5- بين الزهد والقضية الفلسطينية يتخلق شعر الروح وهموم الأمة
القضية الفلسطينية في شعره
وعلى عادة الشيخ يوسف القرضاوي فإنه لا يترك ما له علاقة بواقع المسلمين إلا وله فيه رأي، لذلك نجده في نص له بعنوان (سراب السلام أوسلام السراب) يلقي الضوء شعريا على السلام بين الفلسطينيين و(إسرائيل)، ويدلي بدلوه فيه، لكن اللافت للانتباه في هذا النص، أن الشاعر كثيرا ما ركب الأسلوب الساخر والفكاهي للتعبير عن طبيعة هذا السلم الذي يروج له في كل المحافل الدولية في الشرق والغرب، حتى ليحس المتلقي نفسه بأن هذا السلام ما هوإلا دعابة أونكتة يتلهى بها الضعفاء، ويجدون فيها متسعا من الوقت للحديث الأجوف الذي لا يخدم إلا مصالح الأقوياء الذين هم جادون في الإجهاز على القدس الشريف وتهويده، يقول :
سَلامٌ مِنْ بَنِي صَهْيُـو نٍ! عَفْـوًا بَنِي جِنْسِي!
أَيُرْجَى السِّلْمُ مِنْ ذِئْبٍ! أَيُرْجَى الـدَّرُّ مِنْ تَيْسِ!!
لقَاءَاتُ عَـلَى دَخَـنٍ لِشُرْبِ الشَّايِ وَ الَبِيبْسِي!!
وأَخْـبَارٌ تَجُـوزُ الأَرْ ضَ بِالتِّيلِكْسِ وَ الْفَكْسِ!!
فَـوَفْدٌ بَعْـدَهُ وَفْـدٌ إلـى مدريدَ أو جِرْسِي!!
تَنَـازَلَ وَفْـدُنَا وَ بَدَا حَرِيـراً لَـيِّنَ الْـجَسِّ!!
وَ وَفْدُ الخْصْمِ كَالْجُلْمُو دِ فِـي الشِّدَّةِ والْيُبْسِ!!
حِوَارٌ غَيْرُ ذِي جَدْوَى
حِـوَارُ الصُّمِّ وَ الْخُرْسِ!!!(28)
ولكنْ ما لبث أن عاد الشاعر إلى الجد والحزم، حين بدأ الحديث عن البديل المطروح لهذا السلام المزعوم، وكأني به يزاوج بين الموضوع والأسلوب الذي يعبر به عنه، فحين تعلق الأمر بالسلام التافه الذي يضحك به الغرب والشرق على حد سواء على عقول المسلمين المخدوعين أوالذين خدعوا أنفسهم، حتى بات الحديث عن السلام، بعد ما يقارب العقدين من المفاوضات، فكاهة يتفكه بها الناس ويتندرون بها، فإن الشاعر صاغ الحديث عنه بطريقة فكاهية صرفة، تماما كالمفاوضات التي تحلوعلى موائد الشاي والبيبسي، في مدريد ونيوجرسي، لتحمل أخبارها بعد ذلك وكالات الأنباء بالتيلكس والفاكس، ليعلم العالم بالنتيجة التي أسفرت عنها جلسات المفاوضات، فقد قبل الفلسطينيون بكذا وكذا واشترط(الإسرائيليون) كذا وكذا، وقضي الأمر بالاتفاق على عقد جولات أخرى من ال! مفاوضات، لبحث ما علق في الجولات الماضية، وهكذا تستمر المسرحية بفصول غير نهائية من الضحك الذي لا ينتهي بدوره على الواقع الفلسطيني الذي يتلذذ العالم المتحضر بآلامه التي لا تعرف النهاية أيضا.
