تفريط المسلمين في مقاصد الصوم، وجناية العادات على العبادات
ولكن المسلمين قد جنوا في كثير من الأحيان على أنفسهم وعلى مقاصد الصوم وفوائده بالعادات التي يبتدعونها، وبجهلهم وإسرافهم في الإفطار والطعام، الإسراف الذي يفقد الصوم الشيء الكثير من فائدته وقوته الإصلاحية والتربوية.
الصيانة من التحريف والغلو
كان رمضان مظنة للغلو والتعمق في الدين، فقد يفهم كثير من الناس أن موضوعه وغايته قهر النفس، وترويضها على ترك الشهوات والرغبات، وإجهادها إلى أقصى حد ممكن، فكلما أمعن الإنسان في إجهادها وقهرها، وكلما طالت الفترة في الأكل والشرب والتمتع، وطالت مدة الجوع والظمأ، وكلما أظهر الصبر والاحتمال، كان أقرب إلى الله وأحب إليه، وأبعد عن المترفهين المترفين والمتنعمين المتمتعين، وأدخل في غمار المتقين الصابرين.
وهذا الفهم الخاطئ السطحي هو الذي زين لكثير من المتدينين والمتقشفين في الأمم السابقة، والديانات القديمة الغلو في العبادات عامة، وفي الصوم خاصة، فأطالوا مدة الإمساك عن الطعام والشراب، وأخروا الفطور، وعجلوا السحور، أو تحرجوا عن التسحر مطلقاً، ورأوه عجزاً في الدين، وضعفاً في الصائمين، أو وصلوا الصوم بالصوم، والليل بالنهار، وقلدهم في ذلك غلاة المسلمين، والطوائف المبتدعة المتشددة، فكان كل ذلك تحريفاً في الدين، وجهاداً في غير جهاد، ورهبانية ابتدعوها، وباباً واسعاً لفساد شامل، وتحدياً لقول الله تعالى : {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله : {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله : (إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا).
لذلك كله سدت الشريعة الإلهية الأخيرة الخالدة هذا الباب، فحثت على السحور أولاً، ورغب فيه رسول اللهواستحبه، وجعلهسنة للمسلمين، فقد روى أنس بن مالك عنه : (تسحروا فإن في السحور بركة) وعن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أن رسول الله، قال : (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) وحذر عن تأخير الفطر، وجعل التأخير فيه آية للفساد، والوقوع في الفتن، وشعاراً لغلاة أهل الكتاب، فعن سهل بن سعد، قال : قال رسول الله (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) وعن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه، قال : (لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون).
وكذلك كان من سنته وسنة أصحابه تأخير السحور، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال : (تسحرنا مع رسول الله، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل : كم كان بنيهما ؟ قال : خمسون آية) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : كان لرسول الله : (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، قال : ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقىهذا)
وقد بسط شيخ الإسلام أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي الكلام، في هذا الموضوع فذكر عناية الشريعة الإسلامية، والسنة النبوية، بهذا الجانب الإصلاحي في علم جم وفقه دقيق، قال :
” إن من المقاصد المهمة في باب الصوم سد ذرائع التعمق، ورد ما أحدثه فيه المتعمقون، فإن هذه الطاعة كانت شائعة في اليهود والنصارى ومتحنثي العرب، ولما رأوا أن أصل الصوم هو قهر النفس تعمقوا وابتدعوا أشياء فيها زيادة القهر، وفي ذلك تحريف دين الله.
وهو إما بزيادة الكم أو الكيف، فمن الكم قوله : (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم يوماً، فليصم ذلك اليوم)، ونهيه عن صوم يوم الفطر ويوم الشك، وذلك لأنه ليس بين هذه وبين رمضان فصل، فلعله إن أخذ ذلك المتعمقون سنة، فيدركه منهم الطبقة الأخرى، وهلم جرا، يكون تحريفاً، وأصل التعمق أن يؤخذ موضع الاحتياط لازماً، ومنه يوم الشك.
ومن الكيف، النهي عن الوصال، والترغيب في السحور، والأمر بتأخيره وتقديم الفطر، فكل ذلك تشدد وتعمق من صنع الجاهلية”.
