قد لا يكون هذا المفهوم جديداً على الساحة ولا غريباً، وربما تناولته بعض من الأقلام، لكن يبدوأنه لم يأخذ بعد حظه من الاعتبار والاهتمام كما يأخذه مثلا التلوث البيئي. لقد وجد هذا الأخير -للخطورة التي يظهر بها- مكانة مهمة لدى مختلف الجهات، الرسمية منها وغير الرسمية، أما التلوث الأخلاقي، ورغم خطورته القصوى هوالآخر، فإنه ما يزال مهملا، لا يُلتفت إليه إلا من جهات تواجه صيحاتها عادة بوابل من التهم الجاهزة المجترة من قبيل : التطرف، والكراهية، والظلامية، والرجعية والإرهاب، إلخ.
ولعل الحديث عن الأخلاق في دولة تشجع السياحة بكل ما أوتيت من قوة وتطمح إلى دخول الملايين من السياح إلى أرضها سيكون حديثا مستفزا أوعلى الأقل سخيفا لا محل له من الإعراب. فتاريخ السياحة بالعالم يشهد بأن أوكار الفساد الأخلاقي هي المناطق التي تشهد إقبالا سياحيا جماهيريا كبيرا، كما أن السياحة بشكلها الحالي تجمع، بشهادة الواقع، أكثر الناس انحطاطا في الأخلاق وأجرأهم على الرذيلة، بل إنهم يعيشون وسطها وبقوة القانون. فهل يمكن سماع صوت الفضيلة وسط الحانات والملاهي الليلية والشواطئ ؟.. إن السياحة في بلادنا تحتاج إلى مراجعة تصحح مسارها، أوعلى الأصح : تصحح مسارنا الذي لا تبشر نهايته كما يبدوبخير…
>ما هي شواهد هذا التلوث الأخلاقي؟
إنها لأشهر من علم، واضحة جلية في كل جنبات المجتمع، مست غالبية مؤسساته بما فيها تلك المعوّل عليها في مجال التنشئة الاجتماعية سواء التقليدية أم المستحدثة، مع العلم أنها كلها متفاعلة يغذي بعضها بعضا، اتحدت فيها الأسباب والنتائج. فالأسرة، والشارع، والمدرسة، والجمعية، والإعلام وغيرها، كلها مصابة بسموم التلوث الأخلاقي.
لاحظ معي الأخلاق الهابطة لعدد من الأسر حيث تكادتختنق السكينة والمودة والرحمة. تدشن الأسر لبناتها الأولى بأخلاق فاسدة..، بسلوكات لا تنم إلا عن العبثية وافتقاد حس المسؤولية، فقد أصبحت العادة الجارية عند الكثير من الناس أن المواعيد واللقاءات المشبوهة بين الذكور والإناث مقدمة أكيدة للخطبة وعقد القران، ناهيك عن حفلات الأعراس وما تعج به من العادات القبيحة القديمة والجديدة… وتستمر ثمرات الأصل الفاسد على رأسها شرب الخمر والاختلاط الماجن، فقد تلوثت أجواء الأسر بكلمات قبيحة يتقاذفها الأزواج والأبناء، وسلوكات شاذة يعبر عنها بجلاء مصير الأبناء (أبناء الشوارع) ومصير الآباء (آباء الشوارع أودور العجزة). لاحظ معي كيف يسترخص الزوج زوجه، والوالد أبناءه، والأم جنينها، والولد أباه، والأخ إخوته، والقريب أقرباءه..، والرَّحِمُ في عليائها تعد وتتوعد : من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله..
انظر السهولة التي يتملص بها هؤلاء من مسؤولياتهم..بل تساءل عن المودة والرحمة كيف ضاعت، وعن القلوب كيف تحجرت حتى على أعز من يفترض أنهم أعز الأحباب… هل تستطيع القوانين مهما تعددت ومهما تشددت أن تعيد للأسر صلابة مواثيقها الغليظة ودفء السكينة والرحمة والمودة ؟.. أم هل تستطيع الجمعيات والدولة تعويض وظائفها بما نراها تعمله في هذا المجال من مجهودات تشكر عليها على أي حال ؟.. ما بال الأسر سريعة التفتت ؟..أهوالسوس في القانون أم في النفوس ؟.. أما القانون فقد بَرَعْتُمْ في صياغته وسد ثغراته فمن لنا بمن يداوي النفوس ؟..
