4- في الإصلاح الاجتماعي
إلى جانب القصائد المذكورة في العدد السابق التي عبر بها الشاعر عن صراعه مع خصومه، نجد في بعض قصائده وبخاصة في ديوانه ” المسلمون قادمون “، قصائد تحدث فيها عن مواضيع أخرى لها ارتباط وثيق بالصراع نفسه، لكن من زاوية أخرى، من ذلك مثلا، قصيدته المطولة التي قالها وهويخاطب الفتاة المسلمة، وعنوانها ” إليك يا ابنة الإسلام “، وهي قصيدة ذات مستوى فني رفيع للغاية، جارى فيها الشاعر كبار الشعراء الذين ما تزال قصائدهم ” البائية ” تطن في آذان الزمان، فمما قاله فيها وهويخاطب الفتاة المسلمة ويعظها أن تتردى في ما تدعوإليه الشعارات الزائفة والدعاوى المغرضة تحت أسماء مختلفة أعلاها الحرية والتحرر :
يا مَن هُدِيتِ إلى الإسـلام راضيةً
وما ارْتَضَيْتِ سوى منهاجِ خَيْرِ نَبِي
يا درةً حُفِظَـتْ بالأمـس غاليـةً
واليـومَ يَبْغُـونَهَا لِلَّهْوِ واللَّعِبِ
يا حـرةً قَدْ أرادوا جعـلها أَمَـةً
غَرْبِيَّـةَ العقـلِ لَكِـنَّ اسْمَهًا عَرَبِي
عهدُ السجودِ لِفِكْرِ الغَرْبِ قد ذهبتْ
أيـَّامُهُ فَاسْجُـدِي لله واقْتَـِربِـي
مـن كان لِلْغِرْبِ عَبْدَ الفِكْرِ خَاضِعَهُ
فَلَـيس مِـنَّا ولَـسْنا مِنْهُ في نَسَبِ
هـل يستوي مَـنْ رسولُ الله قائِدُهُ
دَوْمـًا، وآخـرُ هادِيـهِ أبولَهَبِ
وأيـن مَنْ كانتِ الزَّهْـَراءُ أُسْوَتُهَا
مِمَّن تَقَفَّـتْ خُطَى حمَـَّالَةِ الحطَبِ
فَلْتَحْـذَرِي مِنْ دُعاةٍ لا ضمير لهم
مِـنْ كُـلِّ مُسْتَغْرِبٍ في فكره خَرِبِ
أَسْمَـوْا دَعَـارَتَهُمْ حُـرِّيَّةٍ كَـذِباً
بَـاعُوا الخلاعة بِاسْمِ الْفَنِّ والطَّرَبِ
هُمُ الذئابُ وأَنْتِ الشَّاةُ فاحْتَرِسِي
مِـنْ كُـِّل مُفْتَرِسٍ لِلْعِـرْضِ مُسْتَلَبِ
هُـمْْ يَبْتَغُونَكِ لَحْماً في مَآرِبِهِمْ
ويَطْرَحُونَكِ عَظْماً غَيْرَ ذِي أَرَبِ (23)
ويستمر الشاعر على هذا النفس الشعري الراقي من حيث المعاني والأداء معا، وهويحذر الفتاة المسلمة من أن تستجيب لدعاة الفساد والإفساد، بما يروجونه بين النساء من الدعاوى الباطلة، كالحرية والاختلاط والانفتاح، وغير ذلك من الشعارات التي أتى الشاعر على إيرادها الواحدة تلوالأخرى ليرد عليها واحدة واحدة، حسب ما يتطلبه كل مقام، وهوما جعل الشاعر يطول القصيدة تطويلا بالغا (24)، ومع ذلك حافظ على قوة الأداء التي بدأ بها نفسه.
ولعل قصد الشاعر إلى نصح المرأة المسلمة ـ وكذا نصح الشاب المسلم كما سيأتي بعد قليل ـ في مواجهة تيارات التغريب القوية وتركيزه على مختلف القضايا المرتبطة بهذا الموضوع الفائق الأهمية، هو الذي حدا به إلى كل هذا التطويل المفرط، وهوما ينسحب أيضا على كثير من النصوص التي جنح فيها الشاعر للاستماع إلى مشاعره المنسابة بغضب أحيانا كثيرة، وبهدوء ساكن في أحيان أخرى، فيسفر الأمر على نص طويل تتموج فيه مستويات الإبداع بين الجودة الفنية، والسقوط أحيانا في قبضة النظم البارد، تبعا لما يهدف إليه من هذا النص أوذاك.