ولما بدأ الشاعر الحديث عن البديل الجِدِّيِّ عن هذه المفاوضات المضحكة، غَيَّر أسلوبه جملة وتفصيلا، فلم يعد إلى الأسلوب الفكاهي الذيبدأ به نصه، وإنما عمد إلى لغة الحزم والجد، لجِدِّيَّة المقصد الذي يروم إيصاله إلى المتلقي، فقال :
فَيَا أَرْضَ النُّبُـوَّاتِ اصْبِرِي لِلْكَـيْدِ وَ الدَّسِّ
وَ يَا أَهْلَ الجهاد امْضُـوا حِدَادَ الْعَـزْمِ وَ الْبَأْسِ
(حمَاسُ) هِيَ الرَّجَاءُ غَداً أَرَاهَـا بَارِيَ الْقَوْسِ
أَعِـدُّوا الجِْيـلَ لِلْجُلَّى لِيَـوْمٍ لَيْـسَ بِالْمَنْسِي
بِــهِ يَنْتَصِـرُ الحْـقُّ عَلَى الْبُهْتَانِ وَ الرِّجْسِ(29)
فالشاعر واضح فيما يقول، فالطريق إلى الكرامة الفلسطينية، ينبغي أن تنبني على الجد وليس على الهزل، ولا يتحقق ذلك إلا بالمقاومة بكل ما تملكه اليد الفلسطينية من قوة، خاصة وأن الحرب في بعدها الحقيقي، حرب دينية وليست قومية كما يزعم كثير من المخدوعين، قال:
إذا اعْتَزَّتْ يَهُودُ بِدِيـ نِـهَا مَعْـلِيَّةَ الْجَـرْسِ
وقالـوا عندنا التَّوْرَا ةُ ذَاتُ الصُّحُفِ الْخَمْسِ
أَوِ اسْتَنَدُوا إلى التَّلْمُو دِ فِـي تَـزْكِيَّةِ الْجِنْسِ
فَقُولُـوا عندنا الْقُرْآ نُ نُـورُ العقل والْحِسِّ
كِتَـابُ الله محفوظٌ مِنَ التحريف والطَّمْسِ
هُوَ المعجزةُ الكُبْرَى يَقِـيناً لَـيْسَ بالْحَـدْسِ
هُـوَ الإسلام مَوْئِلُنَا بَـدَا الْبُرْهَانُ كالشَّمْسِ(30)
فلكلٍّ شرعة ومنهاج، ولكل وجهة هوموليها، فإذا كان الخصم يعتز بدينه مع بطلانه، ويرى أن ما يخوضه هودفاع عنه وصيانة له دون المسلمين، فلماذا لا يعتز الفلسطينيون هم أيضا بدينهم وهوالحق من ربهم، ويذودون عن دياره وحياضه وهم في مكان من أقدس أماكنه؟! فكأن الشاعر لا يرى الصراع الفلسطيني(الإسرائيلي)، إلا على أنه وجه من أوجه الصراعات الدينية في العصر الحديث والمعاصر، لذلك ينبغي على الفلسطينيين والمسلمينعموما أن ينظروا إليه من هذه الزاوية، وإلا فإنهم سيخسرون المعركة ولا شك، كما أشار إلى ذلك في أبيات مختلفة من هذا النص ؛ بل إن الشيخ القرضاوي ألف كتبا عديدة في هذا الباب، ولا تخلومنه خطبه وأحاديثه في كل المنابر التي يتحدث فيها عن القضية الفلسطينية(31).
