شبّهت الحكماء المعاني بالغواني والألفاظ بالمعارض؛ فإذا كسا الكاتب البليغ المعنى الجزل لفظا رائقا وأعاره مخرجا سهلا، كان للقلب أحلى وللصدر أملا، ولكنه بقي عليه أن ينظمه في سلكه مع شقائقه كاللؤلؤ المنثور الذي يتولى نظمه الحاذق (ابن المدبر2002/22).
والعلم كالأدب متعة للروح وغذاء للقلب والعقل، وفيهما كليهما جمال قد يحل في اللفظ والعبارة والصورة أو في المعنى أو في الأسلوب والتسلسل والنظم (سويسي 1982/7).
الفنان والعالم يتكافأ عملاهما في هذه الحياة الغريبة، بل إنه يمكننا أن نقرر أن العقول وقت عملها هي هي وأنه يستحيل أن يلاحظ بينهما أي فارق عضوي (سويسي 1982/11).
علمية الأدب وأدبية العلم
جاء في المعجم الوسيط أن الأدب هو “جملة ما ينبغي لدى الصناعة أو الفن أن يتمسّك به” وأيضا “كل ما أنتجه العقل الإنساني من ضروب المعرفة” وكذلك “الجميل من النظم والفن”.
لقد جمع هذا المعجم فأحصى وجعل للأدب جمالاً واتساعاً معرفياً.
وقد دأب بعض مؤلفي العربية على إدراج كل وجوه المعرفة تحت مصطلح “أدب”. هكذا، تمعن ابن خلدون في مدلول “”علم الأدب” فتبيّن له أن “المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة وسجع متساوٍ في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقرئ منها الناظر في الغالب معظم قوانينه العربية” ([ 2000 ]: 553). وأكد على جانب الحفظ لكي تتكون الملكة. كما أن “المعرفة الإنسانية لا تتجزأ وإن كانت تسلك طرقا مختلفة ومتعددة. فسواء سارت في طريق العلم أو طريق الأدب أو طريق الفلسفة فإن الهدف يتمثل فــــــي إدراك الــــــوجـود والمعنى الخالـــد (راغب 1980/49). ومعلوم أن الحضارة العربية لم تفرّق، في أوج ازدهارها، بين فروع المعرفة الإنسانية. كان ذلك بإلهامٍ من الحضارة الإغريقية التي رأت من خلال أرسطو أن المعرفة الإنسانية كتلة واحدة (راغب : 212- 1980). وقد دلّت كلمة “أدب” على طائفة واسعة من المفاهيم في بعض فترات العصر العباسي حيث شملت “الاستنارة والمهارة النظرية والعلمية” وكان الأديب هو “المثقف المستنير اللبق” (راغب : 212- 1980) وهكذا، وقد “أدخل الجاحظ العلوم الرياضية وبعض العلوم الطبيعية في مجال الأدب” (راغب : 213- 1980). ولقد صدق راغب (43- 1980) حينما قال:
وإذا كان ما يسمى بالوحي يلعب دورا حيويا في إلهام الأديب بمضمون عمله وشكل مبناه، فإنه يلعب نفس الدور بالنسبة للعالم. فهو ليس إنسانا آلياً يتعامل مع المعادلات والنظريات والقوانين بدون المعاناة العميقة التي تزخر بالأمل واليأس، أو بالإصرار والتردد، وبالانطلاق والنكوص…، إلخ.
إن الحضارة الإنسانية لا تستقيم إلا إذا سارت على قدميها الإثنتين: العلم والأدب، هذا يهذب ذاك، وذاك يثري هذا، لأن المعرفة العلمية الحديثة اقترنت بنظرة إلى العالم خالية من كل تأمل إنساني وخيالي وجداني. فهي لا تعنى إلا بتقرير الوقائع الفردية. أما التنسيق بين العلم والفن والمعرفة والأدب واستخدام النتائج لإيجاد نظرية في الكون، فهذا ليس من شأنها فيما تقول.
وفي العصر الحديث، تعالت صيحات الأدباء العرب الذين نادوا بالتزام التفكير العلمي والمنهج العقلي في الكتابات الأدبية، بعيدًا عن الزخرفة الإنشائية الفارغة، ومن هؤلاء الأدباء عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم (أنظر راغب : 214- 258 -1980 ). ومن جهة أخرى، لا بد من استيعاب “كل أبعاد العلاقة العضوية من الأدب والعلم كمحاولة للتخلص من المدعين الذين أقحموا أنفسهم على الميدان الأدبي وأدلوا بدلوهم الزاخر بالادعاء والسفسطة والبلاغة الإنشائية التي عفا عنها الزمن” (راغب : 9- 1980).