ولم يقف الشاعر عند حدود توجيه النصيحة للفتاة المسلمة فقط كما قلنا، وإنما خص الفتى المسلم أيضا بقصيدة طويلة عنوانها يشبه عنوان القصيدة السابقة التي نصح بها فتاة الإسلام، وهو” إليك يا ابن الإسلام “ينصحه فيها بنصائح كثيرة، ويدعوه إلى ترك أسباب الخمول والتكاسل، ويحضه على التشمير عن ساعد الجد للعمل للدنيا وللآخرة معا، وفق ما يدعوإليه الشرع الإسلامي، ويحذره هوأيضا من الانزلاق إلى وهاد اللذة التي يبشِّر بها أدعياء الحداثة والتغريب، فيستجيب للشهوات الزائفة والرغبات المادية العارضة التي تصد الفتى المسلم عن الطموح نحوالمعالي لتقلد الصفوف الأمامية في مجتمعه المسلم، فيكون بذلك مجرد مستهلك لهذه الشعارات الجوفاء، وقنطرة يَعْبُرُ عليها المتربصون بالإسلام على حين غفلة من أهله وبخاصة الشباب، فيحق! ق أغراضه الداعية إلى حصر الدين الإسلامي في أضيق الزوايا المعتمة الممكنة، يقول :
يَا مُسْلِماٍ بِعُـرَى إِسْـلامِهِ ارْتَبَطَ
هَـلاَّ وَفَيْتَ بِـما مَوْلاك قَـدْ شَرَطَا ؟!
أَبِـالْمَعَاصي تـرى الفردوس دَانِيَةً
مَـنْ يزرعِ الشَّوْك لَم يَحْصَدْ بِهِ الْحِنَطَا
أمْ تَشْتَرِي الخلْد بالمغشوش من عملٍ
وسِلْـعَةُ الله لا تُشْـرَى بِـما خُلِطَا
وتَخْطُـبُ الْحُورَ لَم تَهْدِ الصَّدَاقَ لها
ولَـم تُقَدِّمْ لَـها عِقْـداٍ ولا قُـرُطَا !!
تَبْغِي الجِنَانَ بِـرُوحِ القَاعِدِينَ فَدَعْ
عَنْـكَ المعالي وابْـغِ الخبـزَ وَ الأَقِطَا!!
أَمَا عَلِمْتَ طـريقَ الْخُلْدِ قد فُرِشَتْ
بالشـوك، ما فُرِشَتْ وَرْداً ولا بُسُطَا
أَمْ تَنْشُدُ النَّصْرَ لَم تَدْفَعْ لَهُ ثَمَنًاولَـم تُعِـدَّ لَهُ الأسبابَ والخْطَطَا
للنَّصْـر قَانُـونُـهُ والله ُ فَصَّلَهُ لا تَحْسبِِ النصرَ يأتِـي الناسَ مُعْتَبِطَا
مَـنْ يَنْصُرِ الله يَنْصُرْهُ فَـلا أَمَلٌ فِـي النَّصْـرِ إلا بِمَنْ وَفَّى بِمَا شَرَطَا
فَاحْذَرْ مَقَالَةَ سُوءٍ مِنْ عَبِيدِ هَوَى يَحَيَوْنَ فِـي عالَـمِ الأفكار كَاللُّقَطَا !!(25)
والناظر في هذا النص الموجه إلى الشباب والذي وجهه إلى الشابات المسلمات من قبل، يجد تشابها واضحا بين مقاصد الشاعر فيهما، حيث يحاول صرف نظر الجنسين كليهما إلى ما وراء تلك الدعاوى التي يحشد لها أدعياء التقدم والحضارة والحداثة كل طاقاتهم لصرف هِمَمِ المسلمين ذكورا وإناثا إليها، وهم يعلمون أن القصد منها ما هوإلا لغواية عقولهم، وتحويلها عن عزائم الأمور إلى سفاسفها حتى تظل أبد الدهر لاهثة وراء كل جديد تقذف به الحضارة الغربية المصَمَّمَةُ أصلا على مقاس أهلها بخاصة، وعلى مقاس من اختار نهجهم من المقلدين المنبهرين بسراب أفكارهم التي تقدس الماديات والشهوات تقديسا لا حدود له.