لشـــاعـــر الــزاهــد
ولا أختم هذه الدراسة المتواضعة دون الإشارة إلى ما يتميز به شعر الشاعر من روعة حين يستغرق في التأمل والتفكر فيما حوله، أوحين تنساب مشاعره سلسة متدفقة في ابتهالاته ومناجاته، وبخاصة في جوف الليل، وهوفي زنزانته في السجن، كما نجد في قصيدته ” العينية ” الرائعة، وعنوانها ” ابتهال “، حيث يبدوالبهاء الشعري المتميز مستحوذا على المتلقي، حتى ليبدوالشيخ القرضاوي شاعرا من الزهاد القدامى الذين كان الشعر يسيل على ألسنتهم سيلا، فلنستمع إليه وهويقول :
يَا مَنْ له تَعْنُوالوجوه وتَخْشَعُ
ولأَمْـرِهِ كَلُّ الخلائق تَخْضَعُ
أَعْنُـوإِليـك بِجَبْهَةٍ لَم أُحْنِهَا
إلاَّ لِوَجْهِكَ سَاجِـدًا أتَضَرَّعُ
وإليك أَبْسُطُ كَفَّ ذُلٍّ لَمْ تَكُنْ
يَوْماً لِغَـْيرِ سُـؤَالِكَ تُـرْفَعُ
وعلى هذا النحوالأثيري الخلاب تنساب أبيات القصيدة حتى تصل إلى قمتها، حيث نجد الشاعر يستوحي ولا شك ما تحفظه ذاكرته من أشعار العباد والصالحين القدامى وفقهائهم، حيث يقول :
يَا رَبِّ عَبْدُكَ عِنْدَ بَابِـَك وَاقِفٌ
يَدْعُوكَ دَعْوَةَ مَنْ يَخَافُ ويَطْمَعُ
فإذا خَشِيتُ فَقَدْ عَصَيْتُكَ
جَاهِلاًوإِذَا رَجَـوْتُ فَإِنَّ عَفْوَكَ أَوْسَعُ
يَا رَبِّ إِنْ أَكُ فِي الْحُقُوقِ
مُفَرِّطاًفَلَأَنْتَ أَبْصَـرُ بِالْقُلُوبِ وأَسْمَعُ
بَيْنَ الْجَوَانِحِ خَافِقٌ يَهْوَى
التُّقَىويَضِيقُ كَرْهاً بِالذُّنُوبِ ويَجْزَعُ(32)
ولست أدري إن كانت هذه الأبيات والقصيدة كلها في حاجة إلى إبراز روعتها وجمالها الفني والدلالي والإيقاعي، وهي شبيهة بمعانيها بقصيدة أخرى من الديوان نفسه، وعنوانها “مناجاة “، وهي ” ضادية ” القافية، ومع ذلك لم تخْلُ من إيقاع جميل، على الرغم من ثقل حرف “الضاد”، إذا كان روياًّ، ومطلعها :
يَا رَبِّ هَا جِسْمِي يَشِيخُ وَ يَمْرَضُ
والوهن وافَانِي سرِيعاً يُوفِض(33)
وقد حام فيها الشاعر حول نفس معاني القصيدة العينية قبلها، إلى جانب اختياره بحر “الكامل “، للنظم عليه، وهوما زاد من جمال إيقاع القصيدتين معا، وإن كانت القصيدة “العينية” ـ عندي ـ أجمل وأبلغ تأثيرا في نفس المتلقي من ” الضادية “، لحلاوة إيقاع حرف “العين ” إذا كان رويا، وبخاصة إذا كان موضوع النص في الزهد أوالابتهال كالذي نراه هنا.
