جاء التشريع الإسلامي للصوم أكمل تشريع وأوفاه بالمقصود، وأضمنه للفائدة، وقد تجلت فيه حكمة العزيز العليم الحكيم الخبير، الذي خلق الإنسان {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
لماذا خص رمضان بالصوم ؟
جعل الله الصوم في رمضان، لأن رمضان قد أنزل فيه القرآن، فكان أحق شهور الله – بما خصه الله من يمن وسعادة وبركة ورحمة، وبما بينه وبين القلوب الإنسانية السليمة من صلة خفية روحية – بأن يصام نهاره، ويقام ليله.
وبين الصوم والقرآن صلة متينة عميقة، ولذلك كان رسول الله يكثر من القرآن في رمضان، يقول ابن عباس ] :
(كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة).
يقول العارف بالله، العالم الرباني الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي ((1034هـ)) في بعض رسائله :
” إن لهذه الشهر مناسبة تامة بالقرآن، وبهذه المناسبة كان نزوله فيه، وكان هذا الشهر جامعاً لجميع الخيرات والبركات، وكل خير وبركة تصل إلى الناس في طول العام قطرة من هذا البحر، وإن جمعية هذا الشهر سبب لجمعية العام كله، وتشتت البال فيه سبب للتشتت في بقية الأيام وفي طول العام، فطوبى لمن مضى عليه هذا الشهر المبارك، روضي عنه، وويل لمن سخط عليه، فمنع من البركات، وحرم من الخيرات “.
ويقول في رسالة أخرى :
” إذا وفق الإنسان للخيرات والأعمال الصالحة في هذا الشهر، حالفه التوفيق في طول السنة، وإذا مضى هذا الشهر في توزع بال وتشتت حال، مضى العام كل في تشتت وتشويش “.
وقد روى أبو هريرة ] عن رسول الله ، قال :
(إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) والأحاديث في الباب كثيرة.
موسم عالمي، ومهرجان عام، للعبادات، والخيرات
وهكذا أصبح رمضان موسماً عالمياً للعبادة والذكر والتلاوة والورع والزهادة، يلتقي على صعيده المسلم الشرقي مع الغربي، والجاهل مع العالم، والفقير مع الغني، والمقصر مع المجاهد، ففي كل بلد رمضان، وفي كل قرية وبادية رمضان، وفي كل قصر وكوخ رمضان، فلا افتيات في الرأي، ولا فوضى في اختيار أيام الصوم، فكل ذي عينين يستشعر جلاله وجماله أينما حل ورحل في العالم الإسلامي المترامي الأطراف، تغشى سحابته النورانية المجتمع الإسلامي كله، فيحجم المفطر المتهاون بالصوم عن الانشقاق عن جماعة المسلمين، فلا يأكل إلا متوارياً أو خجلاً، إلا إذا كان وقحاً مستهتراً من الملاحدة، أو الماجنين، أو كان من المرضى والمسافرين، الذين أذن الله لهم في الإفطار، فهو صوم اجتماعي عالمي، له جو خاص، يسهل فيه الصوم، وترق فيه القلوب، وتخشعفيه النفوس، وتميل فيه إلى أنواع العبادات والطاعات، والبر والمواساة.
الجو العالمي، وما له من تأثير في النفوس والمجتمع :
وقد لا حظ ذلك شيخ الإسلام أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي بنظره الدقيق العميق، فقال وهو يشرح حديث : (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة) إلخ : ” إذا التزمته أمة من الأمم، سلسلت شياطينها، وفتحت أبواب جنانها، وغلقت أبواب النيران عنها “.
الفضائل : وما لها من تأثير وقوة
إن الحياة في صراع دائم بين الشهوات الحبيبة إلى النفس، والمنافع المقررة عند العقل، وليست الشهوات هي التي تنتصر دائماً في هذه المعركة – كما يعتقد بعض الناس – فذلك سوء ظن بالطبيعة البشرية، وإنكار للواقع.
