1- ما زلت على الطريق :
ونسمات رمضان الشفيفة تتسرب إلى أكوام الران السادرة على شعاب الروح وتفتت بداخلي بعضا من مسالك الشرنقات التي احتبستني لشهور عدة في شعابها وجعلتني أجافي الكتابة..ونسمات رمضان العائد تهز جدع النخلة المهيضة بداخلي وتعيدني إلى شغبي الأثير شغب الرسم والرجم والحلم بالكلمات ٍ.. ونسمات رمضان تدعوني كسالف أيام الكتابة إلى الإنخراط في حملة رج الذات قبل رج الآخر، وجدت الإعصار في تجاويفي على العهد لم يزل، والمشاعر المتلاطمة تأخد بتلابيب بعضها لتنفلت إلى الضوء عجلى.. ووجدتني بكل الشوق والتوق أنساق وراءها ملبية لأجدد العهد أمام الله سبحانه، ثم أمامك قارئي في أي قطر كنت وفي أي جغرافية حللت، عهد الجندية التي تلازم السلاح حتى تلقى الله سبحانه، سلاح الثأر للحق . وإني وإن وضعت السلاح جانبا، وإن تراخت أصابعي عن الزناد، وإن جفوت للحظات عابرة، فعيني بل قلبي لازال على الطريق، وما بدلت تبديلا.. وكيف أبدل أو أقايض، والسلعة : الجنة، والزاد قليل والطريق طويل..
وهل أرجو ثواباً أو شكورا عند من لا يملك حتى قطميرا؟؟؟
2- القرآن الكريم و”كلاكسون” الإستجداء البئيس :
كثيرا ما أثار سمعي وأنا في ضيافة أمي صوت” كلاكسون” حاد متبوع بتلاوات قرآنية تشق فضاء الشارع العام فأسارع لمعاينة الصوت من فسحة الشرفة، ويا إيـلام ودرامية ما أرى.. رجل يجر دراجته المتهالكة وعلى ظهرها استوى صندوق خشبي قديم، يحمل بضع شرائط سمعية بتلاوات قرآنية مشرقية مشهورة، ويكاد صوت الشرائط و”الكلاكسون” يفرقع طبلات الأذن، وتكاد الأصوات الشجية للمقرئ سعد الغامدي أو السديس أو الشريم تسلب ألْبَابَ من يلقون السمع وينصتون.. لكن الواقع على الأرض غير ذلك، فعدا بعض الإلتفاتات العابرة والقامات الفضولية المتطلعة من الشرفاتوبضع صبية بطالـيـن، يرافقون ” بائع الشرائط ” ، لا أحد يهتم بالرجل أو معروضاته! والمفارقة أن أصوات زعيق ميكروفونات أغاني هز البطن وخبط الأرض سواء المشرقية أو الغربية، حين تنبعث من الشرائط المسموعة أو المرئية بنفس الشارع، تصلب قامات الرجال الصناديد وتسيل لعابهم وتخطف عيونهم إلى مالا نهاية. وقد رأيت بأم عيني في أحد الأحياء الشعبية صاحب دكان لمبيعات التلفاز يتجمهر حوله الشيب والشباب وتتلوى عجيزاتهم في كل الإتجاهات، وحين انسللت من الزحام إلى فسحة داخل الدكان لإستكشاف مايجري، رأيت وسمعت ما لاعين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر : بث لوصلة رقص صبايا مغربيات، تطير شعورهن الطويلة السوداء على هيئة شعر النساء الخليجيات، ويتمايل وسطهن بإثارة تجل عن الوصف، وهن في لباس الجينز اللصيق بمكامن أنوتثهن وصدورهن المتوفزة، يوقظن المشاعر المريضة، ماظهر منها ومابطن، وألفيتني وأنا أرى سحنات ذكورية مسحورة مأخوذة إلى عوالم الخدر والهلاك أذكر قولة أمي الشهيرة حين ترى منسوب التردي الأخلاقي يواصل انحداره : (باز للرجال كيفاش كا يرجعو لعيالاتهم ولديورهم مع هاد المسخ)!!..
ويظل بائع الشرائط القرآنية عبرالأزقة و الدروب يضغط بلا جدوى على “الكلاكسون” ويرفع إبرة التلاوة عبثا وقد ختم الله على قلوب العابرين وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فما يستهويهم غير الدف والطبلة، والميل المميل للقوارير المضيعات (بفتح الياء وكسرها)!!..
