تعريب المصطلح الطبي : تشكيك في العربية من عجائب ما يمتاز به الرأي العام العربي بمنعطفاته المختلفة قدرته على سبر أغوار أمور مستقرة قد جرى بيان قيمتها بشكل مريح منذ زمن بعيد ليستخرج منها عناصر يستطيع إدخالها في مجالات التشكيك ومتاهات التساؤل.
فقد سمعنا في الآونة الأخيرة أصداء تلاطم لأمواج تيارات خفية تحاول أن تقطع الطريق على أي إمكان لانتشار فكرة تعليم الطب باللغة العربية خارج الإطار السوري وذلك خشية أن تجد لها قبولاً في الدول العربية الأخرى.
وتتقمَّص هذه التيارات الخفية أدوار الرعب المسرحي، فهي تارة تثير شبح قصور اللغة العربية عن اللحاق بمتطلبات العلم الحديث المتسارعة، وتارة تلتفت مشفقة إلى مصير ذلك الطبيب الذي قطعته اللغة العربية عن مجالات البحث والاستفادة من التقانات الحديثة.
وقد ذهب بعضهم إلى أن تدريس الطب باللغةالعربية يجب أن يسبقه نقل جميع المراجع الأجنبية إلى اللغة العربية وكذلك إيجاد مؤسسة تقوم بترجمة مؤاقتة لجميع الدوريات العلمية العالمية إلى اللغة العربية لتأمين الاستفادة منها في متابعة تطور العلم. وهذا بمجموعه يكفي لصرف النظر عن مشروع تعريب تدريس الطب نظراً لعظم المهمة بل تعذر القيام بها، وبذلك نبعد الطب عن اللغة العربية ونكرس سيادة اللغات الأجنبية في ذلك المضمار.
مهلاً أيها السادة ولننظر في الأمر قبل كل شيء من النواحي الوجدانية الشعورية التي باتت اليوم مهمشة بل مرذولة نضحَّي بها على مذبح التقدم والرقي.
كيف لا نشعر بالغضاضة والمرارة حين نرى لغتنا العريقة وهي بدون شك أقدم لغة مازالت محكية في العالم، حين نرى تلك اللغة ذات الأمجاد والإشعاع العالمي أصبحت لا تعتبر صالحة إلا لاحتياجات الحياة اليومية والشؤون المعيشية والأخبار العامة، بالإضافة إلى ذلك الأدب الذي لا يهتم به إلا الخاصة، بعد أن غزت الفضائيات أدمغة الجيل الجديد وقولبت مشاعره. ثم كيف نقبل أن نرى العربي يرطن بإحدى اللغات الأجنبية فور التفاته إلى أي موضوع علمي أو تقني أو حتى حين يتطرق إلى أي موضوع فكري يرتبط بالحضارة المعاصرة.
ولكن لنطرح جانباً كل تلك النواحي العاطفية ولنحاول أن نخصَّ الأمر بنظرة مجردة عقلانية تزن الأمور بموازين ثابتة تتماشى مع متطلبات زماننا ومع ظروف بلادنا، أي تلك التي تقوّم النتائج قبل أن تلتفت إلى انتقاد الوسائل الموصلة إليها، وتتخذ من مصلحة الأفراد والمجتمع مقياساً لما هو مطلوب.
إنها كنظرة عقلانية تتطلب الإجابة على عدد من التساؤلات بحيث تتوضح لنا العناصر الإيجابية التي يمكن أن يبنى عليها الحكم الأخير.
ما هي الغاية من تعليم الطب ؟
أليست الغاية هي إيصال أفضل الخدمات في الميدان الصحي إلى أفراد المجتمع؟ فهل يجوز للطبيب الذي يحتم عليه عمله الاتصال بجميع طبقات الشعب أن يشعر بالاغتراب حين يتفاعل مع مرضاه باللغة العربية المشتركة بينه وبينهم فيعجز عن الحوار لأن دراسته كانت بلغة أجنبية ؟ وهل يجوز أن يغلب التعالي على مسلك الأطباء في بلادنا فتراهم يحجمون عن الخوض في الموضوعات الطبية مع من لا يفهم اللغة التي يستعملونها.