إن القوة التي تدير عجلة الحياة بسرعة، وتفيض على هذا العالم الحياة والنشاط هي الإيمان بالنفع، ذلك الإيمان هو الذي يوقظ الفلاح في يوم شاتٍ شديد البرد فيحرم عليه الدفء، ويبكر به إلى الحقل، وفييوم صائفٍ شديد الحر يهون عليه وهج الشمس ولفح السموم، ويفصل بين التاجر وأهله، ويتوجه به إلى متجره، ذلك الإيمان هو الذي يزين للجندي الموت في ساحة القتال، وفراق الأحبة والعيال، فلا يعدل به راحة ولا ثروة ولا نعيماً، إن كل ذلك أيمان بالمنافع وحرص على الخير، وهو القطب الذي تدور حوله الحياة.
وهنالك إيمان أعظم سلطاناً على النفوس، وأعمق أثراً من الإيمان الذي ضربنا له بعض الأمثال، ذلك الإيمان بمنافع أخبر بها الأنبياء والرسل، ونزل به الوحي، ونطقت به الصحف، وهي تنحصر في رضا الله وثوابه، وجزائه في الدنيا والآخرة.
لقد علم الجميع أن الإمساك عن الطعام في بعض الأيام مفيد للصحة، وخير للمرء أن يصوم مراراً في كل عام، وقد أسرف الناس في الأكل والشرب، واتخموا بأنواع من الطعام والشراب فأصيبوا بأمراض جسدية وخلقية، كل ذلك معروف ومشاهد، وآمن الناس بفوائد الصوم الطبية، وآمنوا بأنه ضرورة صحية، وآمنوا كذلك بفوائد الصوم الاقتصادية.
ولكن إذا سأل سائل : ما عدد الصائمين في هذه السنة لفوائد طبية، ومصالح اقتصادية ؟ وما عدد الأيام التي صاموها طمعاً في الاعتدال في الصحة أو الاقتصاد في المعيشة ؟ كان الجواب المقرر إنه عدد ضئيل جداً، ضئيل حتى في الشتاء مع أن الصوم فيه سهل هين، ورغم أن الصوم الطبي أو الاقتصادي أسهل بكثير من الصوم الشرعي.
ثم ننظر في عدد الصائمين الذين يصومون، لأنهم يعتقدون أن الصوم فريضة دينية، قد وعد الله عليه بثوابه ورضاه، وتكفل بجزائه، فنرى أن هذا العدد – مهما طغت المادية، وضعف الدافع الديني – عدد ضخم لا يقل عن ملايين، وأن هؤلاء الملايين من النفوس لا يمنعهم الحر الشديد في الأقاليم الحارة من أن يصوموا في النهار، ويقوموا في الليل ؛ لأن الإيمان بالمنافع الدينية التي أخبر بها الأنبياء عند أهل الإيمان أقوى من الإيمان بالمنافع الطبية التيأخبر بها الأطباء، ومن الإيمان بالمنافع الاقتصادية التي لهج بها الاقتصاديون.
ذلك لأن المؤمنين سمعوا في الصوم ما هون عليهم متاعب الصوم، وشجعهم على احتمال الحر والجوع والعطش، فقد روى أبو هريرة ] عن النبي قال :
(كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى : إلا الصوم، فإنه لي، وأنا اجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان عند فطوره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائف أطيب عن الله من ريح المسك) وروى سهل بن سعد عن البني قال : (في الجنة باب يدعى الريان، يدعى له الصائمون، فمن كان من الصائمين دخله، ومن دخله لم يظمأ أبداً) وعن أبي هريرة ] رفعه : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه).