طرائق الترجمة
تجنباً للدخول في المتاهات والمساجلات النظرية، التي قد تعدّ ترفا فكرياً، تُتّخذ الجملة كوحدة عملية للترجمة، ابتداء من الصغرى، ويكون عليها المعوّل للتسلسل في النص والإحاطة بمعانيه بتحليل أجزائها وإحصاء قوالبها وإيجاد المقابل لها في اللغة المترجم إليها. على هذا الأساس اقترح فيني وداربيلني [1977 ] طرائق للترجمة تسبر أغوار اللغتين وتقارب بين الثقافتين المتناقلتين (أنظر الديداوي 1992 و 2002 والحمزاوي 1986 وساخي 2002). وخلاصة تلك الطرائق كالآتي:
- الترجمة المباشرة، التي تنقسم إلى ما يلي:
- الإقتباس: أتخاذ المصطلح أو التعبير الأصلي معرّبا للإبقاء على النكهة المحلية؛
- الاستعارة: النقل الحرفي للمصطلحات أو التعابير وإدخالها في اللغة المترجم إليها لسد الفجوة؛
- الترجمة الحرفية: مماثلة للإستعارة، لكنها تتّسع إلى الجملة متجاوزة القالب المكون لها؛
- الترجمة التصرّفية: هذه الترجمة هي التي من المفروض أن تكون أكثر الطرائق شيوعاً وتداولاً واستعمالاً في العربية وفي كل لغة يكون البَوْن الثقافي والتركيب شاسعاً بينها وبين لغات أخرى التي تنقل منها. وتنقسم إلى الثلاثة أقسام التالية:
- التبديل: يتم بالتقديم والتأخير وإعادة هندسة الجملة وكأنه التقاط صورة من زوايا شتىّ لنفس الشيء المصور الذي لا يختلف وإن اختلفت تلك الزوايا.
- المعادلة: هي الإتيان، في اللغة المترجم إليها، بما يعادل الأصل، وإن اختلفت الأجزاء مبنىً؛
-التقريب: يتعلق الأمر بتقريب المواقف ومقتضيات الحال لردم الهوة الثقافية والمفهومية.
وفيما يلي أمثلة على المعادلة والتبديل، اللذين كثيراً ما يتمازجان في الجملة العربية، وهي مستخرجة من النص الطبي (أنظر النص):
في معرفة الكيفية التي تتشابكبها الخلايا متقاسمة المعلومات لمكافحة المرض
Into how the cells form an sharing-information network to fight diseases
محبو القصص المصوّرة
Comic books fans
أكثر الطبعات رواجاً
Most sought after editions
وإن المصطلح المتخصص هو أول ما يطرح الإشكال في الترجمة التخصصّية ومن عوائقه الترادف والاشتراك اللفظي. وعلى المترجم المبيِّن أن يختار المقابل الملائم ويضعه في المقام الأول، متوخيا الدقة والوضوح، ذلك أنه لا خير في ترجمة ركيكة منغلقة مُغْرِبة.
المصطلحات والتعابير المصطلحية والاصطلاحية
التعابير المصطلحية هي تلك التي يكون المصطلح المتخصص نواتها. أما الاصطلاحية فهي التي يصطلح عليها في اللغة فتصبح جزءاً من ذاكرتها وتتلازم وتتساند في أداء المعنى البائن منظوماً في جملة محبوكة فتضفي رونقاً على النص. وإن التعابير الاصطلاحية لبنات أساسية في تكوين النص المتخصص وهي فيه بمثابة الشرايين في الجسد. وهي قوالب مهمّة في تركيب الجملة وتحليل النص، ولها منزلة وسطى بين المفردة والجملة. وبالنسبة للعربية، فإنها تنقسم إلى قسمين رئيسيين (أنظر أبو سيده 2005 )، هما (أ) المعرّبة، أي المستعارة من لغات أخرى عن طريق النقل، و(ب) المأخوذة من المتن العربي. وإن لهذه التعابير دوراً مرموقاً في تكييف النص العربي وتبيينه وهي تقع في صميم العملية التواصلية وليس “عددها الهائل وحده هو الذي يجعلها حاسمة بالنسبة لمتعلم اللغة\المترجم، بل أيضا كونها تتخلل شتى الأساليب فيلعب بعضها أدواراً عملية\نصّية\وظيفية في تعلم اللغات” (أبو سيده 2005 ). وفي حين أنها مبعثرة في المعاجم العربية ثنائية اللغة، بنسب متوسطة ومتفاوتة، فإن الاتجاه الآن سائرٌ في الإنكليزية إلى التركيز عليها لأنها لا تعد جانباً هامشيا من المعجم الإنكليزي. وإن مفهوم التعبير الاصطلاحي الذي انبثق في المجال اللساني في أوائل الثمانينات “له آثار يمكن، إن هي أخذت على محمل الجدّية، أن تحدث انقلاباً في نظرتنا إلى استعمال اللغة ولتلقّنها ومنهج تعليمها، ولربما حتى في الصرح المعرفي البشري” (كور 2002 ، عن أبو سيده 2005). وإن وجود تلك التعابير في مجمل المدوّنات اللغوية، ولا سيما في الخطاب المنمّط، يتنافى مع ما تلقاه من صدٍّ ومعاملة متفاوتة وغير منهجية في المعاجم التقليدية” (بايار : 67- 1997). وإن هذه الحالة تلجئ المستعمل إلى المعاجم المتخصصة فيها، التي توردها وتحصيها وتميّزها، علما أن هذه المعاجم تكاد تكون منعدمة في العربية.
