رغم الهجمات الشرسة التي تتعرض لها الأمة، سواء بطريقة مباشرة من خلال الاحتلال أم بطريقة غير مباشرة من خلال المحاولات المستمرة للتشكيك في مرجعيتها وقيمها وأصالتها وثقافتها، فإن هناك عدد من المبشرات التي بدأت تهل على الأمة، وتقدم لها بعض التوازن والثقة، واسترجاع القدرة على المواجهة والصمود والتحدي. وهي مبشرات تكشف أن الأمة بدأت تستيقظ من سباتها، وتدرك السبيل الصحيح المؤدي إلى النهضة والعزة. ولكي لا يظل هذا الإدراك يقف على حدود المعرفة فقط، يجب أن يمس الممارسة السلوكية للفرد, وبمعنى آخر، هذه المبشرات يجب أن تكون حافزا على نبذ أسباب الهوان والوهن، و تتحول معانيها إلى سلوك فاعل في حياة المسلم اليومية، بحيث تصبح نفسه تحاسبه على التفريط في مقومات المضي في سبيل النهوض والعزة والكرامة وفرض الحق والاحترام.
ولعل قيمة الحب من أبرز القيم التي فقدت معانيها في حياة الإنسان بصفة عامة، وتشوهت مفاهيمها في العقل والوجدان، وارتبطت بكل ما يؤدي إلى الإسفاف والابتذال والزيف والآثام، وكان من نتيجة ذلك أن فقدت الحياة مغزى وجودها كله. يقول تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، ولن يتحقق مفهوم العبادة إلا برابط الحب بين العبد ومولاه، وتسليمه ناصيته له طواعية واختيارا وحبا. ولا يكفي أداء الشعائر المفروضة للتعبير عن هذا الحب، وإنما يجب أن يكون متغلغلا في الفؤاد والوجدان ليفيض في شرايين الممارسة والسلوك، ويرقى بالعلاقات في مدارج السمو اللائق بالإنسانية.
ونظرة عابرة إلى الإنسان في المجتمعات الإسلامية تكشف الفصل المهول بين إعلانه الحب لله من خلال تنفيذ شعائره الدينية التي يقوم بها كل يوم، وبين تفعيل مقاصد تلك الشعائر في حياته وسلوكه وعلاقاته، ليطفو إلى السطح الجفاف والغلظة والتباغض والتحاسد، وتغرق تلك المجتمعات في التنافر بدل التآلف، والقسوة بدل الرحمة، والبخل بدل البذل والإنفاق المعنوي قبل المادي. وبالتالي لا يستطيع المسلم التبشير من خلال نفسه بالقيم الحقيقية والفاعلة سواء في مجتمعه أو في أي مجتمع آخر، كما يفقد مصداقيته وعوامل تأثيره. وإذا عدنا إلى القيمة الأولى التي قام عليها المجتمع الإسلامي الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أنه قام بالمحبة الخالصة المؤلفة بين القلوب، والمسعفة على التآخي والعطاء. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على قيمة الحب، وحثهم على إشاعتها وتحقيقها عبر وسائل وممارسات مختلفة، لأهميتها في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، وفي توحيد القلوب وتآلفها، أو تعارفها وتعايشها وتفاهمها، ولدورها في إعطاء الأمة قوتها وصلابتها؛ فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث بها الفتن والدسائس، وتقوم كل العلاقات والممارسات على أساس من الحب: حب الله، حب نبيه، حب الخير، حب الناس…. وكانت شخصيته صلى الله عليه وسلم التي تفيض حبا ورحمة مثلا أعلى يهدي المجتمع الوليد إلى تنزيل القيم الإنسانية التي جاء بها أو رسخها في واقعه وسلوكه، كما كانت الأحاديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”. وقوله: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة” وقوله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” تسري ندية في حياته، ليشتد البناء ويقوى وترتفع هامته. فأين نحن من هذا الحب في مجتمعاتنا؟؟..
دة.أم سلمى