القيم الأخلاقية في الإسلام لا تتغير ولا تتطور تبعا للظروف الاجتماعية أو السياسية والأحوال الاقتصادية ، بل هي حواجز وحدود ثابتة متينة ضد الفوضى والظلم والشر والفساد، يقول الله تعالى : {تلك حدود الله فلا تعتدوها}(البقرة : 229). لذلك فالإنسان المؤمن يسعى دائما إلى الثبات على قيم الإسلام مهما تغيرت به الأحوال، ولا يحق له التغيير إلا فيما يساعده على ذاك الثبات، وما يحقق طبيعة استخلافه في الأرض. من هنا تأتي العلاقة بين الأخلاق والأدب.
وتعود الجذور اللغوية للأدب إلى التربية والتهذيب يقول صاحب اللسان: “الأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس، سُمي أدبا لأنه يأدب الناس إلى المحامد وينهاهم على المقابح، (..)والأدب أدب النفس والدرس”(1) ، من هنا كانت لفظة أدب عند العرب تطلق على الأخلاق الحسنة، أمّا بعد الإسلام فقد أطلق بجانب ذلك على الكلام الحسن والجيد من الأقوال سواء كان نثرًا أو شعرًا، ثم أصبح يُطلق بوجه خاص على الكلام الذي يعبّر عن الأفكار والمشاعر والتجارب الإنسانية في قالب فنّيٍ مؤثر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل)(2).
ويعرَف الأديب في مختلف المصنفات العربية بأنّه الآخذ بمحاسنِ الأخلاق والحاذق بالأدب وفنونه، وفي ضوء ذلك يمكننا القول إنّ محاسن الأخلاق هي مُنتهَى العمل الأدبي الملتزم. فمن معاني الأدب حسْنَُ الخلُق، وحسْنُ الخلقِ هو من الأدب، وحينما نقول إنّ الأدبَ هو جملةُ المعارف الإنسانيّة وأنّه يعبّر عن الأفكار والمشاعر والتجارب الإنسانية، فإننا نقف أمام معطيات عمل إنسانيٍّ يتحلّى بحسْنِ الخُلق، و يُنشئُ، بصورة تلقائيّة، التزاماً أخلاقياً طوعيّاً في العمل الإبداعيّ من غير إلزام من أحد(3).
وبما أن “الإسلام يبسط من خلال قرآنه وسنة نبيه رؤية جديدة للكون والعالم والحياة والإنسان، رؤية تجيء بمثابة انقلاب شامل على كل الرؤى المحدودة، والمواضعات البصرية القاصرة، والأعراف والقيم والتقاليد والممارسات المبعثرة الخاطئة، رؤية تبدأ انقلابها هذا في صميم الإنسان، في عقله وقلبه وروحه ووجدانه وغرائزه وميوله وصيرورة الحركة التاريخية..”(4) فإن انتساب الأدب إلى الإسلام يعني انطلاق الأديب في ممارساته الإبداعية من رؤية أخلاقية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم الإسلام ومقاصده، وتبين إيجابيته عند معالجة قضايا العصر والحياة، التي ينفعل بها انفعالاً مستمراً، فلا يصدر عنه إلا نتاج أدبي متفق مع أخلاق الإسلام وتصوراته ونظرته الشاملة للكون والحياة والإنسان، في إطار من الوضوح الذي يبلور حقيقة علاقة الإنسان بالأديان(5).
والأدب الإسلامي بمفهومه المعبر عن رؤية خاصة، عرف انطلاقته منذ البعثة المحمدية، وعرف حدوده منذ قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلمُ الذين ظَلموا أيَّ منقلب ينقلبون}(الشعراء : 224 -227). ففي هذه الآية الكريمة نجد القرآن الكريم يحدد موقفه من الشعر بوصفه الجنس الأدبي السائد إبان نزول الوحي، ليعبر به عن مطلق الأجناس الأدبية، فيفرق بين نوعين من الشعراء، شعراء الغواية الذين تمردوا على المفاهيم الإسلامية، وانضموا إلى معسكر الشرك، واستلوا ألسنتهم يحادون الله ورسوله، ويثيرون الضغائن والأحقاد لاختراق صفوف المسلمين المتراصة وإضعافهم، فهجوا رسول الله وأصحابه حتى تأذى صلوات الله وسلامه عليه من تلك الأهاجي ونهى عن رواية بعضها، ويأتي في مقابل هؤلاء الشعراءالذين يتبعهم الغاوون، الشعراء المؤمنون الصالحون، الذين نصروا الإسلام بسيوفهم وألسنتهم فنصرهم الله بالإسلام. وعلى هذا لم يعطل القرآن الكريم الملكات الإبداعية بل نشطها، واهتم بدور الكلمة الموحية الهادفة الملتزمة بمبادئ الإسلام، ولم يوجه للشعر انتقاصا أو إنكارا لقيمه، وإنما وجه الانتقاص والإنكار إلى صنف من الشعراء الذين أشارت الآية الكريمة إلى مذهبهم في الإغراق في الكذب وفاحش القول وهم الكثرة ، والإشارة إلى نوع من الشعراء يستتبعه لا محالة الإشارة ضمنا إلى نوع من الشعر، إذ الإنكار الموجه إلى الشعراء في الآية الكريمة ينسحب إلى الأشعار الواصفة لأحوالهم. كما أن استثناء نوع من الشعراء الصالحين وهم القلة ينسحب أيضا إلى استثناء أشعارهم الملتزمة بأهداف الدعوة الإسلامية، فالمضامين الشعرية وحدها هي التي خضعت لمبدأ الصالح وغير الصالح من الشعر، أما القيم الفنية الأخرىفلم ينتقصها القرآن، ولم يحدد القرآن شكلا معينا يلتزم به الشعراء ولا يخرجون عنه”(6).
—–
1 – جزء 1.ص 206
2- مدارج السالكين: (2/381
3 – انظر: موقع رابطة أدباء الشام على الإنترنت. حوار مع عبد المنعم محمد خير إسبير عضو رابطة الأدب الإسلامي العالميّة أجراه حسن الاشرف.
4 - محاولات جديدة في النقد الإسلامي . د. عماد الدين خليل. ص9. ط 1. 1989.مؤسسة الرسالة. بيروت.
5 – انظر: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا. ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1405هـ/1985م.
6 – الاتجاه الأخلاقي. مرجع سابق. ص 52.
د. أم سلمى
umusalma@Islamway.net