إن القيم تضمناستمرار الوجود الحضاري للأمم، كما أنها تؤطِّرُ الأفراد والجماعات نفسيا ومعنويا، وهكذا نجد الشعوب تقيم الحفلات والمهرجانات لتبرز خصوصياتها وعاداتها وقيمها المتجددة، حتى وإن كانت هذه العادات تبدو منفرة لدى الآخر، ومن الأمثلة الدالة على دور القيم في استمرار المجتمعات والحضارات نورد حالة الشعوب التي عانت من ويلات الحروب والاستعمار، مثل المجتمع الجنوب إفريقي الذي ظل يحافظ على كينونته وملامحه الافريقية، لعشرات السنين ويربط نضاله بمقوماته وجذوره، ولم يستطع نظام الفصل العنصري تذويب خصوصياته، رغم القبضة الحديدية التي أمسك بها البيض دواليب البلاد، قس على ذلك شعبنا في الأراضي المحتلة والذي عانى ولا يزال يعاني من وحشية الاحتلال الصهيوني، فقد لعبت منظومة القيم دورا هاما في الحفاظ على استمرار جذوة الجهاد متقدة جيلا بعد جيل، فنشر الوعي القومي وقيم التدين في أوساط الأجيال الفلسطينية التي عانت من ظلم الاحتلال وقساوة العيش في المخيمات، بعيدا عن شمس الوطن، ساهم إلى حد بعيد في كسر المخطط الصهيوني الذي حاول تهويد كل شيء من الأرض إلى الإنسان، كما ظل المسجد الأقصى برمزيته الدينية وقدسيته، ومآذنه التي ظلت تصدح بالأذان، تعطي قوة لأبناء شعبنا الفلسطيني حتى كانت الانتفاضة المباركة التي أذهلت العالم بقوتها وتنظيمها واستمرارها رغم ترسانة العدو المتطورة.
إن منظومة القيم إذا ما تم التعامل معها بتبصر تكون حافزاً على التفاعل الإيجابي مع فكر الغير عكس ما يروج له دعاة التبعية من كونها دعوة إلى الانغلاق وإيصاد الباب في وجه الوافد، وبالتالي فهي دعوة لعدم التسامح بين الشعوب، فكل شعب يمكنه أن يجد عند شعب آخر ما يعجبه وما ينفره، وهو ما أشار إليه الفيلسوف الألماني >دغوته< وهو يؤصل لما أسماه “الأدب العالمي وإشكالية الغيرية” حيث قال : (ستتعرف الشعوب بالتبادل على ظروفها الخاصة والتي تفتقد إلى توفيرها، إذ أن كل واحد منا سيجد عند الآخر أشياء تعجبه وأشياء عليه أن يتلافاها)(1). وهذا ما جعل >غوته> يفتن من غير أن يذوب في سحر الشرق، حتى وصفه البعض بأكبر شاعر غ ربي تغنى بروح الشرق، وقد أنشد ذات مرة :
إن الشمال والغرب والجنوب تطير شعاعا
والعروش تتصدع والممالك تضطرب
فانج بنفسك وأقبل على الشرق الطهور”(2)
إن نظرة >غوته< للعالمية أكثر عقلانية لكونها تؤمن بخصوصيات الشعوب ولا تسعى إلى تنميطها.
إن الأمم تتبوأ مكانتها بما تنتجه من قيم وما تفضيه من جمالية الفكر وصدق الإحساس على إنتاجها العلمي والفني، حيث أن كل إنتاج هجين يفنى ويموت صاحبه، بينما الأفكار الأصيلة تنمو وتترعرع كالأشجار البرية من غير أن تحتاج إلى خبرة مهندس زراعي.
—
1- الأدب العالمي وإشكالية الغيرية، فوزي بوبيه، ملة الثقافة العالمية، عدد 35 صفة 156.
2- من مقدمة ديوان مملكة الرماد للشاعر “حسن الأمراني” منشورات مجلة المشكاة المغربية ص 3، 1987 وجدة.
ذ.أحمد الأشهب