ومن نافلة القول إن الذاكرة تلعب دوراً حيوياً من هذا القبيل ومعها التذكّر الذي تساعد عليه بعض المعاجم المتكاملة الوفيرة الاصطلاح، منها المغني الأكبر لحسن الكرمي وقاموس إلياس العصري والمورد و The Concise Arabic-English Dictionary of Current Usage ومعجم بيلو (Belot) الفرنسي-العربي. كما أن الرصيد الفردي من اللغة وإمكاناتها عنصر معتبر للمفاضلة بين المترجمين. وإن قيمة الوحدة المعجمية تتغير حسب المادة المعجمية المتراكبة معها. كما أن التعابير الاصطلاحية تلقى اهتماماً متزايداً، إذ يتكرر استعمالها فتعلق بالذاكرة لما فيها من تلازمٍ وتواترٍ. وقد انتبه اللسانيون الناطقون بالإنكليزية إلى هذه المسألة فطوّروا ما يسمّى باللسانيات المتنيّة واستنبطوا على هديها طرائق لتعليم الأجانب لغتهم وأعدوا لذلك معاجم للمتعلّمين كما أن الاهتمام انصرف إلى الترجمة الحاسوبية التي تستعين بتلك القوالب. ودفع هذا التطوّر البعض إلى إعادة النظر في الحد الفاصل بين النحو المعجم واعتُبِر أن “الوحدة الدلالية الأساسية ليست الكلمة وإنما الجملة البسيطة” (بايار 1997: 64). غير أن تلك التعابير يلزم تركيبها في السياق المناسب، مع مراعاة الضرورات اللغوية، منها مقتضى الحال ولازمة النص، أي الحد الفاصل بين النص والواقع، إذ أن هذه اللازمة تحتل المساحة الكائنة بين تفاعل العلاقات الداخلية في النص خارجه، وبذلك تحكم المعنى.
وبخصوص المصطلح والتعبير المصطلحي، فإن لهما علاقة بالعلم والإفصاح عنه والتنظير للعلم له علاقة بالواقع. وقد تطور البحث العلمي وكان لهذا التطور انعكاس لتلك الصلة، التي مرت بثلاث مراحل، هي: أولاً، مرحلة الواقع التجريبي، حيث كانت المعرفة العلمية لصيقة بالواقع قيد البحث وكانت النظريات المرتبطة به وصفيّة وفي أسفل سلّم المَنْهَجة، أو النظام التي تتسق به المعرفة، وكان بعدها النظري محدوداً. وجاءت المرحلة الثانية فزادت معها أهمية الفرضيات والبديهيات وتناقصت صلة الواقع بالتجارب وأيضا المفاهيم الوصفيّة. وفي المرحلة الثالثة، وهي طور الواقع الداخلي شديد التنظير، وقد طغت المفاهيم النظرية، ممّا جعل التواصل العلمي لا يتأتّى بدون “أن يكون المتواصلون على بيِّنة تامة من النظرية ذات الصلة، أي من غير أن يتسنّى إدراك المفاهيم وروابطها وكذا جزئية النظرية والإحاطة بها جميعاً” (بودين 1995 ). هنا مكمن قيمة المصطلح والمصطلحيات.