إن الطبيب مسؤول عن نشر الثقافة الصحية وتعميق فهمها من قبل العامة، وقد برزت أهمية العناية الصحية الأولية في جميع مجالات التنمية في عالمنا الحديث، وهل يكون الانفتاح الواسع على المجتمع ودخول الطبيب إلى البيت والقرية ومشاركة الأسرة في حل مشكلاتها الصحية هل يكون ذلك إلا بلغة البلاد ؟
هذا لا يعني مطلقاً أن الغاية من تعليم الطب هي تخريج أطباء يقومون بتأمين خدمات الرعاية الصحية الأولية فحسب على غرار الأطباء الحفاة الذين اشتهرت بهم الصين الشيوعية. نحن على العكس نصر على ارتباط الخريجين بالمسيرة العلمية العالمية وعلى ضرورة دخولهم مجالات الأبحاث سواء أكانت وطنية أو عالمية من خلال ممارستهم. هذا إلى جانب الذين يتابعون دراساتهم على المستوى الأعلى في بلادهم أو بخارجها بحيث يؤهلون أنفسهم للعمل كأخصائيين في التخصصات المختلفة وهم قادرون على متابعة التطورات العلمية العالمية دون الحاجة إلى وسطاء.
إن ما نشكو منه أمام هذه الضرورات الملحة في مجال انسجام الطبيب مع مجتمعه أنه قد وصل بنا الأمر إلى التنكر للغتنا تنكراً مخجلاً من أجل اللحاق باللغة الأجنبية في المجالات الطبية.
فأن تعقد الندوات الطبية في بلاد العرب بإحدى اللغات العالمية ما هو إلا أمر طبيعي نرى مثيله في كثير من بلاد العالم. ولكن هلا يمكن لأي طبيب عربي أن يجلس إلى مجموعة طبية عربية دون أن تكون لغة التخاطب بينهم لغة أجنبية ؟
هذا هو العجب العجاب فقد انتهى الأمر في معظم جامعات العالم العربي ومؤسساته الطبية إلىتسلط اللغة الأجنبية على المجالس الرسمية التي قد لا تمتُّ إلى المعلومات الطبية العلمية بأي صلة كمجالس إدارة المستشفى ولجان الميزانية للمستشفى أو لجان انتقاء الأطباء والموظفين وحتى لجان الإشراف على المطبخ.
إنه الاغتراب الذميم في داخل الأوطان وهو المرحلة الأولى من التبعية الثقافية المطلقة التي تهدد ثقافتنا، وبذلك ينتفي الغرض الأول من تخريج الأطباء ألا وهو خدمة المجتمع عن طريق الكشف عن احتياجاته من صميم حياته اليومية والتعرف على ما يعترضها من مشكلات، وليس بإسداء النصائح الفوقية الصادرة عن فئة متعالية على مجتمعها.
هل اللغة العربية صالحة لتعليم الطب ؟
ليس هذا مجال العودة إلى ذكر جولات العرب في عصر نهضتهم وإشعاعهم العالمي في مجال الطب بالخاصة إلى جانب المجالات الأخرى. بل اكتفي بالتذكير بمؤلفات خالدة تداولها العالم كله شرقاً وغرباً طيلة قرون عديدة. إن تلك المؤلفاتهي نتاج علماء من أعراق مختلفة كانوا ينتمون إلى الحضارة العربية الإسلامية وقد وجدوا في اللغة العربية الوعاء ذا الحيز اللامتناهي الذي يستطيعون أن يقتطفوا منه ما يناسب احتياجاتهم في التعبير عن جسم الإنسان وما يطرأ عليه من حالات في الصحة والمرض. إنها مؤلفات أنارت ظلام القرون الوسطى في أوروبا لأنها استوعبت في زمانها كلية المعارف الطبية ولذا بقيت تدرّس في الجامعات حتى مطلع القرن السادس عشر للميلاد.
أفلا يعني هذا أن هذه المؤلفات قد تعرضت بالضرورة لوظائف الأعضاء عند الإنسان، ووصفت الأجزاء التشريحية وذكرت ما يطرأ على الجسم من خلل، وكل ذلك بلغة عربية قابل فيها كل مصطلح مصطلحاً إغريقياً أو سريانياً بحسب المصادر التي اعتمدوها.
إن تلك الكتب التي دأب المؤلفون على تصنيفها باللغة العربية تحتوي دون أي شك على مفردات طبية تكفي للتعبير عن الأمور الأساسية المتعلقة بجسم الإنسان. فلا نحتاج اليوم إلى وضع التسميات للمري أو البلعوم أو الأمعاء أو الأعضاء الأخرى ولا إلى وصف ما يعتري الجسم من حالات كالحمى والإسهال وغير ذلك.
رب قائل إن هذا ينطبق على العصور الغابرة ولا يتعدى البدائيات فأين طب اليوم من طب ابن سينا والرازي والزهراوي وكيف لنا أن نتصور اللغة العربية قادرة على استيعاب العلوم الدقيقة التي تحتاج إلى آلاف المصطلحات.
