> ذ. احمد الطلحي
السياق التاريخي لظهور مفهوم التنمية البشرية:
في بداية العقد الأخير من القرن العشرين اكتشف العالم أنه رغم التقدم الذي عرفته الإنسانية في شتى المجالات لا يزال ثلاثة أرباعها الذين يعيشون في الدول الفقيرة لا يتوفرون إلا على 16% من الدخل العالمي، ويعيش واحد من كل ثلاثة أشخاص في هذا العالم في فقر مدقع، كما أن أكثر من مليار نسمة ما يزالون محرومين من الخدمات الاجتماعية الأساسية كالرعاية الصحية الأولية والتعليم الأساسي والمياه الصالحة للشرب والتغذية الكافية. في هذه الفترة ظهر مفهوم جديد للتنمية يحمل هدف وشعار التنمية من أجل البشر؛ وهو التنمية البشرية. حيث أصبحت هذه الأخيرة جزء من السياسات التنموية لمختلف بلدان العالم.
والتنمية البشرية تستند بالأساس على مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في سنة 1948، أساسا ما يتعلق بالحق في الشغل وفي التعليم وفي التوفر على مستوى معيشي يضمن الصحة والرفاه للفرد وأسرته. وهي بمثابة منظور جديد للتنمية، التي كانت فيما قبل تنحصر في النمو الاقتصادي وكان نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي أفضل مقياس للتنمية. فالتنمية البشرية تعتبر النمو الإقتصادي وسيلة لضمان الرفاه للسكان والإنسان هو جوهر عملية التنمية، أي أنها تنمية الناس بالناس وللناس. فهدف التنمية الحقيقي هو خلق بيئة تمكن الإنسان من التمتع بحياة طويلة وصحية وخلاقة.
مفهوم التنمية البشرية:
إذا، ومن خلال ما تقدم فإن مفهوم التنمية البشرية يهتم بدعم قدرات الفرد وقياس مستوى معيشته وتحسين أوضاعه في المجتمع. فالإنسان هو أداة وغاية التنمية. كما أن حاجات الإنسان كفرد ليست كلها مادية، فالحياة المديدة الآمنة والتعليم والثقافة وحق المشاركة في تقرير الشؤون العامة قد تكون أهم من الزيادة في الإنتاج المادي، وكذلك التلوث البيئي وارتفاع معدلات الجريمة وانتشار الأمراض المعدية كالإيدز لا تقل أهمية عن ارتفاع متوسط الدخل الفردي.
ويمكن اختصار المطالب الأساسية للناس في ثلاثة، وهي:
- الحياة الطويلة بدون أمراض وعلل.
- امتلاك المعرفة.
- الحصول على الموارد اللازمة للعيش الكريم.
وللتنمية البشرية بعدان، أولهما يهتم بتنمية قدرات الإنسان، البدنية والعقلية والنفسية والاجتماعية والروحية …
أما البعد الثاني فيتمثل في توفير الدخل القار وفي توفير التجهيزات الأساسية والمرافق العمومية.
دليل التنمية البشرية:
ولقياس مستويات التنمية في دولة ما، تستعمل الأمم المتحدة دليلا يسمى بدليل التنمية البشرية، وعليه يتم ترتيب الدول. وهذا الدليل هو عبارة عن تركيبة لثلاثة مكونات أساسية للتنمية البشرية، وهي:
1- طول العمر: ويقاس بالعمر المتوقع عند الولادة، والحد الأدنى للعمر المتوقع هو 25 عاما والحدالأقصى هو 85 عاما.
2- المعرفة: وتقاس المعرفة بمؤشرين هما: نسبة معرفة القراءة والكتابة بين الكبار ومتوسط سنوات الدراسة في المؤسسات التعليمية (أدنى معدل لمعرفة القراءة والكتابة 0% وأعلى معدل هو 100%)، ومتوسط سنوات الدراسة ( 15 عاما وصفر).
3- الدخل (مستوى المعيشة): ويقاس بمستوى القدرة الشرائية استنادا إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (والقيمة القصوى للدخل 40100 دولار) واعتبرت عتبة القيمة للدخل بمتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وقدره 5990 دولار.
ويصنف برنامج الأمم المتحدة للتنمية دول العالم إلى ثلاث مجموعات:
- دول ذات مستوى مرتفع للتنمية البشرية: وهي التي يفوق فيها دليل التنمية البشرية أو يساوي 0,8.
- دول ذات مستوى متوسط للتنمية البشرية: وهي التي يتراوح فيها دليل التنمية البشرية ما بين 0,5 و0,8.
- دول ذات مستوى ضعيف للتنميةالبشرية: وهي التي يقل فيها دليل التنمية البشرية عن 0,5 .
أصالة التنمية البشرية:
إذا كان العالم قد توصل فقط في بداية العقد التاسع من القرن الماضي إلى الوعي بمحورية الإنسان في التنمية، وأن لا تنمية حقيقية بدون تنمية بشرية، فإنه في المنظومة الإسلامية الإنسان كان دائما هو المنطلق وهو المستهدف أيضا لكل عمل تنموي، فالقرآن والسنة كل مواضيعها تقريبا حول الإنسان، والإنتاج المادي وتدبير الأموال هما وسيلة لا غير للتقرب إلى الله بالطاعات.
وجميع مؤشرات دليل التنمية البشرية أولاها الإسلام أهمية كبيرة وجعل تحقيقها من الفرائض والواجبات التي تؤثث الأمة والأفراد إذا هم لم يسعوا إلى تطبيق مقتضياتها. فمثلا: حفظ النفس وهو من الضرورات الخمس التي يقوم عليها التشريع الإسلامي له علاقة بمؤشر طول العمر، وأول ما نزل من القرآن كان هو “اقرأ” و”طلب العلم فريضة” لهما علاقة بمؤشر المعرفة،وفريضة الزكاة والأمر بالعمل وجعله عبادة لهما علاقة بمؤشر الدخل. والأدلة كثيرة لا يسع المجال لعرضها كلها.
موضوع الحلقة القادمة: “حصيلة التنمية البشرية بالمغرب”