العناية بروح الصوم، وحقيقته، ومقاصده، والجمع بين (السلب) و(الإيجاب)
إن صوم رمضان لهيئته الاجتماعية وشيوعه في المجتمع الإسلامي عرضة لأن يتغلب عليه التقليد واتباع العادة، وأن لا يصومه كثير من الناس، إلا مسايرة للمجتمع والبيئة، وتفادياً من الطعن والملام، وأن يشار إليهم بالبنان، ولا يرافقه الإيمان والقصد، والتفكير في عظم شأنه وموقعه من الله وأجره وثوابه، أو يصومه بعض الناس لغايات مادية، أو مقاصد صحية واقتصادية، فكان من حكمة النبوة الباهرة، وفقه الرسالة العميق أن اشترط النبي للصوم المقبول عند الله الإيمان والاحتساب، فقال : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقد يتساءل الرجل الذي لم يعرف دخائل النفس الإنسانية والأنماط البشرية المختلفة : إن رمضان لا يصومه إلا المسلمون، ولا يدعوهم إلى ذلك إلا الإيمان والاحتساب، فلماذا قيده لسان النبوة بصفة الإيمان والاحتساب، فهو من قبيل تحصيل الحاصل ؟ ولكن الذي توسعت دراسته للحياة، وتعمقت معرفته للدوافع النفسية، والعوامل الخلفيةوالاجتماعية، وقف خاشعاً أمام هذه الحكمة، والعلم الدقيق العميق، وشهد بأنه {وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحى يوحى}.
وقد جاء تفسير الإيمان والاحتساب في حديث آخر، بأن يكون الإنسان راجياً للثواب، مصدقاً لما وعد الله على هذا العمل بالمغفرة والرضا…
ثم إن التشريع الإسلامي لم يكتف بصورة الصوم، بل اعتنى بحقيقته وروحه كذلك، فلم يحرم الأكل والشرب والصلات الجنسية في الصوم فحسب، بل حرم كل ما ينافي مقاصد الصوم وغاياته، وكل ما يضيع حكمته وفوائده الروحية والخلقية، فأحاط الصوم بسياج من التقوى والأدب وعفة اللسان والنفس، فقال النبي :
(إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، وإن سابه أحد، أو قاتله، فليقل إني صائم) وقال : (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وذكر أن الصوم الذي يخلو من روح التقوى والعفاف وصورة مجردة من الحقيقة، وجسم بلا روح، فقال : (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامة إلا السهر) وعن أبي عبيدة رفعه، قال : (الصوم جنة ما لم يخرقها).
وليس الصوم الإسلامي مجموعة من أمور سلبية فقط، فلا أكل ولا شرب، ولا غيبة ولا نميمة، ولا رفث ولا فسوق ولا جدال، بل هو مجموع أمور إيجابية كذلك، فهو زمن العبادة والتلاوة والذكر والتسبيح، والبر والمواساة، وقد قال النبي : (من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة).
وعن زيد بن خالد الجهني ] عن النبي قال : (من فطّر صائماً كان له مثل أجره، غير أن لا ينقص من أجر الصائم شيء).
وألهم الله الأمة للمحافظة على صلاة التراويح، التي ثبت أصلها عن النبي وقد تركها بعد ثلاثة أيام، لئلا تفرض على أمته فرضاً فتشق عليها، روىابن شهاب قال : أخبرني عروة أن عائشة ]ا أخبرته : أن رسول الله ، خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة، عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال : (أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)، فتوفي رسول الله ، والأمر على ذلك.
وقد قام بها الصحابة رضي الله عنهم وعضت عليها الأمة بالنواجذ في أعصارها وأمصارها، حتى أصبحت شعاراً لأهل السنة، والصالحين من الأمة، وكان للتراويح فضل كبير في شيوع حفظ القرآن في الأمة، ومحافظتها عليه، وبقائه في الصدور، وفضل كبير في توفيق العامة والجماهير لقيام الليل والعبادة.
وبذلك كله أصبح شهر رمضان مهرجاناً للعبادة، وموسماً للتلاوة، وربيع الأبرار والمتقين، وعيد العباد والصالحين، تتجلى فيه عناية هذه الأمة بإقامة أحكام دينها وغرامها بالعبادة، وإخباتها إلى الله، ورقة القلوب، والتنافس في البر والمواساة في أروع مظاهره، لا تبلغه، ولا تبلغ عشر معشاره أمة من الأمم، أو طائفة من طوائف بني آدم، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
ذ. أبو الحسن الندوي