والصوم كله خضوع للأمر الإلهي، فلا أكل ولا شرب، ولا متعة بما حظر على الصائم بعد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى غروب الشمس مهما جمحت النفس، وطغت شهوة الطعام والشراب، ولا إمساك عن الطعام والشراب وما حظر في النهار، بعد غروب الشمس، مهما جمحت طبيعة الزهد والنسك، فليس الحكم للنفس والشهوة والعادة، إنما الحكم لله، ولا تجلد مع الله، ولا مصارعة مع الدين، وكلما كان الصائم متجرداً عن هواه، منقاداً للحكم، مستسلماً لقضاء الله تعالى وشريعته، كان أصدق في العبودية، وأبعد من الأنانية، وقد أحسن العارف الكبير، والمصلح العظيم، الإمام أحمد بن عبدالأحد السرهندي، في الإشارة إلى هذه النكتة، إذ قال في إحدى رسائله :
” يتجلى في تأخير التسحر وتعجيل الإفطار، عجز الصائم وحاجته، وهو ملائم للعبودية محقق لغرضها “.
الاعتكاف
والاعتكاف في رمضان متمم لفوائده ومقاصده، متدارك لما فات الصائم من جمعية القلب، وهدوء النفس، واجتماع الهم، والانقطاع إلى الله تعالى بالقلب والقالب، وحقيقته الفرار إلى الله، والاطراح على عتبة عبوديته، والارتماء في أحضان رحمته.
يقول شيخ الإسلام الدهلوي رحمه الله عليه :
” ولما كان الاعتكاف في المسجد سبباً لجمع الخاطر، وصفاء القلب، والتفرغ للطاعة، والتشبه بالملائكة، والتعرض لوجدان ليلة القدر اختاره النبيفي العشر الأواخر، وسنه للمحسنين من أمته”.
لذلك داوم عليه، وحافظ عليه المسلمون في كل جيل، وفي كل عصر ومصر وأصبح من السنن المأثورة ومن شعائر رمضان، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها : (أن النبيكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه، من بعده).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (كان النبييعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً).
دور الإسلام الإصلاحي
في تشريع الصوم
قام الإسلام بنفس الدور الإصلاحي الذي قام به في جميع العبادات والفرائض والمناسك، وكان إصلاحاً جذرياً، في مفهوم الصوم وآدابه وأحكامه ووضعه، جعله أعظم يسراً وسهولة وقرباً إلى الفطرة السليمة، وأضمن بالفوائد الروحية والاجتماعية، وأعمق تأثيراً في النفس والمجتمع.
فمن إصلاحاته الكثيرة المتنوعة هو التحويل في مفهوم الصوم، فقد كان رمزاً للحداد والحزن، وتذكاراً للكوارث والمآسي في الديانة اليهودية – كما أسلفنا – فحوله الإسلام من هذا المفهوم القاتم الذي يغلب عليه التشاؤم، إلى مفهوم منشط مشرق تغلب عليه روح التفاؤل، وجعله عبادة عامة، يتمتع فيها الصائم بالنشاط والفرح، ويستبشر بما وعده الله تعالى وثوابه الجزيل، ورضاه، ووردت الآيات، والأحاديث المبشرة بالثواب، المتضمنة بالفرح الطبعي تثير في الصائم هذا الشعور وهذه الثقة، فقد جاء في حديث قدسي : (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) وورد في هذا الحديث : (للصائم فرحتان : فرحة عند فطوره، وفرحة عند لقاء ربه) وقد أحاط الصائم بجو من السمو، والحظوة، والمكانة عند الله تعالى، فقال : (لخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك) وذلك جو يخالف جو الحداد والمآتم والحزن والتشاؤم.
وقد كان الصوم عند اليهود مرادفاً لتذليل النفس والعقوبة، وقد شاع هذا التعبير في أسفارهم وصحفهم، فقد جاء في اللوايين أو سفر الأحبار :
” ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر، تذللون نفوسكم وكل عمل لا تعملون، الوطني والغريب النازل في وسطكم، لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم لتطهيركم من جميع خطاياكم، أمام الرب تطهرون “.
وجاء في موضع آخر.
” وكلم الرب موسى قائلاً، أما العاشر من هذا الشهر السابع، فهو يومالكفارة، محفلاً مقدساً، يكون لكم، تذللون نفوسكم وتقربون وقوداً للرب، عملاً ما لا تعلمون في هذا اليوم عينه، لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم “.
وجاء في سفر العدد :
” وفي عاشر هذا الشهر السابع، يكون لكم محفل مقدس، وتذللون أنفسكم، عملاً ما لا تعلمون”.
