جاءتْ هذه الآيات لتشُدَّ عَضُد المسلمين المستهدَفين من أعدائهم في مختلف القَبائل والبقاع، ومن مُخْتَلف أنواع المعاداة، وأصْناف المعادين، فالكلُّ في ميزان الله تعالى مناصِرٌ للباطل الذي أنزل اللهُ تعالى الحقَّ لخَنْق أنفاسِه، وإزْهاق روحه، بـ :
1) الإيمان بالله تعالى هاديا، ومرشداً لخيرَيْ الدنيا والأخرى، ورابطاً على القلوب المومنة أيام عواصف الكفر والطغيان، ومُثَبِّتاً لها في الشدائد والمِحَن التي تُزَلْزِلُ الأقدام.
2) الإيمان بالله تعالى الناصِر للحق بالحقِّ يوْم يُحَصْحِصُ الحقُّ، ويُسْفِرُ الباطِلُ عن وجْهِه البشِعِ القَبِيح، فتهتزُّ أركانُه، وتتَشقَّقُ جُدْرانُه الفُولاذيَّةُ فتُصْبحُ هارِيةً هاوية.
3) الإيمان بالله تعالى كاشفِ عُوار الباطل، وفاضِحِ أوليائه علىرؤوس الأشهاد من الملائِكَة الكاتبين، والملائكة اللاّعنين، والمومنين الشاهِدِين، والأتباع المُعْتذِرِين يوم لا ينفع الاعتذارُ في الدنيا والآخرة.
فقد مضَى ما يكفي من الزَّمَن لاهْتداءِ المعاند، وتوبَة المنافق، وتدبُّر المتفكِّر، وصحْوَة الغافِل، وتعَقُّل المَجْنُون بالكُرسيّ والمنصِب، وارتداع السَّكْران بالدُّنيا والمال والشَّهواتِ، وانْتِباه التابع الذليل المُقَبِّل للأقدام السّوْداء في دهاليز التآمُر على الإسلام والمسلمين.
4) الإيمان بكتاب الله تعالى على أنه الشَّرْع الأوْحَدُ الكفيل بتوحيد المسلمين وإسْعَادِ العَالَمِين، وعلى أنَّه المنهَجُ الأوحَدُ لتأسيس القوة الحقيقيّة للمسلمين في وجه الظالمين.
5) الإيمان بالمبادئ الإسلامية على أنها الأخْلاَق الحقيقيَّة للتحضر الإسلامي الفريد، فلا عَدْل إلا عدْل الإسلام، ولا تنمية إلا تنمية الإسلام، ولا تزكية إلا تزكيةالإسلام، ولا عِلم إلا عِلم الإسلام، ولا تعليمَ إلا تعليم الإسلام، ولا أسرة إلا أسرة الإسلام، ولا مجتمع إلا مجتمع الإسلام، ولا شُورَى إلا شُورى الإسلام، ولا قضاءَ إلا قَضاء الإسلام، ولا شهود إلا شهود الإسلام، ولا مُراقبة إلا مراقبة الإسلام، ولا نَزَاهة إلا نزاهة الإسلام، ولا ثقافة إلا ثقافة الإسلام، ولا هَدَف يُنْهِضُ الأمَّة من الرُّقَاد، ويبعثها بعْثا جديداً إلا هدف الإسلام.
أمّا غَيْرُ الإسلام من سلسلة الافتراءات على الشعوب، وذرِّ الرَّمَاد في أعْيُنها بالشّكْليات، وادّعاء الفتوحات بالترقيعات، وادّعاء البطولات الكلامية وسَطَ التّصْفيقات والتهليلات المنفوخ فيها… فقَدْ عَفَّى على كل ذلك الزَّمَن، وأصبَح المسْخُ يكادُ ينطِق مُعْتذِراً عَنْ صلادَةِ المَمْسُوخِين، وصَفَاقة الواغلين في مُسْتنقعاتِ الكَيْد للشُّعوب الإسلامية، وبَيْع مُقَدّراتها بأبخس الأثمان {يُخَادِعُون اللَّه والذِين آمَنُوا وما يُخادِعُون إلاّ أنْفُسَهُم وما يَشْعُرُون في قُلُوبِهِم مَرضٌ فَزَادَهم الله مَرَضاً ولهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُون}(البقرة : 8).