لذلك نجد الشاعر يلح على كل هذه المواضيع إلحاحا ظاهرا، خاصة وأنه يعلم علم اليقين مدى التأثير البالغ لآلة الدعاية الغربية على عقول الشباب المسلم، حتى إنه ليحس بأن السبيل الوحيد للوقوف في وجهها يكمن في إيقاظ الضمائر الشابة، بتفجير ينابيع الإيمان بين جوانحها البريئة، وبتبصيرها بالغايات الحقيقية الكامنة وراء تلك الدعوات التي غزت البيوت رغما عن أنوف أهلها.
ولعل الشاعر يحس أحيانا بخطورة الموقف وبضرورة التمييز بين السلبي والإيجابي في الحضارة الغربية، فيضطر إلى التفصيل والتوضيح باستعمال بعض الألفاظ الأعجمية التي تتداول في الحياة اليومية بين المسلمين وغير المسلمين، حتى تكون قريبة من فهم المتلقي المسلم بخاصة، فَيُقْنِعُهُ بضرورة التمييز بين ما يُحْمَدُ منهذه الحضارة وما يعاب منها ، وما يمكن أخذه عنهم وما ينبغي تركه، لأنهُ وُضِعَ في الغرب أصلا لغير المسلمين دون سواهم ، من ذلك مثلا قوله :
وَ لَسْتُ أُنْكِرُ مـا لِلْغَـرْبِ مِنْ أَثَرٍ
في عالمِ اليوم فالإِنْكارُ مَحْضُ خَطَا
بِالْعِلْـمِ يَسَّـرَ لِلإنْسَـان عَيْشَتَهُ
وَ صَـاغَ بالعقـل عَقْلاً قَلَّمَا غَلَطَا
بالعلـم رَدَّ لِـذِي الأَسْقَامِ عَافِيَةً
فَقَامَ يَحْيَا سعيـداً بعـدما قَنَـطَا
لَكِنَّـهُ عَـاشَ دُونَ الله فَافْتَقَدَتْ
حَيَاتُهُ الطُّهْرَ مَهْمَا ازْدَانَ وَ امْتَشَطَا
مَنِ ارْتَقَى ذِرْوَةَ ( التِّكْنِيكِ ) مُقْتَدِراً
بِالعِلْمِ في عالم ( الأخلاق ) قَدْ هَبَطَا
فَاعْجَبْ لَهُ صَاعِداً يَغْزُوالْفضَاءَ بِهِ
وَاأْسَفْ لَهُ هَابِطًا فِي الطِّينِ قَدْ سَقَطَا
آلِيَّـةٌ ضَـاقَ مـنها جِيلُهُ فَغَدَ
مُسْتَهْتِراً مِثْـلَ مجنون قَدِ اخْتَلَـطَا
وعَاد كالْوَحْشِ لا تُلْفِيهِ مُغْتَسِلاً
ولا يُنَظِّفُ رَأْسـًا مِنْـهُ أوإِبِـطَا
رأَى الحياة بلا مَعْنىً ولا هَـدَفٍ
فَغَاصَ في وَحَلِ اللَّـذَّاتِ وانْخَرَطَا
يُحِيلُهُ الْغَـيُّ مِـنْ سُكْرٍ إلى خَدَرٍ
أَضْنَاهُ أَكْـلاً وَ مَحْقُونـًا وَ مُسْتَعَطَا
(تِقْنِيَّةُ) الْغَرْبِ ما أَرْوَتْ لَه ظَمَأً
ولا أعـادت له ما ضَاعَ وانْفَرَطَا
فَلَيْتَـُه إِذْ عَلا الأَفْـلاكَ مُنْتَصِرًا
قَدْ هَذَّبَ الجِيلَ فَوْقَ الأرضِ فَانْضَبَطَا (26)
وعلى هذا النحوأيضا من الانسياب والتدفق في المشاعر والنصائح، خاطب الفتاة ببعض الألفاظ الأعجمية لعلها تصل واضحة إلى آذان الفتاة المسلمة، فقال :
كَمْ لِلْفُجُورِ ضحايا لا تُعَدُّ وكَمْ
قَدْ دَمَّرَ السُّكْرُ مِنْ فَرْدٍ ومِنْ عُصَبِ
واليومَ أَنْذَرَهُمْ بِالْوَيْلِ( إِدْزُهُمُو)
