2- النبوة بتدمير بيت إسرائيل لرذائلهم
إن أمل بني إسرائيل في بقاء النبوة فيهم، طمع مشروع، إذا وَجد ما يشفع له من أخلاقيات غير تلك التي سادت في بني إسرائيل، والتي نذكر بعضها من خلال التوراة نفسها، وليس من خلال القرآن الكريم! فمسوغات انتزاع النبوة من بيت بني إسرائيل، مذكورة مفصلة في الكتاب المقدس نفسه. ولم يزد القرآن الكريم على ذلك شيئا، غير التكرار والتأكيد بإجمال، دون إيراد ذلك التفصيل الخطير الذي ورد في الكتاب المقدس، والذي يفضح فساد أخلاقهم كما يمنح مشروعية الرب معاقبتهم بل وتدميرهم وإبادتهم، حسب التعبير التوراتي. وبه سيمكننا القول: إن القرآن الكريم كان أحن وأشفق وأرحم باليهود من التوراة التي يتداولونها بينهم اليوم. والتي تحاكمهم فتفضحهم ثم تدينهم أكثر من القرآن نفسه. وهي التي تمدنا هنا، وتمدهم قبلنا، بما يسوغ تجريدهم من حق تنفس هواء النبوات النقي. بل وتعرب عن أدلة وأسباب الإدانة والإبادة. بيان ذلك من خلال ما يلي:
>أ- نص البشارة:
جاء في سفر التثنية(6): (19-فرآى الربُّ وَرَذَّلَ من الغيظ بنيه وبناته. 20-وقال أَحْجُبُ وجهي عنهم، وأنظر ماذا تكون آخرتهم. إنهم جيل متقلب أولاد لا أمانة فيهم. 21-هم أغاروني بما ليس إلها. أغاظوني بأباطيلهم، فأنا أغيرهم بما ليس شعبا، بأمةٍ غبيةٍ أغيظهم. 22-إنه قد اشْتَعَلَتْ نارُ بُغْضِي فتتَّقد إلى الهاوية السفلى وتأكل الأرض وغلَّتها وتحرق أسس الجبال. 23-أجمع عليهم شرورا وأُنفِدُ سهامي فيهم. 24-إذ هم خاوون من جوع ومنهوكون من حمى وداءٍ سامٍ. أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمة زواحف الأرض. 25-من خارج السيف يُثْكِل ومن داخل الخدور الرعبة. الفتى مع الفتاة والرضيع مع الأَشْيَب. 26-قلت أبدّدهم إلى الزوايا وأبطل من الناس ذكرهم. 27-لو لم أخفمن إغاظة العدو من أن ينكر أضدادهم من أن يقولوا يدنا ارتفعت وليس الرب فعل كل هذه).
>ب- شرح البشارة:
*- (فرآى الربُّ وَرَذَّلَ من الغيظ بنيه وبناته): حاصل الجملة أن أفعال البنين والبنات من بني إسرائيل، لم تكن لتخفى عليه سبحانه، فقد رآها عز وجل. ولم تكن أيضا قليلة، إذ لا شك أنها كانت لا تعد إلى الدرجة التي سببت غيظ الرب سبحانه منهم. ولا يغتاظ من بسيط أو سهل أبدا. والدليل أن ذلك تسبب أيضا في حكمه بقوله:
*- (أَحْجُبُ وجهي عنهم)، أي: أقاطعهم، وأسحب الأمانة منهم. ولا يفعل ذلك معهم، إلا لأنهم:
*- (جيل متقلب، أولاد لا أمانة فيهم). وهذه من صفات بني إسرائيل، التي تؤكدها التوراة كما يسجل، لايبرئهم منها سوى سفلة الخلق من المرتزقة المأجورين أو المغرر بهم أيديولوجيا وعقديا وسياسيا… ذلك لأنهم يتجاوزون النص المقدس عند اليهود أنفسهم الذي يروي على لسان الرب سبحانه مزيد من تلك الرذائل بقوله:
*- (هم أغاروني بما ليس إلها. أغاظوني بأباطيلهم)، أي: عبدوا غير الله، وكانت عقائدهم وأخلاقهم ومعاملاتهم باطلة. ولو أن هذه الزلات كانت أمرا هينا بسيطا في ميزان سيئات وخطايا بني إسرائيل، لما بلغ الحال أن نزع المولى سبحانه الأمانة والرسالة والنبوة منهم، وهم الذين توارثوها كما توارثوا الحضارة والعلم حتى صاروا أمة وشعبا بمعنى الكلمة. ولكنهم تسببوا في أن يزيل المولى كل هذه الامتيازات منهم, ويعطيها قوما آخرين ليسوا بها بكافرين:
*- (فأنا أغيرهم بما ليس شعبا، بأمةٍ غبيةٍ أغيظهم)، أي: سأجعل الأمانة والرسالة والنبوة، في أمة هذه خصائصها. وهو ما سنأتي على بيانه لاحقا، في نقطة مستقلة.