وجودة النصوص التي قالها الشاعر في هذا الغرض لا تخفى على المتلقي، حتى وإن غيَّر في الوزن أونوَّع بين حروف الرويِّ داخل القصيدة الواحدة، خاصة إذا كانت القصيدة ممايوحي بها الواقع المرير الذي كان يعيشه في سجنه، حيث المعاناة والتعذيب، ولا مفر إلا إلى الله عز وجل داعيا ومبتهلا ؛ من ذلك مثلا قوله في قصيدة عنوانها ” يا نائما”، علق على البيتين الأول والثاني منها بقوله :” هذان البيتان من الشعر لا يزالان يرنان في أذني منذ سنة 1949 حين كنا معتقلين في جبل الطور، وكان ينشدهما أخ كريم نَدِيَّ الصوت كل يوم في السحر ويوقظنا بهما لقيام الليل، فأكملتهما بهذه الأبيات.” :
يا نَـائِماً مُسْتَغْرِقاً في الْمَـنَامْ
قُمْ فاذْكُرِ الْحَيَّ الَّـذِي لا يَنَام ْ
مَوْلاكَ يَدْعُوكَ إلى ذِكْـرِهِ
وأَنْتَ مَشْغُولٌ بِطِيـبِ الْمَنَامْ
شُغِلْتَ بِالْعَشِيِّ بَعْدَ الْغَـدَاهْ
غَـرْقَانَ فِي لُجَّـةِ بَحْرِ الْحَيَاهْ
والْقَلْبُ عَنْ مَوْلاهُ سَاهٍ وَ لَاهْ
يَا وَيْلَ مَنْ يُلْهِيهِ عَـْنهُ الْحُطَامْ
هـلاَّ أَجَبْـتَ الله لَمَّا دَعَـا
فَقُمْتَ تَسْعَى في الدَّجَى خَاشِعَا
تَـدْنُوإِلَـيْهِ سَاجِـداً رَاكِعاً
طُـوبَى لِِمَنْ لله صَلَّى وَ صَامْ((34)
فالشاعر كما يظهر ـ من خلال هذه الأبيات وسائر أبيات القصيدة ـ مستغرق في مناجاته، يلوم النفس على تقاعسها وتباطؤها في المسارعة إلى الله عز وجل للذكر والاستغفار والدعاء، مع شيء غير قليل من التحسر والتألم لهذا التقاعس ؛كما يظهر حتى من خلال إكثاره من حروف المد التي تعبر عن مثل هذه الحالات من التفجع والتوجع وتأنيب الضمير الذي لا يستجيب لداعي الله إذا دعاه، وبخاصة إذا كان في مثل حالة الشاعر الذي كان يعاني في سجنه ما يعانى، ولا يملك من المدد والقوة إلا التضرع والدعاء إلى الله سبحانه، وكان الوقت سَحَراً حيث يحلوفيه القيام والذكر أيما حلاوة، فتنشط له النفس وتترفع عن شهوات الدنيا وهمومها ولَوْ إلى حين.
وهذا ما يريد الشاعر عكسه أيضا من خلال تنويع القافية والروي ـ وهوما ليس من عادته في أشعاره ـ حيث رأى بأن في مثل هذا الموقف يتحرر المرء من كل شيء تقريبا، ليترك مشاعره تنساب على عواهنها، مسترسلة في انسيابها وسكونها الذي تخشع فيه النفس وتستكين إليه العواطف، وتأبى أن يعكر صفوها شيء وإن كان حرفَ روي!!
وفي قصيدة أخرى عنوانها ” يا نفس “، يعود الشاعر إلى نفسه يخاطبها ويلومها على غفلتها عن العودة إلى الله سبحانه، والكف عن الاستغراق في الذنوب والمعاصي، خاصة وأن شمس حياته قد آذنت بالغروب، يقول :
وَيْحِـي أَضَعْتُ زَمَانِي حَـتَّى اعْتَرَانِي اللَّغُوبُ
عَجِبْتُ مِنْ شَأْنِ غَيْرِي وَ كُـلُّ شَأْنِي عَجِيبُُ
وَ عِبْتُ غَيْرِي غُرُوراً مِـنِّي، وَ كُلِّي عُيُوبُ
هَـلْ يَحْمِلُ الْمَاءَ شَنٌّ قَـدْ خَرّقَتْهُ الثُّقُـوبُ