وقديما إبان زمن الأنوار قال عتبة بن ربيعة وهو من الكافرين، حين سمع القرآن من رسول الله : >إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وماهو من كلام البشر<.
وغير بعيد عن هذا السياق، أتى على الكثير من ملتزمينا وقت قرأوا فيه ماجاء في سيرة الصحابة، وبالضبط في الجزء الخاص بالفاروق الحبيب العظيم سيدنا عمر بن الخطاب ]، حين سمع في ليلة قارئا يتلو قوله تعالى : {بسم الله الرحمن الرحيم، والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحرالمسجور، إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع]}(الطور 1ـ8)، فقال : (قسم حق ورب الكعبة)، وخر مغشيا عليه ولبث مريضا ثلاثين يوما يعوده الناس، أقول حتما تساءلنا وقت قراءة هذا الحدث البليغ الدلالة، بكل الأسى والحزن، عن السر في الإرتباط المتين للفاروق بكتاب الله سبحانه، وتماهيه العجيب مع قوله تعالى، حد السقوط مغشيا عليه وملازمة الفراش لمدة ثلاثين يوما !!
..ونحن يا نحن، لا نملك أن يغشى علينا حتى يوما واحدا !!، وكل مايقرب القرآن إلى أفهامنا من تفاسير وأشرطة وكتب هو طوع أيدينا؟!.. ولا عجب فالفاروق رضي الله عنه في صفاته المثلى يصدق فيه قوله تعالى في سورة الإسراء : {قل آمِنُوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتْلى عليهم يخرون للأذقان سجَّدًا ويقولون سبحان ربّنا إن كان وعْدُ ربنا لمفعولا ويخرُّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}(الإسراء : 107، 108، 109)..أما نحن فيصدق فينا قوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج : 46).
وكيف لنا أن لا تعمى قلوبنا، ونحن اتخذنا القرآن مقبورا لامهجورا فحسب.
والحال كذلك، كيف نلقى رسول الله ، وقد ضيعنا وصاياه، ففي يوم عرفة المجيد وقف عليه السلام يوصي من خطبة طويلة، أصحابه والتابعين والعالمين، بالإستمساك بكتاب الله تعالى. قال عليه السلام (..وقد تركت فيكم مالن تضلوا بعده : كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون).. وفي ذكر ملاحم ضلالنا ما لا يسعه حبر ولا ورق..
3- رمضان والخُشُب المسندة :
لم ينزل سبحانه وتعالى القرآن الكريم على رسوله المصطفى في شهر وقع فيه التكليف للعباد من لدن حكيم خبير بالصيام، عبثا، فالرجة العظيمة التي تهز جسم وروح المسلم الممتثل لأوامر الله ونواهيه وهو يؤدي شعيرة الصيام والتي أوجزها سبحانه في قوله تعالى في سورة البقرة : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.. هذه الرجة تجعل المسلم أكثر استعدادا وقابلية جسمانية وروحية لإستقبال النور القرآني، كمثل ثوب ناصع البياض ألبسته جسما نظيفا فزاد الجسم ألقا ونورا..
لقد أنزل القرآن الكريم الذي قال في وصفه تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضْوَانه سبل السلام ويُخْرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صَّراط مستقيم}(إبراهيم : 1)، للتدبر والتفكر،في اتجاه معرفة الله سبحانه والإحاطة بقدرته ونعمه، وبالتالي توحيده عن علم، وإفراده بالعبودية، ولن يتأتى الغوص في بحر النفائس القرآنية إلا بتزكية النفس، بالإمتناع عن أقرب الشهوات إليها وأشقهاعليها فراقا : شهوتي البطن والفرج، لذا اختار سبحانه وهو اللطيف الخبير بعباده للقرآن، هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان شهر الصيام عن شهوات الإخلاد إلى الأرض.. و لن تَلِجَ الأنوارُ إلا بتحقّق شروط الولوج !! وإلا فهل رأى أحدُنا الشمس تنفُذ من خلال حائط صلد؟!!..
وبصيغة تمثيلية أقرب إلى الواقع، فإن مَنْ يرى الإهانة التي تلحق بكتاب الله، وفي حق شهر اسثتنائي يُعْتَبر بمثابة دورة استدراكية للعصاة والغافلين، لممَّا يمزق قلوب الصادقين، فالفلكلوريةُ والتهريج والترويجُ، حتى للمقاعد الإنتخابية مع اقتراب كل موعد انتخابي، وسرقةُ قلوب الجماهير بالحيلة الإعتقادية أصبح يتمُّ باسم رمضان نهارا جهارا، وأعمال الإحسان الرمضانيّة والعباءات واللحي وصلوات الفجرالعابرة، والتراويح والسُّبحة واللبدة وممارسات تعبدية شتى، تُجَـَّـُيــر كلها لفائدة تلميع صورة المرشح الفلاني، و”الماركتينغ” المرافق للتلميع غدا أشْبَهَ بالحملات الإنتخابية للديمقراطيين والجمهوريين بأمريكا مع التعديل!!..وصدق رسول الله حين قال : (إذا لم تستحي فافعل ماشئت)..