وإذا كان الجزاء من صنف العمل، وكان المذنب يجازى بخلاف قصده، فإننا نفهم أن الله أخرج النبوة منهم وهم الشعب والأمة، وأعطاها إلى ما ليس شعبا ولا أمة، ببساطة لأنهم أخرجوا العبودية من الله وهي حق لله وحده سبحانه، وخصوها بأطراف ليست لها بأهل. فبما أنهم التمسوا العبودية والتقرب لغير الله، فأنا أجعل الرسالة في أمة لا تتصورون أنها مؤهلة للأمانة إمعانا في غيظكم: (أغاظوني بأباطيلهم… بأمةٍ غبيةٍ أغيظهم). فهذا الغيظ بذلك الغيظ! وحجم الذنب بحجم العقاب: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}(7).
هذا، وإن غضب الله تعالى على بني إسرائيل بلغ الغاية، حتى قال المولى سبحانه:
*- (22-إنه قد اشْتَعَلَتْ نارُ بُغْضِي فتتَّقد إلى الهاوية السفلى وتأكل الأرض وغلَّتها وتحرق أسس الجبال. 23-أجمع عليهم شرورا وأُنفِدُ سهامي فيهم). بهذا، يتبين أن نقمة الله تعالى من بني إسرائيل، قدر لا يرفع. وأنها ستكون على النحو البشع الذي أثارته الآية، لأفعالهم ورذائلهم وخياناتهم للأمانات، التي ذكرتها آيات التوراة نفسها. ولنا أن نتأمل المفردات التالية للإحساس بخطر ما أقدم عليه اليهودوليس الصهاينة، وخطر ما سيقدم عليهم: نارُ تتَّقد إلى الهاوية السفلى، تأكل الأرض وغلَّتها وتحرق أسس الجبال، أجمع عليهم شرورا، أُنفِدُ سهامي فيهم!!! وإمعانا في الحقد والانتقام منهم، فلم تكتف التوراة بهذا التمزيق الذي سيلحق بني إسرائيل، بل زادت:
*- (24-هم خاوون من جوع ومنهوكون من حمى وداءٍ سامٍ. أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمة زواحف الأرض. 25-من خارج السيف يُثْكِل ومن داخل الخدور الرعبة. الفتى مع الفتاة والرضيع مع الأَشْيَب. 26-قلت أبدّدهم إلى الزوايا وأبطل من الناس ذكرهم). فقد وصفتهم بالخواء والانشغال بأمراضهم، وأن الله سيعرضهم لعقاب الوحوش وزواحف الأرض، دون استثناء: الفتى مع الفتاة والرضيع مع الأَشْيَب. وأنه سيبددهم في أركان الأرض وزواياها، حتى لا يبقى لهم ذكر في الناس.
