حين قرأت -في العدد الماضي- دعوة أستاذنا الدكتور عبد السلام الهراس التحفيزية على مواصلة الكتابة، تبادرت إلى ذهني خواطر متعددة حول الكتابة نفسها وحول وظيفتها و الهدف منها وغير ذلك مما تناثر في النفس والعقل.
وإذا كنت قد وقفت في عدد من أعداد جريدتنا المحجة في هذا الركن من توسمات على مفهوميْ الكتابة ووظيفتها، فإني أعاود الكرة مرة أخرى، خاصة وأن الكتابة الإبداعية في واقعنا بصفة خاصة يكاد يجرفها الزبد من كثرة الابتذال الفكري واللغوي الذي انغمست فيه بدعوى الحرية الفكرية، وغير ذلك من الدعاوي التي ظاهرها يكشف عن حق وباطنها يضمر الباطل.
أعتقد أن كل كاتب وأديب يبدأ بدافع ذاتي من أجل التعبير عن هذه الذات، في محاولة لإثبات الوجود في العالم المحيط به، وغالبا ما تغيب عن كتابته مجموعة مهمة من الدعائم المؤثثة لقناعاته ومنظوماته الفكرية، لكنه يكون واعياأن كتابته تحمل رسالة ما، سواء كانت هذه الرسالة ذاتية، أي لنفسه، أم لغيره تبين مواقفه من قضايا وعوالم مختلفة، يحاول من خلالها أن يقدم فهما معينا للحياة، ويعيد إنتاج بعض عناصرها المتشابكة مع أحلامه وآماله وهواجسه. ومع الممارسة التعبيرية المستمرة، قراءة وكتابة، يستطيع تأثيث عالم من المفاهيم والرؤى والحوافز الدافعة إلى تطوير الفعل الكتابي واستمرار يته، وإلى تجديد أشكاله. وبقدر قدرته على تحميل معاني وقيم الحب والصدق والجمال والخير والحق، وإضاءة عمق الإنسان ومشاعره، وسبر أغوار الأشياء وأبعادها، وإثراء وعي المتلقي وفهمه، وإثارة حدسه الجمالي يكون قد استطاع تقديم تجربة صادقة نابضة بالحياة، تثري التجارب الإنسانية، وتصحح مسارها لتنخرط في علاقات جديدة مع العالم مليئة بالألفة والطمأنينة، مهما كانت درجات قلقها وتوترها واغترابها.
وإذا كانت الحياة تقتضي مختلف أشكال الحركةوالتغيير والتجدد والتناسل اللامحدود للعلم والمعرفة واكتساب الخبرات للانطلاق الحر في آفاقها، فإن الكتابة بوصفها حياة قائمة بذاتها تحتاج من مبدعها امتلاك درجات عالية من صفاء الرؤية ورهافة الإحساس وعمق التأمل وغنى المخزون المعرفي واللغوي والتعبيري وتنوعه، والالتصاق بالواقع ومشكلاته وقضاياه الخاصة والعامة، وامتلاك أقصى درجات التحرر. وكالحياة أيضا فإن الكتابة المتحررة لا تعني الانغماس في عبودية الجسد والتوقيع على رغباته وشهواته، كما هو الشأن في معظم الكتابات الأدبية العربية، رغم الاحتفاء بها في مختلف المحافل، وإنما تعني استشعار مسؤولية الرسالة التي تحملها كل كتابة، والانضباط في أخلاقياتها وقوانينها الإنسانية. وهذا الانضباط يجب ألا يُفسر بممارسة رقابة خارجية تحد من انطلاق الأفكار وبالحجر على معنى الإبداع أو قتله، وإنما بممارسة رقابة داخلية، يستطيع الكاتب من خلالها ارتياد آفاق لا متناهية، يغترف منها للتعبير عن ذاته، وعن قضاياه ويقف مواقف إنسانية تحاول الحد من المعاناة والاغتراب والضغوط، ولا تزيد في الإحباط والغرق في عبوديات شتى.
وبعد، فهل بلّغت مفهومي للكتابة وحرصي على ممارستها وتصديرها للقارئ؟؟
اللهم فاشهد
د.ام سلمى