2- اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوج
تحدث الدكتور محمد التاويل في الأعداد السابقة عن أدلة عدم جواز اعتماد الخبرة لنفي الولد عن الزوج منها : أنه مخالف لكتاب الله ولقضائه ، ويواصل الحديث عن اعتماد الخبرة لإلحاق الولد بغير الزوج في حلقة رابعة
الشبهة الخامسة :
تشوف الشارع للنسب واختلاف الفقهاء
تتلخص هذه الشبهة في تشوف الشارع للنسب من جهة، وفتوى بعض الفقهاء بجواز استلحاق ابن الزنا وذلك يقتضي الأخذ بهذا الرأي استجابة لرغبة الشارع وتلبية لتشوفه من جهة، ولأن اختلاف العلماء رحمة، ومن قلد عالما لقي الله سالما. هكذا يقولون وهكذا يجادلون.
ولكن الحق أن هذه الشبهة كسابقاتها شبهة باطلة بشِقّيها معا.
أما دعوى تشوف الشارع للنسب فيردها أمران :
ـ أولا : أن الشارع المتشوف لثبوت النسب هو نفسه الذي قطع نسب ابنالزنا من أبيه، وهو الذي أبطله وألغاه ولم يعترف به وأعلن على لسان رسوله عن عدم رغبته في ثبوت هذا النسب ولحوق هذا الولد، فكيف يمكن لأحد ان يتجرأ ويلحق هذا الولد بالزاني ويدعي أنه يحقق رغبة الشارع في ثبوت النسب، وهو أعلن صراحة وبوضوح أنه لا يتشوف لهذا النسب ولا رغبة له في ثبوته في هذه الحالة. فهل هذا إلا معاكسة للشارع ومحادة له. فالشارع يرفض الاعتراف به، وهذا القائل الدعي يلزمه بقبوله بدعوى الاستجابة لرغبته. فأي رغبة للشارع في ثبوت النسب الملوث؟! ومَنْ عَبَّرَ عن رغبته هذه حتى يستجاب لها؟ أليس في هذا افتراء على الشارع وتقويل له مالم يقله؟
ـ ثانيا : فإن محل العمل بهذه القاعدة وهذا المبدأ : تشوف الشارع للنسب عند ما يكون الأمر ممكناً، ويكون ذلك محتملا أن يكون الولد للفراش ولو احتمالا بعيدا كما في حالة الزوجة الزانية يظهر بها حمل، يحتمل كونه من الزنا، ويحتمل كونه من الزوج. والزوجة التي يغيب زوجها سنوات ثم يعود فيجدها ولدت أولادا، فإنه يحتمل كونهم من الزوج ويحتمل كونهم من الزنا، وهو الاحتمال الأقوى، ولكن الشارع يلحق الأولاد بالزوج في الحالتين لاحتمال أن يكون الحمل من الزوج في الأولى، واحتمال مجيئه سرا في الثانية. فغلب الشارع احتمال كون الأولاد من الزوج وألحقهم به إلا أن ينفيهم بلعان.
وكما في المطلقة والمتوفى عنها تأتي بولد قبل مضي أقصى أمد الحمل الذي هو سنتان أو أربع أو خمس على الخلاف فإنه يحتمل كونه من الزوج، ويحتمل كونه من زنا احتمالا قويا إذا جاءت به قبل مضي أربع سنوات أو خمس بيومين أو يوم، ومع ذلك الشرع يلحقه بالزوج تشوفا للنسب إلا أن ينفيه بلعان.
وكما في مسألة ولادة الزوجة لستة أشهر، فإن احتمال كونه من الزنا أرجح، ولذلك هم عمر ] برجم زوجة ولدت لستة أشهر حتى ذكره علي ] بقوله تعالى : {وحَمْلُه وفصالُهُ ثلاثون شهرًا}(الأحقاف : 14)، وقوله في آية أخرى {وفِصَالُه في عَامَين}(لقمان : 13) وروى أن عثمان رجم فعلا امرأة ولدت لستة أشهر لم يبلغه ما استنبطه على ] ولم ينْتبه هو له.