والشَّـرُّ يُثْمِـرُ شَـرًّا غَيْرَ مُرْتَقَبِ
والفرد في الغرْبِ يَحْيَا دُونَ عائلة
كَالْوَحْشِ في الغابِ يَحْيَا غَيْرَ مُنْتَسِبِ
اَلحْبُّ كَالْعَطْفِ مَعْنىً لا وُجُودَ لَهُ
إِلاَّ لِبِنْتِ الْهَـوَى أَوْ لاِبْنَـةِ الْعِنَبِ (27 )
فالشاعر يضع قيمة الفرد في المجتمع الغربي بين يدي المتلقي المسلم في أجلى معالمها، فهومُنْبَتٌّ عن القيم التي كان من المفروض أن يعيش في ضوئها، وبذلك أصبح يعيش حالة من النكوص إلى الوراء رغم التقدم المادي الهائل الذي وصل إليه العالم الغربي عموما، فلا قيمة لا للأخلاق ولا للأسرة ولا للعواطف النبيلة التي تجمع بَيْنَ بَنِي الإنسان حولها في طهر وصفاء، ولم تعد القيمة إلا للشهوة بمعناها العام، سواء كانت في المآكل أوالمشارب المحرمة وغير المحرمة، أوالمناكح المرذولة التي تسيبت إلى درجة حيوانية تفوق التصور الإنساني السليم والسَّوِيِّ، وعموما، فإن الإنسان في الغرب من حيث القيم والأخلاق ( وحش في الغاب ) كما قال الشاعر، لأنه تاهَ وسط أدغال المدنية والتقدم التكنولوجي في كل الميادين، فافتقد كل ما له علاقة بالقيم والأخلاق الإنسانية في كل المجالات، حتى عاد الإنسان نفسه ليس إنسانا بقدر ما هوآلة طبيعية تعيش لمادتها كما تعيش الأنعام أوأشد، وقد نسي الدينَ والغايةَ من حياته وإلى أي مصير يتجه، بل لقد نسي نفسه بأنه إنسان يستحق الحياة الكريمة،كما يستحق التكريم بين سائر المخلوقات التي تعيش من حوله.
واللافت للانتباه في مثل هذه النصوص، أن أسلوب الشاعر واضح جلي يصبومن ورائه إلى إمتاع المتلقي المسلم والمسلمة ونَفْعِهِمَا أيضا، لأن مضمون الخطاب الذي يرسله إليهما مضمون يعيش مع الفرد يوميا، بينما المطلوب هوالعلاج والتنبيه عما ينطوي عليه من المخاطر التي تريد تدمير المجتمع المسلم في الشرق الإسلامي، بعدما دمرته في الغرب العلماني المسيحي أواليهودي. وأحسبأن الشاعر كان موفقا في هذا النوع من الخطاب فنيا، وإن كنا نلحظ أحيانا نوعا من الفتور الشعري في بعض الأبيات التي يُدْفَعُ فيها الشاعر دفعا إلى البحث عن القافية المناسبة، حتى وإن كانت أحيانا من الغريب أوالمغمور من الألفاظ المستعملة في الخطاب العربي المتداول بين الناس اليوم، ومع ذلك فإن الشاعر قد وُفِّقَ في مجمل أطوار هذين النصين الطويلين والممتعين أيما توفيق.
—-
23 ـ المسلمون قادمون، ص، 39 ـ 40.
24 ـ استغرقت القصيدة من الصفحة 39 إلى الصفحة 48، وفيها سبعة وتسعون بيتا.
25 ـ نفسه، ص، 31 ـ 32.
26 ـ نفسه، ص، 34 ـ 35.
27 ـ نفسه، ص، 41.
د.بنعيسى بويوزان