أ- مـوقفه من الأعرابي الذي بال في المسجد :
ينقل البخاري ومسلم الحادثة التالية عن أنس بن مالك ]:
بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله مَهْ مَهْ. قال : قال رسول الله : >لا تُزرموه (1) دعوه.< فتركوه حتى بال. ثم أن رسول الله دعاه فقال له: >إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر. إنما هي لذكر الله عز و جل والصلاة وقراءة القرآن< فأمر الرسول رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه(2) عليه.(3)
أجل، لقد كان معظمهم في البداية في مثل هذا المستوى من البداوة والتخلف بحيث لا يرون بأساً من البول في المسجد… من هؤلاء البدو شكل وكون ذلك المجمتع المثالي العظيم.. ومن يدري كم من عظيم أتى من صلب هذا البدوي!
ب- الـقـيمة التي أعطاها للمرأة:
انطوت الجاهلية في صفحات الماضي، ولم يعد أحد يذكرها إلا بابتسامة مرة أو بابتسامة هازئة.. أجل، فعندما كانوا يتذكرون عهد الجاهلية كانت المرارة ترتسم على الشفاه وعلى الوجوه. ففى يوم جاء أعرابي من البادية إلى مسجد رسول الله وتحدث مع رسول الله فكان مما قاله:
يا رسول الله إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان فكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلما أجابت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، فدعوتها يوماً فاتبعتني، فمررت حتى أتيت بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها فرميت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه، يا أبتاه فبكى رسول الله حتى وكف(4) دمع عينيه، فقال له رجل من جلساء رسول الله : أحزنت رسول الله . فقال له: >كُفَّ،(5) فإنه يسأل عمّا أهمّه.< ثم قال له: >أعِدْ عليّ حديثَك< فأعاده، فبكى حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته ثم قال له: >إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك.<(6)
أجل، كان هذا وضع الناس آنذاك.. لم يكن للمرأة حق الحياة، وقد ظهر رسول الله من بين مثل هذه الجماعة فقام بإعطاء كل شيء حقه وأعطى للمرأة قيمة كبيرة.. هذه المرأة التي كانت مهانة ومحتقرة من جميع الأطراف حتى من قبل والدها< حتى إن النساء كن يخفين البنات عن آبائهن، ومع أن الإحصاء لم يكن معروفاً آنذاك فأنا أعتقد بأن 50% من النساء اللواتي عشن كن من النساء اللواتي أخفين عن أعين آبائهن. ولم يأنف عن عملية القتل والوأد هذا إلا بعض الرجال من ذوي الفطر السليمة مثل أبي بكر ]. وعدا هؤلاء فإن معظم الشباب الذين لم يتعرفوا على الإسلام كانوا من قتلة بناتهم.. في مثل هذا المجتمع ظهر النبي ورفع المرأة إلى المستوى اللائق بها.
تأملوا الحادثة التي روتها أمنا عائشة ]ا ونقلها النسائي وأحمد:
إن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة. قالت: أجلسي حتى يأتي النبي . فجاء رسول الله فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله. قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء؟ (7)
إذن، فالمرأة التي كانت تدفن حية، والمرأة التي كانت مهانة ومحتقرة سابقاً أصبح لها الحق في أن تأتي إلى رسول الله وتطالب بحقها بكل حرية وترغب في معرفة عما إذا كان لوالدها الحق في استعمال القوة في موضوع الشخص الذي سيتزوجها. ولو أن أحدهم قبل عدة سنوات ذكر بأن هذا سيحدث لما صدقه أحد ولظنوا أن بعقله خللاً.
ج- رجل الاسـتغـناء :
يروي الإمام مسلم وابن ماجة وأبو داود عن عوف بن مالك ]: كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: >ألا تبايعون رسول الله؟< وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله ثم قال: >ألا تبايعون رسول الله؟ < فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: >ألا تبايعون رسول الله؟ < قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال: >على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً والصلوات الخمس وتطيعوا (وأسرّ كلمة خفية) وأن لا تسألوا من الناس.< فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه.(8) وأسر الرسول جملته الأخيرة حتى لكأنه لا يريد أن يسمعه أحد، والظاهر أنه فعل هذا لكي لا يتسبب في إحراج أي صحابي من أصحابه فقد كان النبي شخصاً حساساً جداًّ تجاه أصحابه.
ومرت السنوات وافتقر العديد من هؤلاء ولكنهم لم ينسوا عهدهم له لذا، نراهم يبدون اهتماماً كبيراً على ألا يسألوا أحداً شيئا، حتى أن سوط أحدهم ليسقط وهو على ظهر ناقته أو جواده فلا يسأل أحداً أن يناوله وينزل من دابته ليلتقط السوط بنفسه.. ويجوز لنا أن نتصور أن هؤلاء الذين بايعوا الرسول مثل هذه البيعة لم يطلبوا ولو قدح ماء من أيشخص.
يروي الإمام البخاري في صحيحه والترمذي أن حَكيم بن حِزَام ] قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي: >يا حكيم! إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى< قال حكيم: فقلت: …يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنياî فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئاً. ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله فقال: يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي حتى توفي رحمه الله.(9)
———
(1) لا تُزرموه: معناه لا تقطعوا. والإزرام القطع. (المترجم)
(2) فشنه: أي فصبه. (المترجم)
(3) البخاري، الوضوء، 56-58< مسلم، الطهارة، 98-100
(4) وكف: تقاطر. (المترجم)
(5) كف: أي أمسك عن تأنيبه ولومه. (المترجم)
(6) الدارمي، المقدمة، 1
(7) النسائي، النكاح، 36< >المسند< للإمام أحمد 6/136
(8) مسلم، الزكاة، 108< أبو داود، الزكاة، 27< ابن ماجة، الجهاد، 41
(9) البخاري، الزكاة، 50، الوصايا، 9< الترمذي، القيامة، 29
محمد فتح الله كولن