- هنا أسئلة ملحة جدا، علينا طرحها على من يؤمن بصدق التوراة من اليهود والنصارى:
- أليست هذهالآيات موجودة في التوراة اليوم؟ وهذه الأفعال والصفات المشينة، أليست صادرة من بنين وبنات الله، أي بني إسرائيل؟ أخيرا، أليست هذه الأخلاقيات تستحق ما حكمت به التوراة من عتاب فعقاب، فإبادة وشتات؟
إن النص أكد عثرات بني إسرائيل غير السهلة و غير القابلة للحصر ولا للصفح والعفو. فقد أجهزوا على التعاليم وعلى من جاء بها، تماما كما حاولوا مع محمد عليه السلام، الذي تمنوا أن يكون مخلِّصَهم -وهو بالفعل كذلك- تماما كما توهموا في شخص المسيح عليه السلام، لكنه لما جاءهم انقلبوا عليه. هذا مع ضرورة التنبيه إلى فارق جوهري، وهو أنه إذا كانوا قد أسلموا المسيح للإهانة وعرضوه للاغتيال -حسب تصور اليهود والنصارى معا-، فقد ألبوا على محمد الدنيا لمقاتلته، ولم يتأت لهم مرادهم الذي فعلوه مع العديد من الأنبياء الذين قتلوهم. فقد ورد في سفر الملوك الأول ما يلي: (9-وكان كلام الرب إليه يقول له: مالك هاهنا يا إيليا؟ 10-فقال: قد غرت غيرة للرب إله الجنود لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها 13- وإذا بصوت إليه يقول: مالك هاهنا يا إيليا؟ 14-فقال: غرت غيرة للرب إله الجنود لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها)(8).
تكررت العبارة في النص بنفس الألفاظ والمعاني التي تدين اليهود -وليس الصهابنة- على قتل أنبياء الله تعالى.
لقد كان بالإمكان الاعتقاد بأن اتهام اليهود بأنهم قتلة الأنبياء، مجرد افتراء من القرآن الكريم على “أبناء عمومتنا”، -كما يتصور كثير ممن يحب أن يضاف نسبه إلى سفاحي دماء الأطهار من الأنبياء-، لولا اعتراف اليهود أنفسهم بذلك في التوراة!
إن الأمر لا يتعلق باتهام، وإنما هو حقيقة ثابتة في اليهود، اعترفت بذلك كتبهم قبل مجيء محمد بألوف السنوات، كما سبق بيانه مع النبي إيلياء الذي كلمه الرب، ومع المسيح حسب التصورين اليهودي والإنجيلي. إنما المشكل هو أنه إذا اعترف اليهود أنفسهم بأنهم قتلة الأنبياء، فكيف إذا تعلق الأمر بمن دون الأنبياء كالفلسطينيين أو حتى غيرهم!؟
لقد أكدت التوراة المعطيات والحقائق التالية في حق بني إسرائيل:
تركهم الشريعة والتعاليم، وقساوة قلوبهم، وعبادتهم غير الله تعالى، وقتلهم الأنبياء، ومحاصرتهم الحق. ومن ثمة صدق فيهم الحكم بالشتات والتدمير.
للإشارة فقط، فالأمر هنا لا يتعلق بنص قرآني حتى يطالِبَ الغرب بتغييره، ومحاكمته بمعاداة السامية، إنما هو تقرير التوراة في حق بني إسرائيل، أي تقرير اليهود في اليهود!! وهي الحقيقة التي ينبغي أن تكتب على جبين كل المغامرين من اليهود وغير اليهود. وهي الحقيقة التي سماها حيي بن أخطب زعيم اليهودي في بني قريظة: (كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل)(9). فهل تحاكَمُ التوراة الموجودة اليوم بالكراهيةوالحقد وبمعاداة السامية.
ومن الأهمية بمكان هنا، الإشارة إلى أنه من المستحيل أن يعرف محمد الأمي المتخرج من أمة أمية -إذ لم يتخرج من المؤسسات الأكثر تقدما في ذلك العصر في الروم والفرس-، هذه المعطيات الدقيقة جدا عن اليهود وطبيعة علاقتهم بالأنبياء عليهم السلام. لذلك وجب القطع بأنه عليه السلام نبي لا غير. وأن ما أورده القرآن الكريم فليس بجديد، ولا افتراء، إنما هو إقرار وتزكية واعتراف بهذه الحقيقة اليهودية وليس الصهيونية.
———-
6- التثنية32/19-27.
7- النساء:40.
8- الملوك الأول19/10-14.
9- قال بنو قريظة لكعب بن أسد وهو يذهب بهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا، قال: في كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع وأنه من ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل. فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأتى بحيي بن أخطب عدو الله مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذله، ثم اقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا باس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. “عيون الأثر”، لابن سيد الناس:2/ 73-74.
ذ.لخضر بن يحي زحوط