يقول الحق سبحانه في كتابه العزيز : {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ظلال مبين}، ويقول الحبيب المصطفى : >إن الله لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً، ولكن بعثني مُعَلِّماً مُيسِّراً<.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله ذات يوم من بعض حُجَرِه، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين : إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله تعالى، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي : >كلٌّ على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وهؤلاء يعلمون ويتعلمون، وإنما بُعثت مُعلماً، فجلس معهم<(ابن ماجة والدارمي واللفظ لابن ماجة).
وقال >من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضعأجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَن في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا دِرهماً، وإنما ورِّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر<(أبو داود والترمذي وابن ماجة).
هذه بعض آيات من القرآن وشيء من كلام النبي العدنان عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تبين أن مهمة التعليم مهمة عظيمة ومسؤولية كبيرة وأمانة ثقيلة ورسالة سامية.
فالتعليم صناعة ولكنه ليس ككل الصناعات لأن كل الصناعات تعتمد في مادتها الأساسية على بعض الجمادات : كالخشب والحديد والحجر..
ولكن التعليم مادته الأساسية هي الإنسان عموماً، وفكره وعقله وقلبه وروحه خصوصا.
لذلك فمهمة المعلم إصلاح ما فسد، وإنقاذ من التيه والضلال بنصح وإرشاد وتوجيه، وتقويم، وإحياء وتنمية و تزكية وتهذيب وتأديب وكل هذه المعاني السامية تُبوئ للمعلم مكانة عالية لأنه يؤدي رسالة الأنبياء، ويعتبر خليفة لرسول الله الذي بُعِثَ معلما وبُعث ليُتمِّم الأخلاق وقديما قال الشاعر :
قم للمعلم وفِه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
والذي يظن أن عمل المعلم ينحصر في حروف يدرب المتعلم على كتابتها أو كلمات يعوده على النطق بها أو أفكار يحملها في ذهنه دون أن يظهر عليه تغيير في السلوك أو تطوير للمعارف أو تصحيح للأفعال والمواقف فإنه يكون قد بخس المعلم حقه، وقد حطّ من قدره، وقلًّص حجْم مسؤوليته وعمله ومهمته، ولو كان الذي يظن ذلك هو المعلمَ نفسه.
والذي يظن أن الأجر الذي يتقاضاه المعلم في نهاية كل شهر، هو مقابل ما ينبغي أن يقوم به المعلم من أعمال وما يتحمله من أتعاب وأعباء، فإنه لم يقدر جسامة المسؤولية وثقل الأمانة.
وقد صدق من قال : إن للمعلم أجرين، أجر زهيد وأجر عظيم، فأما الأجر الزهيد، فهو راتبه الشهري الذي تؤديه الدولة، وأما الأجر العظيم فهو الذي يدخره الله له.
فيا أيها العالم الصادق ويا أيها المعلم المخلص يكفيك فخراً أنك ترث رتبة النبوة إن أنت أخلصت في عملك، ويكفيك شرفاً أن الملائكة تشتغل بالاستغفار لك. وأي منصب أحسن من هذا المنصب الذي تشتغل الملائكة بالاستغفار لصاحبه، وهو مشغول بعلمه يطوره ويُنمِّيه، ويُبلغه وحتى أنت أيها المتعلم تحشر في هذه الزمرة، وتدخل في هذه الطائفة، قال : >مامِن خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع<.
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله : >من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع<، وعن أبي هريرة ] عن النبي قال : >مَن جاء إلى مسجدي هذا، لم يأته إلا لخير يتعلمه أويُعلِّمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله<. ولذلك قيل : >يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجَحُ مداء العلماء.
وقال الإمام أحمد : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن المرء يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد الأنفاس.
وقال بعض السلف : من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معا فعليه بالعلم.
التعليم بين التجارة والرسالة :
إن المعلم نوعان : معلم تجاري ومعلم رسالي.
فأما المعلم التجاري فهو الذي لجأ إلى مهنة التعليم قهراً واضطراراً بعد أن أغلقت في وجهه أبواب الكسب والرزق، وهذا الصنف كثيراً ما يمارس بعض الخروقات التي تجعله المحور الرئيسي لحديث المجالس في المقاهي والأندية والتجمعات ويتفنن الجلساء في عرض أخطائهم وهفواتهم وفضائحهم باحتقار واستهزاء عفا الله عنهم.
وأما المعلم الرسالي، وهو الذي يحق لنا أن نعرض صفاته ونذكر خصاله حتى يكون قدوة لغيره، فهو المعلم الذي اختار مهنة التعليم عنطواعية ليؤدي أمانته أحسن أداء، ويبلغ رسالته أتم تبليغ.
وهو المعلم الذي يخلص نيته لله تعالى في كل عمل تربوي يقوم به، ويطمع في أن يحظى بثواب الله ورضوانه، وهو المعلم الذي يتقي الله في أبناء الأمة ويخشى الله في السر والعلن، ويراقب الله تعالى مراقبة دائمة ومستمرة، ويعلم علم اليقين أنه إذا اختفى عن أنظار الناس فإنه لن يخفى عن عين الله، فلا يدخر جهداً في رعاية أبناء الأمة وفي تربيتهم وتعليمهم.
ومن الصفات التي تساعده على أداء مهمته التربوية ومسؤوليته التكوينية، ورسالته الإصلاحية هي صفة الاتزان والحِلم وما يتفرع عنهما من رفق ورحمة وحنان وعفو في معاملته للمتعلمين، ومن حزم وصرامة وشدة إذا استوجب الأمر ذلك، وهذا ما يُعطي المعلم احتراما ووقاراً وهيْبَة.
ومن الأمور التي يدركها المربي الرسالي استشعاره بمسؤوليته الكبرى في تربية أبناء المجتمع وتكوينهم مستحضراً قول رسول الله : >إن الله سائل كلّ راعٍ عما استرعاه حفظ أم ضيَّع..<. وانطلاقا من ذلك فإن المربي والمعلم المؤمن العاقل المتبصر، ينهض بهذه المسؤولية على أكمل وجه، وأتم استعداد، وأقوى عزيمة، واضعا أمام عينيه غضب الله إذا هو فرط، وعذاب جهنم إذا هو قصّر، لأن المسؤولية يوم العرض الأكبر ثقيلة والمحاسبة عسيرة.
ذ. إدريس اليوبي