إن التجربة قائمة والبرهان ساطع. فمنذ أن أصر مؤسسو كلية الطب بدمشق عام 1920 على التدريس باللغة العربية انبروا إلى بذل مجهود رائع في إيجاد المصطلحات الطبية العربية اللازمة لمتابعة تطور العلوم ونقل المعلومات الحديثة إلى طلابهم وبذلك أوصلوا إلينا لغة طبية مصقولة بالاستعمال اليومي قادرة على التجاوب مع متطلبات العلم الحديث.
إنه لمجهود مستمر منذ نيف وثمانين سنة لإيجاد المصطلحات في فروع الطب الكثيرة التشعب وهو مجهود جماعي ساهمنافيه جميعاً ومازال يقوم بمثله معظم الأساتذة في كليات الطب في الجامعات السورية كل بحسب اختصاصه مستعينين بما أقرته مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد.
وهكذا تكونت ثروة حقيقية من المصطلحات التي تتماشى مع متطلبات فروع الطب كافة وهي ثروة آخذة بالنماء المستديم للتجاوب مع تسارع خطوات الطب الحديث، وقد تضمنها قرص مدمج أعدته هيئة الصحة العالمية لشرق البحر الأبيض المتوسط فلم تعد اللغة العربية بحاجة إلى إثبات وجودها في ميادين الطب المختلفة.
ما هي المشكلات التي يتصدى لحلها تدريس الطب باللغة العربية؟
ليس من يماري في تلك البداهة الصارخة بأن خير لغة للتعليم هي اللغة الأم. وقد تكون أهم مشكلة يحلها تدريس الطب باللغة العربية هي المشكلة النفسية عند طلابنا. فإن اللغة الأجنبية لا يمكن أن تدخل إلى وجدان الطالب إذا ما فوجئ بها عند بدء دراسته في كلية الطب بحيث تحل محل لغتهالأصلية. فقد تبين أن الطالب العربي، على الرغم من سنوات عديدة من تلقيه الدروس باللغة الأجنبية، يصل إلى السنوات الأخيرة من دراسة الطب وقد صيغ كلامه وفكره في قوالب عربية يحاول نقلها إلى اللغة الأجنبية، فيتعثر في تراكيبها البعيدة عن أنماطه الفكرية والتي لا تجد صدىً في مخزونه الخطابي. هذا إذا افترضنا واقعاً نادر المشاهدة في الجامعات العربية التي اعتمدت اللغة الإنكليزية ألا وهو تدريس الطب باللغة الإنكليزية المحضة لا بخليط ممجوج من العامية والمصطلحات الإنكليزية مسبوكة في تراكيب لغوية هجينة.
وهذا ما دعا إلى إجراء تجربة على مجموعتين من الطلاب تقرأ المجموعة الأولى نصاً طبياً باللغة العربية بينما تقرأ المجموعة الأخرى نصاً مماثلاً باللغة الإنكليزية.
وقد تبين وجود بون شاسع بين المجموعتين من حيث الوقت اللازم لإنجاز تلك القراءة. إنها تجربة أجريت في جامعة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية بإشراف الأستاذ الدكتور زهير السباعي(1) وكان عدد المشاركين فيها 124 طالباً وكان متوسط ما أمكن لهم قراءته باللغة العربية 110 كلمات في الدقيقة بينما كان متوسط ما أمكن قراءته باللغة الإنكليزية 77 كلمة في الدقيقة وبذلك تكون سرعة القراءة باللغة العربية تزيد 43% عنها بالإنكليزية.
ثم أجريت تجربة تكميلية تستقصي مدى استيعاب الطلاب (120 طالباً) لما قرؤوه بعد أربع ساعات من قراءة المقال وذلك عن طريق أسئلة متعددة الخيارات بنفس اللغة التي تمت قراءة المقال بها. وهنا كذلك وجدت زيادة تقدر بـ 15% لمصلحة القراءة بالعربية.
فيمكن القول إنه إذا كانت سرعة القراءة تشير إلى الجانب الكمي لعملية التحصيل فإن القدرة على الاستيعاب تعكس الجانب الكيفي لها.
وبذلك يتبين أن التحسن في التحصيل العلمي باللغة العربية يفضل التحصيل باللغة الإنكليزية بما يزيد على 50%.