فالله تعالى يُبَيّن أن الكُفَّار والمُنَافِقين المتربِّصِين بالمسلمين يَذوقون من الأَلَمِ مِثْل ما يَذُوقُ المُسْلِمون ولكنّ الكيفيّة مُختلفة :
> فالمسلمون يذوقون آلامَ السِّجْن على أنَّه خُلْوَةٌ لعِبادة الله تعالى، وخُلوةٌ مع الذات لتَطْهِيرها وتزْكيتها بكثْرة التلاوة لكتاب الله تعالى، وكثْرة التدبُّر في آلائه ونِعَمه عليهم من الخَلْق، إلى الرّزْق، إلى الهداية، إلى توفير الخُلْوة مع الخالقِ المُنعم، إلى تسليط المتسلِّطين لرفع دَرَجات القُرْب من الله تعالى بنعمة الصَّبْر لله تعالى الذي يُذَوِّبُ كُلّ إحْساسٍ بالألم، إلى نِعْمة الرضا والتّسْليم لقَدَر الله تعالى وقضائه الذي يأتي نتيجةَ تفْويض الأمْر كُلّه لله تعالى كما فَوَّض الأنبيَاءُ والمرسلُون والصالحُون، الذين كانوا يذوقون الألم على أنه نقْلة عظيمة لدرجات القُرْب من الله تعالى.
أما السجّانُون فيَذُوقون الألم -وهُم على كراسيهم وفي مضاجعهم الوتيرة- غُصَّةً تجْرَحُ كبرياءهم المريضَة، وتطعَن شرفَهم المُلَوَّث بالخِزْي والنّذَالة والظُّلم للأبْرياء، فهُم يسْجُنون المسلمين لنيْل التّنَازُل عن المبادئ، والتنازُل عن مَنْهج الحقّ، والتّنازُل عن الغاية والفوز العظيم الذي يرجوه المسلمون من ربّهم في الغَدِ المُشرق بالرّحْمات الربّانية، وهذه التنازلات كُلُّها ليسَتْ بِيَد المسلمين، لأن الله الذي خلقهم ورزقهم هو الذي هَدَاهم، والذي هَداَهم هو الذي يُؤنِسهم ويُثبّتُهم، والذي يثبتُهُم هُو الذي يُبَاهي بهم ملائكتَهُ في الملإ العُلْوي على أنهم الطائفةُ التي تَفْقأ عُيون الشّياطين وكُلّ أوليائهم الذين يعَضُّون بَنَان النَّدَم من فَرْطِ ما خًسِرُوا في المجابَهَة مع الحقّ، المتمثِّل في الطائفة المتحدِّية. فالكبراء أشقياء في كِبرهِم وتسلطهم. والضّعفاء سُعدَاء في سِجْنهم ومِحْنتِهم.
