قال الله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له. وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}(البقرة : 185).
ما أعظم رمضان، وما أروع هباته وعطاياه، يصوم العبد امتثالا لأمر ربه، فتكون المكافأة جزيئة، والعطية كبيرة، قال : “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”(أخرجه البخاري ومسلم).
الصوم حقا مدرسة متكاملة، مدرسة متميزةفي تأصيل التربية، وتهذيب السلوك. ومدرسة أخلاقية عظيمة. لذلك ينبغي للمسلم أن يقف وقفة ليحاسب نفسه ماذا قدم لصالح دينه وأمته من رمضان الماضي إلى رمضان الحالي.
استقبلنا رمضان في مثل هذا الوقت من العام الماضي وها هو قد عاد في هذا العام بغرته المشرقة وطلعته المنيرة لنستقبله مرة أخرى فأهلا وسهلا ومرحبا بالضيف العظيم.
فقد كان السلف الصالح من صحابة رسول الله يهتمون كثيرا برمضان، ويفرحون بقدومه، كانوا يدعون الله عز وجل أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه أن يتقبله منهم.
كانوا رضي الله عنهم يصومون رمضان ويحفظون صيامهم من كل ما من شأنه أن يبطله وكانوا يحيون لياليه بالقيام وتلاوة القرآن.
كانوا يتعاهدون فيه الفقراء والمساكين والأيتام بالإحسان والصدقة. كانوا يجاهدون فيه أنفسهم ويحاربون أعداء الإسلام والمسلمين لتكون كلمة الله هي العليا.
فقد كانت غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون على عدوهم في اليوم السابع عشر من رمضان. وفي رمضان من العام الثامن للهجرة تفضل الله على رسوله وعلى المومنين بفتح مكة. قال الله تعالى : {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا}(الفتح :21)
وفي رمضان من السنة التاسعة للهجرة قدم وفد الطائف على المدينة استجابة لنداء الحق ودخلوا في الإسلام.
وهناك أيضا كثير من الأحداث وقعت في رمضان، ففي رمضان عام اثنين وتسعين للهجرة انتصر طارق بن زياد على (رودريك) في معركة قوية وحاسمة، وفي نفس الشهر من عام خمسمائة وأربعة وخمسين للهجرة استولى الناصر صلاح الدين على قلعة صفد الحصينة.
إذن رمضان ليس شهر كسل، ونوم، واشتغال باللهو، وطول السهر، وراحة كما يظنه بعض الناس، ولكنه شهر عبادة وعمل متواصل وطاعة خالصة لله تعالى.
فمن صام رمضان صوما صحيحا يجب عليه أن يكف لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب والزور، ويحفظ نفسه من شر الغضب حتى يكون صومه ربانيا ينال به مقاما عليا.
أما من صام ثم أطلق عينه لنهب أجساد السيدات الغاديات والرائحات، وأطلق لسانه للنهش في أعراض الناس وشتمهم أو سبهم لن يرفع الله له عملا إلى السماء، وليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
قال عليه الصلاة والسلام : “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”(أخرجه البخاري).
وقال : “الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن سابه أحد فليقل : إني امرؤ صائم”(أخرجه البخاري ومسلم)
على المسلم أن ينتهز فرصة هذا الشهر الكريم الذي اختاره الله لفريضة الصيام وإنزال القرآن لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فيعمره بطاعة الله وحسن عبادته، وأن ينتهز فرصة قدوم هذا الشهر، فيجدد العهد مع الله جل شأنه على التوبة الصادقة في جميع الأوقات من جميع الذنوب والآثام، وأن يلتزم بطاعة الله مدى الحياة بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ليكون من الفائزين عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وهناك للأسف من لا يعرف من رمضان إلا الموائد، وصنوف المطاعم، وأشكال المشروبات. يقضي نهاره نائما وليله تائها. وهذا الصنف إن دل على شيء فإنما يدل على جهل صاحبه بحكمة الله من الصيام، والحكمة التي شرع من أجلها الصيام هي تقوى الله جل شانه {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
لأن التقوى هي ميزان الأعمال، يجوع الصائم، وهو قادر على الطعام، ويعطش وهو قادر على الشراب، لا رقيب عليه إلا الله تعالى.
هنا يتحقق الإيمان وتظهر التقوى. فالصيام يقوي إرادة الانسان بشكل ملموس فهو تدريب عملي على كبح جماح النفس، والوقوف أمام الشهوات الجسدية من أكل وشرب وغيرهما بشيء من التوازن، ومن ثم يعتدل مزاج الانسان في رمضان وفي غير رمضان ويسهل عليه الانتصار على مغريات حياته.
فيصبح وقد شاطر الملائكة صفة الطاعات، فتتنور بصيرته وتصفو سريرته، ويفيض منه الخير الكثير.
هذه مدرسة رمضان إذن تخرج التلاميذ الصادقين الأوفياء المخلصين الذين يخفضون جناحهم للمؤمنين ويلتمسون لهم الأعذار إذا كان عليهم جناح، فيعم الصدق وتنشرح الصدور وتطمئن القلوب.
نعم إنها المدرسة التي تنادي طلابها كلما انفجر الصباح. يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
وليس كل مسلم يوفق لشرف طاعة الله عز وجل، فهناك من لا يصوم، ولا يصلي، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يتصدق. فلله الحمد أن وفقنا لطاعته ومد أعمارنا إلى رمضان ونحن على طاعته وعبادته والخضوع لأوامره.