وإذا أضفناأن اللغة المستعملة في كتب الطب بأي لغة من اللغات هي لغة سردية عادية وهي القادرة على الوصف والتوضيح والتسلسل في الأفكار فإن عدة إحصاءات أجريت لتحديد نسبة ما في تلك الكتب من مصطلحات علمية طبية خاصة. وقد بينت تلك الإحصاءات أن عدد المصطلحات في النصوص العلمية يتراوح بين 3.3 إلى 10 بالمئة حسب نوع التخصص أي أن المتن هو من النثر العادي ولو بلغة أرفع من لغة التخاطب اليومي وهو مرصع بالمصطلحات العلمية ضمن السياق الموضح للفكرة.
فكم يسهل على الطالب العربي إذن أن يستوعب تلك المادة العلمية مكتوبة ومشروحة بلغته.
وما أكثر البحوث الطبية المتعلقة بحالات مرضية مألوفة كنقص الشهية للطعام، أو اختلاف وزن المريض زيادة أو نقصاناً، أو تتناول تسرع دقات القلب وما يشعر به المريض من الخفقان، أو أنها تتوخى تفسير ارتباط الأعراض التي يشكو منها المريض، وجميع هذه الموضوعات لا تتطلب إلا القليلمن المصطلحات الطبية الدقيقة.
وفي أي حال فإن السياسة التعليمية المتفق عليها في البلاد العربية قد جعلت التدريس في المدارس الثانوية باللغة العربية وهذا ما يشمل العلوم والرياضيات والأحياء وغيرها.فلمَ هذا التعالي على اللغة العربية فور دخول الطالب إلى كلية الطب؟ ألسنا نتابع تدريس العلوم المختلفة في كلية الطب بالاعتماد على تأسيس علمي اكتسبه الطالب بلغته القومية؟
إن التدريس بلغة أجنبية هو بمثابة اغتراب حقيقي للطالب في كلية الطب حين يقوم باستجواب مريضه عن شكواه وأعراض مرضه باللغة العربية، ويكتب مشاهدته باللغة الإنكليزية ثم يلتفت إلى أستاذه لينقل إليه أقوال المريض مترجمة إلى اللغة الإنكليزية وكأن الأستاذ “خواجة” لا علاقة له باللغة العربية. وعندئذ تتجلى الصعوبة التي يعاني منها الطالب في شرح أعراض بسيطة لأستاذه: كفتور الهمة أو ضيق الصدر أو حس النفخة في البطن أو النمَل في الأطراف أو زيغ البصر وغير ذلك من الأمور التي لا تخرج عن كونها من الكلام العادي إذ إن المريض الإنكليزي لا يصف أعراضه بلغة طبية بل بلغة حياته اليومية.
أما إذا تجاوزنا تلك المشكلات ودخلنا في صميم موضوع الاستيعاب فإننا نرى أن الطالب يتعثر في فهم الكثير من الكلمات الإنكليزية لعدم تمكنه من ردها إلى أصلها ومعرفة اشتقاقها. فالطالب لم يدرس الإنكليزية دراسة لغوية صحيحة بل درسها كوسيلة لتحصيل المعلومات المطلوبة ولهذا فهو يحتاج لمن يشرح له أن كلمة Oval أو Ovoid تعني الشكل البيضوي لأنه لا يعرف أنها مشتقة من Ova اللاتينية وكيف لنا أن ننتظر من الطالب أن يميز بين Ambiguous وUncertain وEquivocal وControversial وContradictory حين ينظر في نتائج أي بحث أو استقصاء طبي إذا لم نشرح له أنها تمثل الفروق بين ما هو “ملتبس” وما هو “مثير للجدل” وما هو “متناقض” وما هو “غير مؤكد” أو “مشتبه” فهو يحفظ تلك الكلمات دون أن يفهم تركيبها.
إنها أمثلة بسيطة تشير إلى بحر من الغموض يدخل فيه الطالب العربي الذي لم يدرس اللغة الإنكليزية بشكل جدي قبل دخوله كلية الطب وبذلك يصبح انخراطه في تحصيل علمي لا يملك الأداة التي تفتح أبوابه عبارة عن مهدرة خطيرة لوقتٍ ثمين مضيعةَ لجهود يجب ادخارها. وقد تبين أن التدريس باللغة العربية يمثل اقتصاداً كبيراً في وقت الطالب الذي يبذل في دراسة صفحة واحدة باللغة الإنكليزية أضعاف ما تتطلبه مثيلتها بلغته الأصلية وهو جهد يصرف معظمه على إسقاط الصعوبات اللغوية.
هذا بالإضافة إلى أن الحاجز اللغوي يحول دون قيام حوار مفتوح بين الطالب والأستاذ بحيث يبقى الطالب مستمعاً مستقبلاً للمعلومات لا يجرؤ على مناقشة الحالات المعروضة وهذا ما يفسد العملية التعليمية.