> والمسلمون يذُوقون التجويع المَحَلِّي والعالَمِيَّ على أنَّهُ جهل باللّه تعَالَى الذي يُطْعم الصابرين مِنْ عباده بالمدَدِ الرّباني الذي يأتيهم قُوَّةً روحِيّة تُنْسيهم ما يُعانون، وقُوَّةً روحية ترزُقُهم الصَّبْر على ما يُعانُون، وقُوة روحيَّة ترزُقُهم القناعَة بالقليل الذي ينالون، وقوة روحيَّةً تُهَوِّنُ عليهم ما يعانُون في سبيل ما يرْجُون من الرّحْمة للعالمين، وقُوة رُوحِيّةً تفْتَحُ بصائِرهم على هَوْلِ ما يُدَبّرُه المُجْرمُون العالَميُّون وعُملاؤهم الضّالعون لاغْتيال الانسانيّة المُكَرَّمة، واغْتيَالِ كُلِّ ما طابَ في الحياة مِن حُرّيّة محروسة بالعقل الرشيد، ونزاهةِمحروسة بالخوف من ربّ العالمين، وعِرْض مَصُون بالفطرة السليمة، وتعايش مبنيّ على التكامُل، وإعلامٍ مبنيّ على التلاقُح والتسلّح بكل قِيَم المعاني الجَميلة في الحياة الإنسانية المكرّمة، وتعليم مبنيّ على غَرْسِ الأخلاق العالية في الناشئة الصاعدة مِن تَقْدِير للأُسْرة، وبُرُورٍ بالأبوّة والأمُومَة، واحترام للأخُوّة الإسلامية والمواطنة الإنسانية، ومِنْ ازدراء للأنانية والظُّلم والغشّ والطغيان، إلى غير ذلك من الأخلاق السامية التي يَعْمَل المُجوِّعُون للمسلمين في مختلف العصور على اغْتِيَالها. فيتَذَوَّقُون آلامها : غُصَصاً مُحْرقةً، ومكَايِد فاشلة، وتجمُّعاتٍ سافِلة، وانتخاباتٍ مصنّعة، ورجولات مُزَيّفة، ومبادراتٍ سخيفةَ، واهتزازاتٍ فكريّة طائشة، واضطراباتٍ عصيبة لا لِجَام لها ولا زِمَام… إنها الآلامُ التي تحْرِمُ أصْحابَها لذّة الاطمئنان والاستقرار لأنهم {يَسْتَخْفُون منَ النّاسِ ولا يَسْتَخْفُون من اللَّهِ وهُو معَهُمْ إذْ يُبَيِّتُون مَالاَ يَرْضى مِن القَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُون مُحِيطاً}(النساء : 108).
فالمُسلمون المسجونون، والمُسْتهزَأ بِهمْ، والمُجَوّعُون، والمتّهَمُون والمُحَاكَمون، والمُقَاتَلُون، والمقْتُولون شَهادةً… يجْنُون ثِمَار كُلِّ أنْواعِ ذلك العَنَتِ والألم :
> بَقَاءَ كَلمَة الله تعالى هِيَ العُلْيا، فبصبْرهم وثباتِهم يجْعَل الله تعالى كلمة الذين كفروا السُّفْلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.
> ورُؤْية الفَشَلِ المُزَلْزِل لكُل مخططات المَكْر والخِداع محليّاً وعالميّاً، مادام المسلمُون مُفَوِّضين الأمْر كُلّه لله، ومرابطين في حِصْن التقوى والصَّبْر {وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضِرْكُم كَيْدُهُم شَيْئاً إنّ الله بِما يَعْمَلُون مُحِيط}(آل عمران : 120).