إن المتأمل في طبيعة هذا الشهر الكريم يتبين له جليا أنه يعين المسلمين على الاستفادة أكثر من كثير من الأعمال الصالحة. ومن أجل هذه الأعمال على الإطلاق.
1- الصوم : قال : “كل عمل ابن آدم له، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. يقول الله عز وجل إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به”(البخاري ومسلم).
وقال : “للصائم فرحتان : فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه”(البخاري ومسلم).
علينا أن نكون في مستوى رمضان لكي نرتقي إلى الأعلى بالاقتراب من صفات الملائكة عند الله رب العالمين. ولنشمر ولا نقصر ولنجد في الصيام كي نفوز بفضائله العظيمة
2- القيام : قال الله تعالى : {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}(الفرقان : 63-64).
قالت عائشة أم المؤمنين] : “لا تدع قيام الليل ، فإن الرسول كان لا يدعه، ، وكان إذا مرض صلى قاعدا” أما عمر بن الخطاب ] فكان يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة. ثم يقول لهم : الصلاة، الصلاة ويتلو قوله تعالى : {وآمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا، نحن نرزقك والعاقبة للتقوى}(طه : 132).
وينبغي للمسلم أن يحافظ على صلاة التراويح وأن يكملها مع الإمام، وأن لا ينصرف حتى ينصرف الإمام، حتى يكتب عند الله مع القائمين.
قال : “من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة”(رواه أهل السنن).
وليس من قيام رمضان السهرات التي تكون في المقاهي، والحدائق وحول الشاي والموسيقى والقمار، والجلوس أمام التلفاز وشتم المسلمين، فحري بالصائم أن يبتعد عن كل ما من شأنه أن ينقص من صيامه، وأن يكثر من قراءة القرآن الكريم، وأن يتدبر آياته، ويعمل بتوجيهاته.
وقد ربط حبيبنا بين القرآن والصيام فقال : “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام : رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل، فشفعني فيه. قال : فيشفعان” (رواه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وابن أبي الدنيا قال الهيثمي إسناده صحيح).
والتراويح من العبادات التي تقرب المؤمن من الله، وتجعله أهلا لمحبته، فرسول الله يروي عن ربه في حديث قدسي شريف، يقول فيه الله عز وجل : “ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه”(رياض الصالحين).
3- البكاء عند تلاوة القرآن : ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود] قال : قال رسول الله : اقرأ علي، فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل، فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري. قال : فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت قول الله عز وجل : {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. فالتفت فإذا عيناه تذرفان}.
وعن أبي هريرة ] قال : نزلت آية {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون} بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم. (البيهقي).
فالسلف الصالح ] كانوا يتأثرون كثيرا بكلام الله ويتدبرونه، ويفهمونه ويحركون به أفئدتهم خشوعا لله عز وجل، أيضا كانوا يجتهدون في قراءته، فعثمان بن عفان ] كان يختم القرآن كل يوم مرة، أما سفيان الثوري فكان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، وقد تكفل الله عز وجل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة بقوله جل شأنه :{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}
4- الصدقة : قال “أفضل الصدقة، صدقة في رمضان”(أخرجه الترمذي)
وكان الرسول أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان وللصدقة في رمضان صور كثيرة منها :
ـ تفطير الصائمين : قال رسول الله “من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجرالصائم شيء”(أخرجه النسائي). قالوا يا رسول الله : ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم. قال رسول الله : يعطي الله هذا الأجر لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة، أو شربة ماء. ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة”.
ـ إطعام الطعام : قال الله عز وجل : {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا}(الإنسان : 11).
قال عليه الصلاة والسلام : “أي مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمنا على ظمإ سقاه الله من الرحيق المختوم”(رواه الترمذي بسند صحيح).
وكان ابن عمر ] لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين.
وقال بعض السلف : لأن أدعو عشرة من أصحابي، فأطعمهم طعاما يشتهونه أحب إليمن أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.
ـ الاعتكاف : عن أبي هريرة ] قال : كان رسول الله يعتكف في كل رمضان عشرة أيام. فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما” (كتاب الاعتكاف. من رياض الصالحين).
نعم إن الاعتكاف إقبال من العبد على الله. ومن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن تقرب إلى الله تقرب الله إليه.
قال الله عز وجل في حديث قدسي شريف : “من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة”(رياض الصالحين).
ـ إحياء ليلة القدر : هذه الليلة المباركة التي رحم الله تعالى فيها البشرية بنزول القرآن الذي شاءت حكمته أن يكون دستور البشرية. هذه الليلة التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وهي محصورة في العشر الأواخر من رمضان المعظم. فينبغي للمسلم أن يجتهد فيها بالصلاة والذكر والدعاء والتوبة وطلب الجنة لعل الله أنيتقبل منه ويتوب عليه إنه هو التواب الرحيم.
أيها الصائم : استعد لرمضان، جدد نفسك، طهر روحك من الذنوب والمعاصي، واستعن بالصبر والصلاة، والطاعة والصيام والقيام، واجعل رمضان شهر صيام وجدد توبتك وقم رمضان بما يوافقه واحذر أن يفوتك رمضان وأنت ساه عن طاعة ربك. فليس ذلك بجميل.
اللهم أعنا على الصيام والقيام، وافتح بصائرنا للعلم والمعرفة.آمين والحمد لله رب العالمين.
عبد العالي القرشي