أما الشريعة الإسلامية فلم تعتبر الصوم إيلاماً للنفس، ولا عقوبة من الله، ولم ترد في القرآن ولا في السنة كلمة تدل على ذلك، بل اعتبرته عبادة، يتقرب بها العبد إلى الله، ولم تشرع من الأحكام الغليظة المجحفة، ومن القيود القاسية العنيفة ما تجعله مرادفاً لتعذيب النفس وإرهاقها، وحملها على ما لا طاقة له به، بل سنت التسحر، واستحبت تأخيره إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وسنت تعجيل الفطور، وأباحت النوم والراحة من الليل والنهار، والاشتغال بالصناعة والتجارة، والأعمال المفيدة المباحة، خلافاً لليهودية التي فرضت الإضراب عن العمل، والانقطاع إلى العبادة.
وكان الصوم في كثير من الديانات القديمة – ولا يزال – مختصاً بطبقة دون طبقة، فكان في الديانة البرهمية فريضة على البراهمة في أكثر الأحيان، وعند المجوس على العلماء والكهنوت (دستور) وعند اليونان بالإناث دون الذكور.
أما الإسلام فقد عمم وأطلق، فنزل : {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وبجانب هذا التخصيص – الذي عرفت به الديانات القديمة – لم يستثن المعذورين، أما الإسلام فقد استثنى أصحاب العذر، وقال الله تعالى : {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} وقال : {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين}.
وقد كان في بعض الديانات جوع أربعين يوماً، لا يتناول فيها الصائم غذاءاً، وبالعكس من ذلك توسعت بعض الديانات توسعاً زائداً، فاقتصرت على تحريم تناول اللحوم، وأباحت الفواكه والمشروبات، أما الإسلام فقد جاء تشريعه وسطاً بين الشدة والرقابة، وبين الإرهاق والإطلاق، فجاء صومه صوماً متزناً عادلاً، ليس فيه تعذيب أبدان، ولا إزهاق أرواح، وليس فيه كذلك إرخاء عنان، ولا تسريح في روح وريحان.
وكان اليهود يقتصرون على ما يأكلونه عند الفطر، ثم لا يعودون إلى أكل أو تمتع، أما العرب فكانوا لا يأكلون ولا يتمتعون بالمباحات إذا ناموا، أما الإسلام فقد ألغى هذه القيود كلها، ونزل القرآن : {وكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وكذلك عفا عن الخطأ والنسيان، وكذلك لا يفسد الصوم أفعال اضطرارية : كالقيء والرعاف، والاحتلام خلافاً لبعض الديانات.
وكان الصوم في أكثر الديانات القديمة مضبوطاً بالشهور الشمسية، وكان ذلك يحتاج إلى العلوم الرياضية والفلكية، وإلى وضع التقاويم، ثم كانت تلك الأيام مستقرة دائمة في فصول خاصة، لا تجور ولا تنتقل.
أما الصوم الإسلامي فهو مضبوط بالشهور القمرية، ومربوط بالهلال فقد جاء في القرآن : {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}، وقال النبي (لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دون غيابة، فـأكملوا ثلاثين يوماً)، وجاء في حديث آخر : (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له) فاستطاع المسلمون، في مشارق الأرض ومغاربها، وفي البوادي وقلل الجبال وفي الدور الممعن في البداوة والأمية، وفي أمكنة منقطعة موغلة في الغابات والآجام أن يبدأوا الصوم ويختموه من غير مشقة وتكلف وبحث علمي عميق، وكانت فائدته كذلك أن رمضان يدور في فصول مختلفة، من شتاء وصيف، فلا يكلف المسلمون بالصوم في حر لافح، وفي قيظ شديد، ولا في برد قارس وشتاء كالح، دائماً وفي كل سنة، فيتمتعون بتغير الفصول واختلاف الطقوس، ويتعودون كل ذلك، وهم في كل ذلك صابرون محتسبون، أو شاكرون حامدون”.
ومن عرف أوضاع الصوم ومناهجه في الأمم القديمة، والديانات المعاصرة ودرس تاريخها وفلسفتها، وشاهد أحوال الصائمين فيها على قلتهم وتشتت أحوالهم وقارن ذلك بالصوم الإسلامي ووضعه ومنهجه، وفقهه وآدابه، وأكرمه الله بالدخول في هذه الأمة المسلمة، والعمل بالشريعة الإسلامية السمحة نطق لسانه بالحمد والثناء، والشكر على نعمة الإسلام، وكان حقيقاً بأن يقول وهو صائم.
{وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}.
ذ. أبو الحسن الندوي