> وتَمْكِيناً لدِينالله تعالى في النُّفُوس والقُلُوب والضّمَائِر، وكُرْهاً لأبالسَة الإجْرام، ودَهاقِنَةِ الكُفرِ والطُّغيان، فالله عزّ وجل الذي ردّ كُفّار الأحزاب بغَيْظِهِم لم ينالوا خَيْراً، وأنزل الذين كفَروا من صياصيهم وقَذَف في قلوبهم الرّعْبَ… هو الذي يجْعَل كُفّار العَصْر غائِظين حانقِين حاقدين يتجَرَّعُون ألَم الغيظِ غُصَصاً مُحرقة، وحسَراتٍ خانقة مُمضَّة، تُفجِّرُ أدْمغَتَهُم، وتُجَمِّد شرايِينهَم، وتيبِّسُ أكْبَادَهم، وتُسْخِطُ الرّأي العامّ عليهم، فيرَوْن خزْيَهم في الدنيا قبْل الخِزْي الأكْبر يوم يُحْشَرون نَاكِسِين رؤوسَهم بيْن يدَي العزيز الجبار، فيتمنَّوْن الرجوع للدُّنيا لاصلاح ما أفسَدُوا من الاستهزاء بالدين والكَيْد له ولأهْلِه. وأنّى لهم ذلك؟! {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُون نَاكِسُو رُؤُوسِهم عند ربّهم رَبَّنَا أبْصَرْنَا وسَمِعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صَالِحاً إنّا مُوقِنُون}(ألم سجدة : 12). إنها لحظةُ الانهيار الكفري في الأُخْرى بعد الانْهيار الكُفري في الدّنيا الذي يَراه المومنون قريبا -إن شاء الله تعالى- في علم الله، ويراه الكُفّار العُمْيُ بعيداً في جَهْلهم بالله تعالى، وجَهْلهم بالتاريخ، وجَهْلهم بالسُّنن الرّبانية. فالله تعالى قال للكفار السابقين واللاحقين {قُل للذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُون وتُحْشَرُون إلى جَهَنَّم وبِيسَ المِهَاد}(آل عمران : 12) وقال للمومنين السابقين واللاحقين مبشِّراً بالمستقبل المضمون في كَنَف الله تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُون بِنَا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْن ونحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أوْ بِأَيْدِينا. فتَرَبَّصُوا إنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُون}(التوبة : 52).
> أمّا أعظَمُ ثمرة يجْنيها المومنون فهي العلُو الإِيمانِيّ والمَعِيّةُ الرّبّانِيّة {فلا تَهِنُوا وتدعوا إلى السلم وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ واللَّهُ مَعَكُمْ ولنْ يَتِرَكُمْ أعْمَالَكُمْ}(محمد : 35).
إن الخطاب الربّانيّ للمسلمين المومنين بالمشروع الإسلامي هو خطابُ تحْفِيز وتشْجيع على المضيّ في طريق التَّحَمُّل لكُلّ المُعاناة مهْما كانَتْ التكاليف لأنّ مَوَازين التذوُّق للآلام الحسيّة تكادُ تكون متكافئة، لكنّ موازين التذَوُّق المعْنَويّ للآلام غَيْرُ متكافئة أبداً.
فشتان بيْن :
> من يَحْتَمل الآلاَمَ وهو مأْجُورٌ على كُلِّ لحْظةٍ من لحظَاتِ العَنَتِ، ومَنْ هُوَ مَخْزِيٌّ في كُلِ لحظةٍ من لحظات العَنَت.
> من يحْتَمل الآلام وهو يحْمِل مشروعَ البناء الحضاريّ للإنسانيّة، ومن يحْتَمِلُ الآلام في سَبِيل تهديم الإنسانية وتخْريب العُمْران، من يتحايَلُ على الأدْيَانِ والأوطَانِ لتركيع الإنسانِ للخذلان والطغيان، وبين من يعْمل لرفع هامةِ الإنسان في سمَاء العِزّ والكرامَة والغفران.
> من يحْتَمل الآلام وهو مُنْغمسٌ في رحمة الله تعالى، ومن يحْتَمِلُه وهو مُنْغَمِسٌ في سَخَطِ الله تعالى وغضبِه، وسَخط العُقلاء والرّشَدَاء.
> من يحْتمل الآلام ليَزْداد معْرفة بالله تعالى وشكراً له، وبَيْن من يحْتمِل الآلام ليزْداد ضياعاً وتيَهَاناً وبُعْداً عن الله تعالى في الحياة والمماة.
ولهذه المعَاني الرّائِعة، وهذا الاسْتِعْلاء الإيمانيّ الفَريد كان التوجِيهُ المشجّعُ على الصُّمود في وجْهِ كُلِّ عِنادٍ أو هُبُوط من سمَاءِ العزّة إلى أرض الذِّلَّة والخسْران {ولا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إنْ تَكُونُوا تَالَمُون فإِنَّهُم يَالَمُونَ كَمَا تَالَمُون وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مالاَ يَرْجُون}(النساء : 104).