أَوْ كَيْفَ يَنْهَضُ ظَهْرٌ قَـدْ أَثْقَلَتْهُ الذَّنُـوبُ
يَانَـفْسُ دُنْيَاكِ حُلْمٌ مُـبَشِّـرٌ أَوْ كَئِيـبُ
عِنْـدَ الإِفَـاقَةِ مِنْهُ يَـدْهَاكِ أَمْـرٌ عَصِيبُ
فَفِيمَ يَصْطَرِعُ النَّاس مُخْـطِئٌ أَوْ مُصِيـبُ
ويسترسل على هذا النحوكشف المستور من ذاته، حتى بلغ به التفجع مبلغه، فلم يجد بابا يلوذ به غير باب الله سبحانه، فقال في نبرة ملؤها الرجاء في الله عز وجل :
أَوَّاهُ مِنْ ظُلْـمِ نَفْــسي أنـا الظَّـلُومُ الْمُرِيبُ
الطِّـينُ يَجْـلُبُ سُفْــلاً وَ فِـيَّ مِـنْهُ نَصِيبُ
وخـير مـا فِــيَّ أنِّي دَوْمـاً بِنَفْسي أَهِيبُ
وأنَّ شَـوْقِي إلـى اللَّــهِ حاضـرٌ لا يَغِيبُ
إنْ ضَاقَ دَرْبُ الْوَرَى بِي فَـلِي لِـرَبِّي دُرُوبُ
بِـذِكْرِ رَبِّـيَ تُشْــفَى وتَطْـمَئِنُّ الَقُلُـوبُ
وبِالفِــرارِ إِلَيْـــهِ تُـزَاحُ عَنَّا الْكُرُوبُ
قَصَـدْتُ بَـابَ كَرِيـمٍ مَنْ أَمَّـهُ لا يَخِيـبُ
دَعَوْتُ مَنْ قَالَ عَبْـدِي سَلْـنِي فَإِنِّـي قَرِيبُ
لا تَـدْعُ خُرْسـًا إِذا مَا نَـادَيْتَهُمْ لَـمْ يُجِيبُوا
عَبْديِ اخْشَنِي وَ ارْجُ عَفْوِي فَبَابُ عَفْوِي رَحِيبُ
واطْلُـبْ شِفَاءَكَ عِنْدِي فَـمَا سِوَايَ طَبِيـبُ
واقْصِـدْ لِحُـبِّي فَإِنِّـي أَنَـا الْمُحِبُّ الْحَبِيـبُ
يا رَبَّ فاسْمَـعْ دُعَائِـي أَنْتَ السّمِيعُ الَمُجِيبُ(35)
وقد آثرت الاستشهاد بهذه الأبيات الكثيرة من هذا النص، لأنني أعتقد أنها تمس فؤاد كل من يستحب الوقوف بباب الله عز وجل منيبا إليه مُسْتَعْتِبًا، يرجورحمته سبحانه ويخاف عذابه، كما يفعل الشاعر هنا وهويلح في الدعاء وتأنيب الضمير، وزجر النفس لعلها ترعوي عن غَيِّها، وتكف عن الخوض فيشهوات الدنيا الفانية.
ثم إن سهولة الألفاظ مع حسن إيقاع جرسها الذي يرن في الأذن رقيقا، وكأنه يوقظ المتلقي من غفلته، زاد من حلاوة النص عندي، تماما كالذي نحس به عند تلقي نصوص الزهاد القدامى الذين يأخذون بيد المتلقي وهم يطوفون به على عيوبه الواحد تلوالآخر، ويبصرونه بمواطن الزلل عنده، قبل أن يلفتوا انتباهه إلى ما ينتظره يوم يقف بين يدي الله عز وجل، وليس له سوى ما قدم بين يديه من عمل شاهدا له أوعليه، آنئذ يتذكر وأنى له الذكرى!!
وعلى ذكر الإيقاع الذي اختاره الشاعر في قصيدته هذه، فإن الشاعر يوسف القرضاوي، إذا كنا نراه هنا في هذا النص قد اختار بحر المجتث(مستفع لن فاعلاتن) ـ وهذا هووزنه المستعمل ـ وإن كان سداسي التفاعيل بزيادة تفعيلة ثالثة في كل شطر وهي(فاعلاتن)، فإنه في الأغلب الأعم من قصائد ديوانيه كليهما، هوأمْيَلُ ما يكون إلى استعمال الأوزان الطويلة وبخاصة بحور: البسيط والكامل ومجزوءه وبعدهما الطويل والسريع، والظاهر أنه يستعمل هذه البحور حتى في الأناشيد التي خصص لها قسما في ديوانه ” نفحات ولفحات “.