ولاحظ معي المدرسة، حسرتي على المدرسة. يكاد يختنق فيها التعليم والتعلم والتربية، لقد أضحت المدرسة مرتعا خصبا لسموم أخلاقية خطيرة تجد لها هناك مروجين أكفاء، عن قصد أوعن غير قصد. أضحت المدرسة وكرا لكل من هووما هوشاذ، ولمروجي المخدرات، ومجالا لنسج علاقات لا أساس لها بين الفتيان والفتيات، وكل ما استجد من ألبسة العهر والتكشف..، وكل المفاسد…
لاحظ معي حالة أولئك الذين شبهوا بالرسل (كاد المعلم أن يكون رسولاً) اعترافا بشأنهم كيف يستغلون الحاجات المعرفية للتلاميذ للاغتناء السريع فيفرضون عليهم بدهاء ماكر الساعات الإضافية، وكيف تستسيغ ألسنتهم الكلام الساقط وسط الأقسام، وكيف ينسجون علاقات صبيانية مع التلاميذ تحرم هؤلاء من نماذج تعينهم على تلمس طريقهم في الحياة : ذلك في علاقة مع تلميذة ( أوتلميذات )، وتلك في علاقة مع تلميذ، وذلك أستاذ في علاقة مشبوهة مع أستاذة، وتلك معلمة غابت عن قسمها دهرا لتلتحق بعشيقها المعلم بالفرعية، وذلك مدير يدبر ويخطط للإيقاع بتلك، وذلك مفتش يتعسف بسلطته لتحقيق نزواته… ماذا تجدي أوراش الإصلاح، زعموا، والنفوس المعول عليها لإجراء الإصلاح فاسدة خربة ؟ ماذا تجدي أوراش الإصلاح، زعموا، ومعاول التخريب تعمل في كل مكان من طرف مدعي الإصلاح أنفسهم ؟..
ولاحظ معي الإعلام، وما أدراك ما الإعلام، أكاد أحمله كل المسؤولية، وخاصة التلفاز. منذ اشتغل التلفاز بالمغرب بقناته الأولى، ثم فيما بعد بقناته الثانية، والبيوت مختنقة بما ينفثه من سموم أخلاقية لا حصر لها أشكالا وألوانا. لا يحق لي أن أنكر ما له من إيجابيات، لكن ما حكمك في وجبة شهية وضعت فيها قطرات سم، سم قاتل، والأحرى أن أقول إنها وجبة سم وضعت فيها بعض الطيبات . القناتان معا تقتلان فينا الحياء، والهوية، والعلاقات العائلية، وكل ما هوطيب جميل… ما حكمك في الأفلام والمسلسلات التي تتابعت على مسامعنا وأنظارنا طوال عقود، فتربت عليها أجيال وأجيال. الأسرة كلها بكامل أفرادها تحدق ببلاهة في عشيق يقبل عشيقته، ويمص شفتيها، وآخر يبدأ في نزع الثياب عنها، وآخر معها على فراش النوم، وكلمات مثيرة، وحركات متحرشة، وبنت تصرخ في وجه أمها، وآخر من أجل معشوقته يلعنالأسرة والمجتمع وكل شيء.. وانظر معي القيمة المضافة التي جاءت بها المسلسلات المكسيكية وأخواتها التافهة، والبرامج الغنائية المثيرة الهابطة حيث تتمايل الجواري العصريات والغلمان العصريون يعرضون بفخر حصيلة التلوث الأخلاقي… قلت أكاد أحمل التلفاز كامل المسؤولية في الحصيلة لأنه الحائز بامتياز على رخصة التدبير المفوض لتربية النشء، أما الأسر فقد انحسر دورها أويكاد عن ذلك الشأن… ألا ترى معي أنه عظيم مُعاول التخريب وسيدُها ؟.. وهنا أتوجه إلى السادة والسيدات العاملين والعاملات في القناتين بسؤال يحيرني : هل أنتم واعون تمام الوعي بما تخلفه بضاعتكم فينا وفي أبنائنا ؟ هل أنتم واعون تمام الوعي بما تسلبونه منا من قيم جميلة ؟ هل تدركون خطورة مهمتكم ؟.. أرجوألا تكونوا مجرد آلات طيعة مسخرة مجردة من أي حس ومسؤولية… أرجوألا تكونوا كما جاء فيما يحكى مثل الحية التي مكنت الشيطان من الدخول إلى الجنة… مكّنّاكم من بيوتنا فعُثم فيها إفسادا…
ولاحظ معي الشارع، هناك تعرض عليك الحصيلة النهائية، حصيلة كل ما قد سلف، أنظر معي كيف نجح التلوث في اختراق جسم المجتمع كما يظهر على الشارع سواء في اللباس، أم في الكلام، أم في الحركات والسلوكات ما بين الأفراد ؛.. فتلك تعرض جسدها في الشارع على العموم دون حياء تتحرش بالذكور بطريقتها، وذلك يمسك بحرارة بيدي مرافقته ويحتك بها أويعانقها أويقبلها أمام المارة، وهذا يتحرش بتلك، وهذا يعتدي على هذا… ولا أحد يحرك ساكنا، وكأن البلاهة التي كنا نشاهد بها سموم التلفاز بخيالاته هي نفسها التي سرت إلى الشارع بواقعاته… بل إن بعض من رسخت في أنفسهم السموم واستحكمت يستنكرون على كل من يعترض كاستنكار قوم لوط على طهر لوط… من يمتلك الحقيقة هل العادة الرائجة أم لوط؟.. اللهم احفظنا من خاتمة قوم لوط…
ما ذكرته لك مثالوليس حصرا، إنما حاولت من خلاله إثارة الانتباه لمشاهد قد يغفلها بعضنا ولا يلقي لها بالا، لكنها تنخر في مجتمعنا نخرا يمس اللحمة التي تجمع مكوناته وتحميه من التشظي ثم الهلاك… إن التلوث الأخلاقي خطر يهدد تماسك المجتمع : فتفكك الأسر بسموم التلوث الأخلاقي ما هوإلا تمهيد ومقدمة لتفكك المجتمع. إن قوة تماسك جسم المجتمع بصحة وقوة تماسك خلاياه الصغيرة. وتستمد الخلايا قوتها من شرط أساسي هوأن تكون سيرتها وفق القانون الذي ينظمها، وفق سنة الله التي أودعت فيها، أما إذا وقع أي خلل في وظيفتها وحادت عن المنهج الذي وضع لها، فإن المرض والأوجاع مصيرها ومصير الجسد كله، وربما الهلاك… أي خير ترجوه وتنتظره أيها المجتمع من أشخاص كفروا بوالديهم، أوأزواجهم، أوأبنائهم، أوأقاربهم أوهم جميعا ؟..
إن اللحمة التي تجمع بين مكونات مجتمعنا والتي تتهددها سموم التلوث الأخلاقي بالتفتت هي ديننا، هي إسلامنا أولا وقبل كل شيء. والإسلام، لا غيره، هوالأصل الذي يجمعنا ويوحدنا، وما عداه إنما هي فروع تستمد قوتها من الأصل. مادام أن الإسلام هوالأصل فشجرتنا ثابتة وفرعها في السماء مهما هبت عليها الرياح العاتيات، أما إذا استغنينا عنه بأصل آخر فالمآل الضياع. الإسلام هوالأصل لا شيء آخر غيره…
>لماذا الإسلام هوالأصل لا غيره ؟ !..