ومن أعجب المضحكات المبكيات ما رأيت من إقفال لحانات تُبْرِزُ علانية أسماء الخمور بالألوان واَلأضواء على باب خماراتها، حتى ليحسب المرء أن رياح اللطف الرباني هبت بالتوبة مع حلول رمضان، وسرعان مايطالعك العارفون بخبايا الأمور فيما يجري ويدور أمام خيبتك الكبرى بل فجيعتك بأن الإقفال هولغرض إصلاح مرافق الحانات وتجميلها للسادة الرواد، الذين سينهمرون عليها كزخات المطر مع أذان مَغْرِب آخِر يَوْمٍ من الصِّيام وهَدِير مَدَافِع العيد !!!..
فكيف ضيعت أنوار القرآن التي شكلت جيل النصرة، جيل فتح مكة وغزوات بدر وتبوك وعين جالوت.. وكيف حدثت كل هذه القطيعة بين المصب والجدول؟؟
كتب “سيد قطب” رحمه الله متحدثا عن هذا الكنز العظيم الذي عز به أقوام وذل بجحوده أقوام وهوينهي كتابة ملحمته الرائعة في تفسير القرآن الكريم : ” في ظلال القرآن”، قال سيد قطب رحمه الله : (وانتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقين جازم حاسم : أنه لا صلاح لهذه الأرض ولا راحة للبشرية ولا طمأنينة لهذا الإنسان ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع إلى الله. والرجوع إلى الله كما يتجلى في ظلال القرآن له صورة واحدة وطريق واحد، واحد لا سواه، إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم، إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها والتحاكم إليه وحده في شئونها وإلا فهو الفساد في الأرض والشقاوة للناس والإرتكاس في الحمأة الجاهليه التي تعبد الهوى من دون الله…. لقد تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن وبالتصور الجديد الذي جاء به من القرآن وبالشريعة المستمدة من هذا التصور، فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته. لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم، كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا كان يعز على خيالها مجرد تصوره قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء.. نعم لقد كان هذا الواقع من الجمال والنظافة والعظمة والإرتفاع والبساطة واليسر والواقعية والإيجابية والتوازن والتناسق. بحيث لا يخطر للبشرية على بال لولا أن الله أراده لها وحققه في حياتها..في ظلال القرآن، ومنهج القرآن، وشريعة القرآن) انتهى كلام سيد قطب / في ظلال القرآن، المقدمة 1 / 15 16
وإني ليتنازعني سلطان البقاء معكم قرائي في رحاب القرآن، وتستعجلني ضرورة إنهاء المقال.. وأعلم أن حالي وحال الكثير منا يصدق فيه قول الشاعر :
كالعيس يقتلها الظمأ
والماء على ظهورها محمول
فإلى حلقة قادمة نكون فيها قد شمرناولوقليلا لإستقبال ضيف التصفية والتحلية : رمضان، وإذا وفقنا المولى سبحانه إلى سلوك المدارج الأولى إلى كتاب الله تعالى وفتح لنابواسع مغفرته ورحمته -وما ذلك عليه بعزيز-، شقا من أبواب أنواره فسيكون حديثنا عن بعض من هذه الأنوار، بإذنه سبحانه،حديثا حركيا لاحديث دروشة وشطحات (وإن كان السالكون الصادقون يتخفون مااستطاعوا في سلوكهم إلى أنوار الحق)..
فهذا ابراهيم بن أدهم يقول في الحديث عنه ابن الجوزي أنه اشتهر ببلد، فقيل هو في البستان الفلاني، فدخل الناس يطوفون ويقولون : أين إبراهيم ابن أدهم؟، فجعل يطوف معهم ويقول : أين إبراهيم ا بن أدهم؟!!.
وصدق الشاعرحين قال :
وقلنا لكم لاتسكنوا القلب غيـرنا
فأسكنتم الأغـيـار مــــــــــــاأنتم مــــــنــا.
ذة.فوزية حجبي