وكما في وطء الشبهة والنكاح الفاسد، ونحو ذلك من الحالات التي يحتمل كون الولد فيها من الزوج ومن غيره ولو احتمالا بعيدا كما قلنا، فهنا تأتي قاعدة تشوف الشارع للنسب لانقاد الولد والستر على الزوجة وعلى الزوج أيضا، فإن فضيحة زوجته فضيحة له، مع الاحتفاظ للزوج بحقه في نفي الولد عن طريق اللعان إذا علم أن الولد ليس ولده.
أما عندما لا يكون هناك عقد نكاح ولا شبهة عقد فلا يمكن القول بلحوق الولد بالواطئ لتشوف الشارع للنسب، لأن الشارع لا يتشوف لهذا النسب الملوث ولا يقبل من أي أحد أن يدعي في هذه الحالة تشوف الشارع للنسب، ويفتري على الله الكذب لأن الشارع عبر عن موقفه من هذا النسب بصراحة ووضوح عندما قال : >الولد للفراش وللعاهر الحجر<، والزاني لا فراش له فلا ولد له، وإنما هو عاهر.
وليس للعاهر إلا الحجر : الخيبة والحرمان، أو الرجم بالحجارة.
هذا عن الشق الأول من الشبهة وأما الشق الثاني المتعلق بفتوى بعض الفقهاء بجواز استلحاق ابن الزنا إذا كانت أمه لا زوج لها فإن ذلك يَرُدُّهُ :
أولا أن موضوعها الاستلحاق لا الإلحاق، والاستلحاق عندما يكون مشروعا لا يحتاج معه إلى خبرة ولا بصمة وراثية. وإنما يكفي فيه اعتراف الأب بأن هذا الولد ابنه إذا توفرت شروطه التي من بينها أن لا يكون هذا الابن مولودا من زنا.
وأما ثانيا فإن الفتوى بجواز استلحاق ابن الزنا من الفتاوى الشاذة التي لا مستند لها، ولا دليل عليها، وليست من باب اختلاف العلماء رحمة، بل من باب زَلَّةِ العُلَمَاء التي يجب سَتْرُها والاستغفار لقائلها، ولا يجوز العمل بها وتقليده فيها.
أولا لضعفها وشذوذها وافتقارها لدليل شرعي يدعمها، ومنالقواعد العامة المعمول بها أنه لا يجوز الإفتاء، والعمل بالقول الضعيف، ولا ينفذ الحكم به إذا وقع. وفي العمل الفاسي :
حُكْمُ قُضَاة الوقت بالشذوذ
ينقض لا يتم بالنفوذ.
وقديما قيل :
وليس كل خلاف جاء معتبرا
الا خلافا له حظ من النظر
وثانيا فإن القائلين بجواز استلحاق ابن الزنا يشترطون شروطا خاصة، بعضهم يشترط إقامة الحد عليه فإذا لم يقم عليه حد الزنا فإنه لا يعتد باستلحاقه وبعضهم يشترط إقامة الحد عليه أو تملُّك أمِّهِ.
وبعضهم يشترط تَزَوُّح أمِهِ قبل ولادته.
وهي شروط غير موجودة لتعطيل الحدود، فلا يصح الأخذ بواحد من هذه الآراء لانتفاء شروطها. والشرط يلزم من عدمه العدم كما يقول العلماء.
وثالثا على تسليم وجود هذه الشروط فهي فتوى تردها الأحاديث الصحيحة الصريحة السابقة.
1- الولد للفراش وللعاهر الحجر. متفق عليه
2- أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث.
3- لا دعوة في الاسلام، ذهب أمر الجاهلية، وغير ذلك مما سبق
وهي أحاديث عامة وصريحة ولا يجوز تخصيصها أو تأويلها بغير دليل شرعي ولا وجود له.
