8- الشهادة بكل صورها وأنواعها مسؤولية خطيرة
فقد أسلفت القول بأن الشهادة تتوقف عليها مصالح الناس وحاجاتهم وأن أي مجتمع لا يستغني عنها وأن هذه الشهادة لها صور متعددة فمنها الصورة القديمة التي كانت معروفة ومنها صور جديدة صورة الشهادات التي يُدلي بها المختصون والخبراء لتتأسس على تلك الشهادات أحكام جديدة. كشهادة الخبراء في الهندسة وفي المعمار وفي البناء وفي الطب وفي أشياء كثيرة.. هذه الشهاداة تنبني عليها وتنجر عليها آثار مهمة قد تُؤدي إلى تحصيل وتمكين الناس من الوصول إلى حقوقهم كما أنها يمكن أن تُؤدي كذلك إلى تفويت الحقوق عن الناس، ويمكن كذلك أن تؤدي إلى الجور والظلم، فالذي يكتب شهادةً بأن فلان مثلاً قد ضُرب وأنه مُسّ وأنه قد أوذيَ إذايةً شديدة وأنه استحقّ مُدة من العجز تتجاوز مثلا عشرين يوماً فهذا الشاهد أو هذا الكاتب إذا كان قد كتب هذه الشهادة زوراً وظلما فإنه يكون في الحقيقة قد تسبّب في إدخال إنسان بريء إلى السجن، فربما يُحكم عليه بالسجن على أساس أن هذا الإنسان مضروب وكذا وكذا، وقد يُلفق شهادات أخرى شهادة أُناس رأوا وشاهدوا فلانا يضرب فلانا، فربما يُزج بإنسان في السجن وهو مظلوم.
لكن الذي زَجّ به ليس هو القاضي، والمسؤول ليس هو القاضي، فهو حكم بناءاً على ما ثبت لديه من الشهادة، لكن الذي ظلم الظّلم الأول في الحقيقة ليس هو القاضي ولكن هو الطبيب الذي كتب شهادة مزوّرة لا أصل لها ولا سند لها، هذا هو المُزوِّر. والمهندس الذي شهِد بأن العمارة سليمة، هو المزوِّر، وهو القاتل للناس الذين سقطت عليهم العمارة.
والمصوّت في الانتخابات للسفهاء هو المزوِّر الذي يملأ المقاعِد التشريعية بالانتهازيين وأصحاب المصالح الخاصة، فهل تستقيم المجتمعات بهؤلاء المزوِّرين؟.
فعلى الإنسان إذن أن يُراعي أن الشهادة مسؤولية وأن أخطر ما يُؤدّيه الإنسان هو شهادة الزّور >ألا وشهادة الزّور ألا وشهادة الزّور، ألا وشهادة الزور< فهذه شهادة مُدمِّرة ومُخلْخلة لنظام المجتمع ومُؤدّىة إلى فُشو الظلم في الناس.
إذا كان الإنسان يرى أنه يمكن أن يُظلم من قبل الطبيب الذي يكتب شهادة مزوّرة، ويُظلم من قبل العوام الذين يشهدون ضده زوراً فلا يطمئن الإنسان على مجتمعه فيقول : أنا أعيش في مجتمع ذئاب ليس هناك من له ذمّة ولا ضمير ولا من يحفظ حقّي. فالإنسان مهدّد في وجوده بسبب أن الشهادات يُتلاعب بها.
هذا قول في قضية واحدة -لا أخصّ هذا- ذكرت لكم الطبيب وذكرت لكم كذلك الأستاذ وذكرت لكم الخبير وذكرت جميع الذين يتعلق بهم شيء من الشهادات هذه الشهادات هي حقوق الله يجب على الإنسان أن يرعاها وأن يؤدّيها كما هي ولا يتساهل فيها لأن التساهل فيها تفويت لكثير من الحقوق على أصحابها. فالأمر يجب التثبت فيه والتيقّن حين أداء الشهادة كما سيأتي.