ولعل مرد ذلك إلى أن الشاعر غالبا ما يخوض في مواضيع جدية تحتاج إلى النفَس الطويل الذي يتناغم وأوزان البحور الطويلة غالبا، ثم إن طغيان الحديث عن ذاته المكلومة سواء في حديثه عن تجربته في السجون أوفي حديثه عن واقع الأمة الإسلامية الذي يدعوإلى التحسر والرثاء، هوالذي حدا بالشاعر إلى تفضيل هذه البحور واستعمال أوزانها أكثر من استعماله أوزان غيرها، هذا بالإضافة إلى طول نفَس الشاعر الذي يطول كثيرا في قصائده، فيجد في هذه البحور ارتياحا واستجابة لدواعي القول الشعري في نفسه، فتتكامل بذلك مقومات الميل إلى كل ما هوطويل : طول في النفس الشعري وطول في القصائد مع طول في الأوزان.
واللافت للانتباه أيضا وأنا أتحدث في هذه النظرة العجلى عن الإيقاع، أن الشاعر يستعمل حرف ” النون ” رويا بكثرة، حتى إنه قال في قصيدته الطويلة جدا ” ملحمة الابتلاء”:
نونيةً والنُّونُ تَحْلُوفِي فَمِي
أَبَداً فَكِدْتُ يُقَالُ لِي ” ذُوالنُّونِ “(36)
ويليه في الاستعمال حروف ” الدال، واللام، والباء “، مع استعمال حروف أخرى، مثل ” الجيم، والحاء،والفاء، والعين ” وغيرها من الحروف بنسبة أقل.
ثم إنه ألح على ” القوافي النُّفُرِ “، وبخاصة في ديوانه ” المسلمون قادمون “، حيث استعمل حروف :” الطاء والزاي، والصاد، والذال ” كما استعمل حرف ” الضاد ” في ديوان ” نفحات ولفحات “، وفي كل هذه القصائد، ورغم ثقل هذه الحروف حين تستعمل روياًّ، فإن الشاعر وفق فيها توفيقا ظاهرا، وبخاصة ” طائيته ” التي خاطب فيها الفتى المسلم، على طولها، خاصة وأنه اختار لها بحر البسيط بإيقاعه الجيد في مثل هذا المقام.
بهذه الدراسة المتواضعة تبدولنا معالم وجه آخر منالأوجه الإبداعية للشيخ القرضاوي، فهووإن كان متفرغا للدعوة والتأليف في الفقه وما إليه، فإنه أيضا يبدوشاعرا متمكنا من ناصية الشعر، يخوض في مضماره خوض الشعراء الفحول، وإن كان يبدوأحيانا في بعض نصوصه يطغى عليه الموضوع الإسلامي أكثر مما يطغى عليه المضمون الإسلامي ـ والفرق بينهما واضح، سبق وأن أشرت إليه في إحدى الحلقات التي نشرتها هذه الصحيفة الغراء ـ، فإنه مع ذلك يستحق أن يُنْسَبَ بحق إلى الشعراء الإسلاميين المعاصرين، وله أن يكون له فيه باعه الطويل إلى جانب من حمل عناء الأدب الإسلامي المعاصر الذي استطاع لحد الآن أن يحفر نهره المتدفق بنجاح.
—
28 ـ استغرقت القصيدة ص، 93 ـ 94، وفيها سبعة وتسعون بيتا .
29 ـ نفسه، ص، 95.
30 ـ نفسه، ص، 96.
31 ـ راجع على سبيل المثال لا الحصر، كتابيه : ” القدس قضية كل مسلم ” الصادر عن مؤسسة الرسالة، ومطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، الطبعة الأولى 1422هـ 2001م، وكتاب ” فتاوى من أجل فلسطين “، الصادر عن مكتبة وهبة، الطبعة الأولى 1424هـ 2003م.
32 ـ نفحات ولفحات، ص، 87.
33 ـ نفسه، ص، 90.
34 ـ المسلمون قادمون، ص، 55.
35 ـ نفسه، ص، 87 ـ 89.
36 ـ نفحات ولفحات، ص 54.
د. بنعيسى بويوزان