقي، وأن تعليل نفيه عن الزاني الجهل بالأب الحقيقي غير صحيح.
هذا عن الخطأ في التعليل بالجهل بالأب الحقيقي.
وأما الخطأ في تصور الموقف الاسلامي من هذا الموضوع فإن هؤلاء يظنون أن لحوق الولد بابيه وثبوت نسبه له تابع للنطفة ومرتبط بها. فكل من تخلق من نطفته ولدٌ فهو ابنه، وولده يلحق به، وينسب إليه بقطع النظر عن كونه من سفاح أو نكاح، المهم أن يكون تخلق من نطفته ومائه. فإذا علم أبوه الحقيقي فذاك. وإذ لم يعلم فالتحاليل الطبية والبصمة الوراثية كفيلة بكشفه وتعيينه، وهو حكم أهل الجاهلية الأولى الذين كانوا يلحقون أبناء الزواني والبغايا بآبائهم من الزنا إذا استلحقوهم أو الحقتهم بهم القافة أو الأم الزانية حتى جاء الإسلام فأبطل ذلك وألغاه، وجعل ثبوت النسب ولحوق الولد بأبيه تابعا للفراش، وللفراش وحده إذا توفرت شروطه كما روى ذلك البخاري من حديث عائشة].
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي يوم الفتح : يا رسول الله : إن فلانا ابني، عاهرت بأمه في الجاهلية. فقال له : ويحك. لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر، هكذا بصيغة الحجر في الجملتين، أي ليس الولد إلا لصاحب الفراش دون سواه، وليس للعاهر إلا الخيبة والحرمان ولاحق له في الولد.
هذا هو موقف الاسلام الذي لم يفهمه هؤلاء كما يجب، وهذا حكمه وشريعته التي أعلنها الرسول في أحاديثه، وقضى بها بين أمته وهي أن الأنساب ولحوق الأبناء بالآباء منوط في الاسلام وشريعته بالفراش، وبالفراش وحده، النكاح وملك اليمين. أمااعتبار النطف والاعتماد عليها في ثبوت الأنساب ولحوق الأولاد بالآباء ولو كانوا من زنا فهو أمر من أمور الجاهلية الأولى، وحكم من أحكامها التي نسخها الاسلام وقضى عليها وولى إلى غير رجعة كما قال لا دعوة في الاسلام دهب أمر الجاهلية. ذهب ليحل محله نظام آخر وضابط آخر يهتم بطهارة الأنساب ونظافة المجتمع ويحرص على التمييز بين أبناء الحلال وأبناء الحرام وأولاد النكاح وأولاد السفاح.
من أجل هذا لم يلتفت الفقه الإسلامي إلى التحاليل الطبية والبصمات الوراثية ولم يعتمدها في ثبوت النسب ونفيه بالرغم من قدرتها على تحديد صاحب النطفة التي تخلق منها الولد وتعيين من هو ابوه الطبيعي البيولوجي قطعا ودون شك . إلا أنها لا تستطيع التمييز بين النطفة الخبيثة والنطفة النظيفة، بين نطفة النكاح ونطفة السفاح الذي هو المقياس الشرعي الوحيد في ثبوت الأنساب ولحوق لاولاد.
فمن تخلق من نطفة النكاح فهولا حقٌ بأبيه، ومن تخلق من نطفة السفاحفهو غير لاحق بأبيه كما قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر.
وهكذا يتبين مرة أخرى أن الأنساب ولحوق الأبناء بالآباء في الاسلام تابعة للشرعية الدينية وحدها. وليست تابعة للنطف الفاسدة.
د. محمد التاويل