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على عدم استلحاق ابن الزنا. قال في التمهيد : أجمعت الأمة على عدم لحوق ولد الزنا وعدم استلحاقه 8/190- وقال أيضا : وهذا إجماع من علماء المسلمين لأن الزاني لا يلحقه ولده من زنا ادعاه أو نفاه. 8/196
الشبهة السادسة :
الاحتجاج بالخطوبة
يرى أصحاب هذه الشبهة أن الخطيبة إذا حملت زمن الخطوبة قبل عقد النكاح فإن ولدها يلحق بالخاطب إذا اعترف به، وإن أنكره يلجأ إلى الخبرة الطبية لاثبات نسبه والحاق الولد به بقوة القضاء، وحجتهم في ذلك أن وطء الخاطب خطيبته يعتبر وطء الشبهة يدرأ فيه الحَدُّ، ويلحق فيه الولد بالواطئ لكنه غالبا ما يكون القصد فيه حسنا، وحسن النية متوفر وإرادة الزواج مستقبلا حاضرة عند الوطء.
وهو احتجاج باطل وقياس فاسد وفهم خاطئ لوطء الشبهة، وتوسع في مفهومه دون سند ولا دليل كما أنه مخالفة واضحة لما نص عليه الفقهاء من وجوه عدة :
أولاً : أن وطء الشبهة الذي يدرأ فيه الحد ويلحق به الولد محصور عند القائلين به في حالات معينة، لا يتعداها وهي عند المالكية والشافعية ثلاث شبه فقط. كما نص على ذلك القرافي في الفروق 172/4- 174، والعز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 160/2، وهي :
1- شبهة الموطوءة : كما هو الشأن في وطء الأمة المشتركة، فإن المِلْكَ سببٌ في إباحة الوطء، إلا أنه لما كان ملك الشريك ناقصا غير تام حُرم عليه وطْءُ الأمَة المشتركة مراعاةً لحق شريكه الآخر، فالشبهة هنا وجود أصل المِلْك المُبيح للوطء، ومِلك الشريك المانع للوطء، فراعَى الفقهاءُ سبب الإباحة فدرأوا الحد عن الشريك الواطئ لوجود الشبهة وأخذوا بحديث : >ادرؤوا الحدود بالشبهات، والحقوا به الولد للقاعدة الفقهية أنه متى دُرِئ الحد يلتحق الولد، وخالف الظاهرية فأوجبوا عليه الحد ونفوا عنه الولد تغليبا لجانب الحرمة.
2- ما يسمونه : الشبهة في الطريق إلى الوطء، كما هو الشأن في النكاح الفاسد المختلف في فساده، فإن القول، بصحته يقتضي إباحة الوطء وسقوط الحد ولحوق الولد لثبوت الفراش، بينما القول بالفساد يقتضي تحريم الوطء ووجوب الحد وانتفاء النسب لانتفاء الفراش، فراعى الفقهاء القول بالجواز والصحة فأسقطوا عنه الحد لوجود الشبهة، والحقوا به الولد للقاعدة السابقة أنه متى سقط الحد ثبت النسب، وهي القاعدة التي نظمها ابن عاصم في قوله :
وحيث درءُ الحد ينتفي الولد
في كل ما من النكاح قد فسد.
3- ما يسمونه بشبهة الواطئ : وهي أن يطأ شخص أجنبية يعتقد أو يظن أنها زوجَتُه التي في عصمته أو أَمَته التي في ملكه، فإنه يُدرأ عنه الحد ويلحق به الولد، لأنه معذور لم يطأ إلا زوجتَه أو أمتَه بحسباعتقاده وإن كان مخطئا في هذا الاعتقاد، وإن كان الحنفية يحدُّونه في هذه الحالة ولا يلحقون به الولد ولا يعذرونه بالخطأ ويعتبرونه مقصرا كان يجبُ عليه التثبت قبل الإقدام على الفعل.
هكذا صور الفقهاء وطء الشبهة وإن اختلفوا في حكمه.