وسواء تعلق الأمر بهذه الفئة أو تلك، فإن وحدات لغوية مكونة للأسلوب، الذي يتجسد في الوحدات والسمات اللسانية ويرتكز على مفهوم القولبة الذي ينظر إلى النص والخطاب على أنهما عبارة عن وحدات لسانية منشطرة وسمات يتميّز بها النظام اللغوي. ويمكن وصف الأسلوب على أنه “فهرسة لأنواع تعابير وتراكيب متن النص، ومن الأفضل أن يكون ذلك بالحاسوب” (دوبوغراند 1995: رابعا-5). وهذه النظرة ناجمة عن كون “كل شيء متالِّفا من أجزاء متحدِّدة أصغر منه ومكوِّنا لشيء أكبر منه” (دوبوغراند 1995: ثانيا-1).
ومن اللازم توخّي البيان الكامل للمصطلح، بحيث يكون واضحا مختصر معبِّرا. وليس المطلوبسد ثغرة مفهومية مع التصعيب والإغراب. فعلى سبيل المثـال، يعرّب مصطلـح chorea ب”داء الرقـص” 1. وهذا مقابل مثير للضحك والسخرية ومضلِّل، على وضوحه، ذلك أن أول ما يتبادر إلى الذهن أن المصاب به مولع بالرقص شغوف به وبالتردد على المراقص، بينما المقصود هو “خلل عصبي يظهر كجزء من أعراض تعقب عدوى أو خللاً وظيفيا عضويا، وتتميز بحركات جسدية غير منتظمة وخاصة في الوجه والأطراف” (معجم مصطلحات العلم التكنولوجيا). وقد اقترح له “الزَّفن” و”الكَوْر”. غير أنه لا بيان في أيٍّ من هذين الحلين، لأن القارئ أو السامع لا يتصوّر المفهوم للوهلة الأولى ويلزمه التنقيب عنه. وفي هذا الصدد، اقترح المورد “الرُّقاص” على وزن “فُعال”. وأورد قاموس إلياس العصري مصطلحا دارجا هو “النقّاز”، الذي يفهم في المغرب العربي بمعنى “الوثّاب”. ويمكن استعمال “داء الارتقاص”، على قياس “الارتجاف والاهتزاز والارتعاش”.
خــ اتمــة
الترجمة الطبّية، كأي ترجمة تخصّصية أخرى لا تحيد عن ضرورة الاستناد إلى قاعدة التنصيص الصحيح الأساسية، وهي المزج بين المصطلح والمصطلح عليه عند أهل اللغة، مع الالتزام بمقتضياتها. فالمصطلح هو حامل المفهوم والمصطلح عليه جوهرة منظومة ترصّع النص وتجّمل المعنى وتزيد الأثر وبها تستقيم الجملة وتسلس. ويجب أن يكون المترجم\المعّرب قادراً على التحكم في المفهوم المصطلحي من كل جوانبه، بمبناه ومعناه، بحيث يشتق ويحسن الاشتقاق ويبيّن ويفصح في كل الأحوال. فليست العبرة في سد الثغرة وإنما في تبيين الفكرة. ولا تكفي السيطرة على المصطلح، بل على من يقدم على الترجمة والتعريب أن يكون كاتباً مجيداً وواضحاً مفيداً. ومن المهم جداً التدرب على الترجمة والإلمام بأصولها. لذا، يقترح تنظيم دورات للأخصائيين العرب، يمكن أن تكون مكثفة وأن تكون مخصصة أو في إطار معهد للترجمة، للتمرس على هذا النشاط الذي يستلزم المنهجية والدقة وليس مجرد السليقة.
هذا عن الترجمة بالمعنى التقليدي، أي نقل نص إلى العربية مع الحفاظ على كل عناصره. ولتسريع العملية، والحالة هذه، متى تعلق الأمر بمؤلَّف قيّم جامع حديث يطلع على آخر مستجدات ميدان علمي ما، يمكن توزيع فصوله على عدة مترجمين لكي يصدر في وقت مناسب. وحبّذا لو جرى الاتصال بدور النشر الأجنبية ليتزامن صدور النسخة العربية مع أصلها.
أما الطرقة الأخرى المثلى، فهي استخلاص زبدة المعرفة من عدة لغات ومصادر، مما يتيح الإسراع والإبداع والمواكبة السريعة التي تغني عن ترجمة أكوام مكومة من الكتب والمنشورات دون اللحاق.
قصارى القول، لا يمكن التصدي بنجاح لهذا العمل الجليل من غير الجمع بين حسنيين، أي الاصطلاحية المعرفية، وعمادها المفهوم المصطلحي، والاصطلاحية اللغوية، التي تنتظم فيها الاصطلاحية المعرفية.
د.محمد الديداوي