إذن فبما أن الشهادة بهذه المثابة فلم يكن من المعقول أن يجعل الإسلام كل الناس أهلا للإدلاء بهذه الشهادة لأن تمكِين الجميع من الإدلاء بالشهادة هو في الحقيقة تمكين لكثير من المُزورين أن يُزوّروا، إذن فلابد أن يُتطلب حدّ معيّن من الأخلاق ومن الفضيلة في هذا الذي يؤدّى الشهادة، ولذلك حينما تحدّث القرآن الكريم ضبط الكلمة فقال : {وأشهدوا ذَوَيْ عَدْلٍ} فهو لم يدْعُ إلى إشهاد محتاج إليه، ومتوقَّف عليه، ولكن القرآن يضبط ويقول {وأشهدوا ذَوَيْ عَدْل منكم}.
أي إن الذي ليس عدلا لا صلة له بالموضوع، ولا يُقرّب من الموضوع، ولا يُمكّن من الموضوع، وهذه واحدة من حقوق الإنسان في الإسلام ، فلا حقوق لإنسان مهدّد في كل لحظة من لحظات أن يُفترى عليه ويُكذب عليه ويُزجّ في السجن ظلما وزوراً، وبعد ذلك نقول إن حقوق الإنسان محفوظة. لا.
إن أجمل طريقة لحفظ حقوق الإنسان هو توسيع قاعدة الفضلاء والأخيار في المجتمع لأنهم الذين يصونون حقوق الناس بما فيهم من خوف الله عز وجل ومن احتراس من الوقوع في المحارم.
التقوى أساس العدالة والأمانة
على كل حال {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فوجب الأخذ بالأمر وبالشرط وبالوصف وهو ذو العدل، أي فمن ليس عدلا لا يمكن أن نُشهده ولا أن نُقرّبه من الموضوع أصلا لأن في ذلك مغامرة، والأمر لابدّ فيه من التشديد بل إن الإسلام لم يُمكّن أحداً من أية مسؤولية وأيّ عمل فيه تبعات وحُقوق الآخرين إلا بشرط العدالة، أي هذا الشرط شرط يجب توفّره في جميع المهام التي تتوقّف عليه حياة الأمة، فالذي يقود سفينة الأمة في زاوية من زواياها لابد أن يكون عدلاً وإلا فإن في ذلك تضييعاً للأمانة، نحن الآن نشترط الشروط الواسعة والعريضة نشترط في الإنسان أن يكون طويلاً وأن يكون مبصراً وأن يكون مثقّفاً وأن يكونحاصلاً على شهادة كذا وأن يكون كذا وكذا.. جميل هذا، هذا من باب تمكين الإنسان من القدرة على أداء عمله، لكننا لا نكاد نشترط شرطا مهماً وهو التقوى، لأن التقوى هي التي تجعلنا دائما قاعدة وقمة لا نختار للمسؤولية إلا الكفء التقي الأمين، ولا نستشهد إلا القوي الأمين، لأنه ما ثبت في التاريخ أن خان أمين ولكن الذي حصل : أن تولى الخائن، وشهد الخائن، لابد إذن من الرجوع إلى الشرط القرآني في تأسيس حقوق الإنسان، وفي تأسيس النظام الإداريّ الإسلامي،فمن لم يكن عدلا يجب أن يُقصى، ونقول له اذهب فأنت لستَ من أهل هذا الشأن، لأن أمامك أموراً خطيرة، وأمامك فتناً عظيمة، وستروج الأموالُ بين عينك، وسوف يتقرّب الناس إليك وكذا وكذا، فمن يضمَن لنا أنك ستثبت وتصمُد أمام كل هذه الإغراءات؟ من؟ بأي حجة أنك ترى الأموال أمامك تروج وأنت في درجة من الفقر ولاتمد يدك إليها؟ كيف؟ ما الحجة؟ عندك الضمير؟ الآن نعول على الضمير المهني؟!.
الضمير خرافة، ليس هناك ضمير، ولكن هناك الإيمان والتقوى ومراقبة الله أو ليس هناك شيء آخر، فالشهادة جزء من النظام الإداري في الإسلام، والإسلام أكّد هذا وقال : {وأشهدوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وتوسّع الفقهاء بعد، وأصّلوا هذا المبدأ، ووضعوا له شروطه وضوابطه وحدوده فقالوا : إن الشاهد لا يمكن أن يؤدّي هذه الشهادة ولا يمكن أن يُسمع له، ولا يمكن أن تُقبل منه إلا إذا توفرت له الشروط الضرورية، من العدالة، والتيقُّظ، والحُرّية.
د. مصطفى بنحمزة