ومعنى هذا أن الواطئ في وطء الشبهة له زوجة أو أمة في واقع الأمر، وأنه الْتبستْ عليه زوجته أو أمته بأجنبية لسبب من الأسباب فوطئ الأجنبية يعتقدها زوجته أو أمته.
ولاشك أن وطء الخاطب خطيبته قبل انعقاد النكاح ليس واحدا من هذه الحالات الثلاث، فالخطيبة ليست أمَةً مشتركة، والخطبة المجردة الخالية من الإيجاب والقبول ليست من النكاح المختلف فيه اتفاقا.
كما أن الخاطب لم تلتبس عليه الخطيبة بزوجته لأنه يعلم حين الوطء أنه يطء امرأة لا عقد له عليها، وإذا سأله أي أحد هل هذه زوجتك؟ يجيبه بعفوية صادقة لا، هي خطيبتي.
وبهذا يتبين أن ادخال وطء الخطيبة في وطء الشبهة لا يصح بوجه من الوجوه.
وثانيا فإن من شروط وطء الشبهة عند القائلين به أن يعتقد الواطئ حين الوطء وجود السبب المبيح للوطء في واقع الأمر أو في اعتقاد الواطئ كما هو الشأن في وطء الأمة المشتركة والزوجة المختلف في نكاحها فإن الوطء استند فيهما إلى الملك وإن كان ناقصَا وإلى النكاح وإن كان فاسداً.
وكما هو الشأن في الغالط فإن وطأه استند إلى سبب مبيح في اعتقاده وإن كان مخطئا في اعتقاده، الفروق 72/4- 74، تهذيب الفروق 202/4. ولا شك أن هذا الشرط غير موجود في وطء الخطيبة لأن الخاطب يعلم حين الوطء أنها غير زوجته، وأنها مجرد خطيبة، ومشروع زوجة فقط، وهذا القدر غير كاف في تحقق وطء الشبهة، وما يقال في هذا الباب من سلامة القصد وحسن النية لا يبيحان الإقدام على حرام، ولا يعذر بهما الخاطب كما يدل على ذلك ما ياتي وهو الوجه الثالث والدليل القاطع على بطلان اعتبار وطء الخاطب وطء الشبهة، وهو ما نص عليه فقهاؤنا فيمن وطِئَ امرأة يعتقد أنه سيتزوجها بعدُ مِنْ أنه يُحَدُّ حد الزنا ولا يُدْرَأُ عنه الحد كما نص على ذلك القرافي في الفروق 172/4- 174 ونحوه في تهذيب الفروق 202/4- 204. وهو الموافق للقاعدة الأصولية أن الحكم لا يتقدم على سببه.
وإذا وجب حده لا يلحق به الولد، للقاعدة الفقهية أن الحد والنسب لا يجتمعان.
وهذه هي صورة وطء الخاطب خطيبته بشكلها وروحها فإنه يطؤها وفي نيته أنه سيتزوجها ويعقد عليها بعد أن يكون وطئها وأحبلها.
رابعاً أنه مخالف لما نص عليه المالكية ومن وافقهم، من وجوب فسخ النكاح وحد الزوجين ونفي الولد إذا دخل الزوجان قبل الإشهاد على العقد إلا أن يشتهر دخولهما باسم النكاح اشتهارا فاشيا، وفي مختصر خليل : وفسخ إن دخل بلا هو -يعني بلا شاهد- ولا حد إن فشا.
وإذا وجب حد الزوجين اللذين عقدا النكاح ولم يشهدا عليه إذا أقرا بالوطء ولم يشتهر دخولهما فكيف يصح القول بإعفاء الخاطبين من الحد ولحوق الولد بالخاطب لمجرد وجود الخطبة وإن اشتهرت، مع العلم بأن الخطبة ليست نكاحا بالإجماع، كما أن الإجماع منعقد على حرمة الاستمتاع بالخطيبة قبل العقد عليها وإنما الخلاف في جواز النظر إليها فقط، فأية شبهة في هذا الوطء والإجماع على تحريمه، والواطئ يعلم أنها غير زوجته، وإنما هي خطيبته؟.
د.محمد التاويل