إن العنوان الذي يمكن من خلاله اختصار كل معطيات التلوث البيئي هو: الانحراف بالطبيعة عن النظام أوالقانون الذي يجب أن تسير وفقه. الانحراف عن معايير ومقاييس معينة معلومة لدى علماء الطبيعة، استنتجوها من خلال البحث العلمي، لم يخترعوها. وإن ما يحذرون منه إنما هومستمد من خلال تلك المقاييس نفسها، مقاييس الماء الصالح للشرب، ومقاييس الهواء الصالح للتنفس، ومقاييس الأشعة الشمسية الصالحة، إلخ… المقاييس والمعايير التي إذا لم تحترم نهلك لا محالة..، سنة الله في كونه {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}.
فما هوالمقياس الذي سنميز به نحن بين الأخلاق الفاسدة والأخلاق الطاهرة ؟ بين السلوكات المقبولة والسلوكات المرفوضة ؟ هل باجتهادات الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع وغيرهم ؟.. لا أحد من هؤلاء يحق له أن يدعي بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، إنها كلها علوم إنسانية تحكمها النسبية وتميل إلى الظن والشك، هي دائما في بحث مستمر عن الحقيقة، وكل بحث لاحق يمج نتائج البحث السابق، فإما أن يصحح بعض ما يراه خطأ أويسفهه كلا، ولتلاحظ معي كثرة النظريات… لا أحد من هؤلاء يدعي أنه يمتلك مفاتيح أسرار النفس البشرية مع علة تعقدها الشديد. لا أحد يحق له ذلك إلا صانعها وخالقها الأعلم بها، الأعلم بما يصلح لها وما لا يصلح، لا أحد إلا باعث الرسل إلى الناس ليبينوا لهم ما خفي عنهم فاختلفوا فيه اختلافا كبيرا، وليرشدوهم إلى سبيل الرشاد، لا أحد إلا الذي بعث خاتم الأنبياء والرسل بالإسلام {هوالذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوعليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. لا أحد إلا الله وحده {هوالذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}.
أوتقبل معي لنفسك أن تكون عرضة لتجارب اجتهادات علماء العلوم الإنسانية، إنها اجتهادات فقط، تحتمل الإصابة والخطأ، ولا شك أنها تخضع للأهواء أحبت أم كرهت، وإنها عموما محكومة بالنسبية. لا أحد منهم مطمئن إلى اجتهاداته مهما عظمت في عينه. وهل نطمئن نحن لاجتهادات نفس بشرية تتحكم فيها إلى حد ما الظروف الذاتية والموضوعية ويصدق فيها {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}؟.. لن نطمئن نحن ولن نرتاح إلا إلى ما جاء به الإسلام لأنه جاء من عند الله تعالى الخالق مالك الحقيقة المطلقة الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين. الإسلام هوجسر الأمان في هذه الحياة، جسر وضعت لنا على جنباته حدود لا يجوز تجاوزها، حواجز تنجينا من السقوط في الهاوية، وما عدا ذلك فارتع وسط الحدود ما شئت وأنّى شئت..، إنك حر طليق ومسئول كذلك ( وتلك هي المعادلة الصعبة التي حيرت الكثيرين )… بالإسلام يستعيد مجتمعنا توازنه، ويشتد تماسكه، وتبرأ أدواؤه… الإسلام هوالمعيار والمقياس الوحيد لكل سلوكاتنا، به نحدد الصالح وبه نحدد الطالح، إليه نحتكم وإليه نرجع..ما قبله الإسلام نقبله، أما ما يرفضه فنحن نلفظه…{ النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}.
ولنختم بحكمة بليغة لأحدهم جاءه من يسأله النصيحة في تزويج ابنه فأجابه : “كان كسرى ملك الفرس يبحث عن المال، وكان هرقل ملك الروم يبحث عن الجمال، وكان العرب يبحثون عن النسب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن الدين والخلق الحسن..، فانظر أنت بأيهم تقتدي”… ولننظر نحن جميعا بمن نقتدي… {ورضيت لكم الإسلام دينا}.
عبد المجيد التجداوي