هل نكتفي باللغة العربية في التدريس؟
إن التجربة القائمة في جامعة دمشق منذ أكثر من ثمانين عاماً وقد امتدت فيما بعد إلى الجامعات السورية الحديثة الأخرى تجربة لا تدع مجالاً لأي تشكيك في مقدرة اللغة العربية على استيعاب كل ما هو مطلوب لتخريج أطباء يمكن الدفع بهم إلى مجال الممارسة العامة فوراً أو توجيههم إلى مجال الاختصاصات العليا بالاعتماد على ما لديهم من بضاعة علمية تكفي للحاق بأقرانهم في أي بلد يطرقونه للاختصاص.
هذا لا يعني أن إصرارنا على اللغة العربية يترتب عليه إهمال اللغات الأجنبية في كلياتنا. فالأمر على العكس تماماً إذ أن مؤلفي الكتب الجامعية ملزمون بذكر المصطلح الأجنبي إلى جانب كل مصطلح عربي بحيث يرتبط ذلك المصطلح بما يفهمه الطالب من النص العربي.
وحرصاً على فتح المجال أمام الطلاب للإطلاع على المراجع الأجنبية ومتابعة التطورات الحديثة فقد أشرفت في عام 1975م على برنامج وافقت عليه كلية الطب إذ خُصصت ست ساعات أسبوعية للدراسة اللغوية (الإنكليزية والفرنسية) قام بأعبائها المدرسون من كلية الآداب. وهو برنامج يمتد على ثلاث سنوات بحيث يصل الطالب إلى السنة الرابعة، وهي التي تمثل بدء التطبيق لما استوعبه من العلوم الأساسية (التشريح، وظائف الأعضاء)، فيدخل في مجال الحالات المرضية وأعراضها ومظاهرها فهو عندئذ يستطيع الاستزادة من المراجع الأجنبية بعد أن تغلب على الصعوبات اللغوية بفضل هذا التدريس الموجه إلى معرفة اللغة والتأكد من المصطلحات.
هذا يعني أن الطالب الذي تبع ذلك المنهج لا يمكن أن يبقى معزولاً عن الحركة العلمية في العالم فهو يقرأ الدوريات الطبية ويستطيع الاستزادة عن طريق الحاسوب والشبكة، وقد وصل بالفعل هؤلاء الخريجون إلى أوروبا وأمريكا ولم يضيعوا وقتاً قبل الالتحاق بالعمل في المستشفيات المختلفة لمتابعة الاختصاص الذي اختاروه وقد بقي عدد كبير منهم في الغرب يعملون على أعلى المستويات في مجالات الطب.
ورب معترض يقول: إذا كنا نريد في نهاية الأمر أن نصل إلى معرفة جيدة باللغة الإنكليزية فلم لا نبدأ الطريق من أوله؟ على ذلك أجيب بأننا لا يمكن أن نكون في زماننا هذا أفضل من أقوام كثيرين لم تُسبغ عليهم نعمة الانتماء إلى الثقافة الإنكليزية التي تغرق العالم بالبحوث والدراسات، أقوام كالألمان والأسبان والفرنسيين واليونانيين إلى جانب قوميات صغيرة كبلغاريا والدانمرك وهولندا.
إن هؤلاء جميعاً يدرسون الطب بلغتهم القومية ويتابعون مسيرة العلم باللغة الإنكليزية وهي اللغة الغالبة في عصرنا هذا. ولذا فإننا حين ندعو إلى تعليم الطب باللغة العربية فليس ذلك من منطلق تعصبي بل لتسهيل وصول المعلومات إلى الطالب بشكل مفهوم ولضمان مشاركته في عملية التعلم ولإزاحة كابوس ينوء تحته أبناؤنا ويضيع عليهم فرصاً ثمينة في سياق دراستهم.
وأخيراً لابد لي من الإشارة إلى أن قرار تعليم الطب باللغة العربية هوقرار سياسي قومي يستدعي تدارك أمور هامة قبل الانتقال إلى تطبيقه وبخاصة في البلاد التي لم تعتمد اللغة العربية لتدريس العلوم.
فإن هذا يتطلب المباشرة في إعداد أعضاء هيئة التدريس المتحلين بمقدرة جيدة في اللغة العربية بالإضافة إلى تمكنهم من اللغات الأجنبية كي يساهموا في توفير المواد التعليمية اللازمة لكل فرع من فروع العلوم الصحية
لعلي قد تمكنت في هذه السطور من الإجابة عن بعض التساؤلات التي يراد منها التشكيك في أهلية اللغة العربية لتدريس الطب، وإني أرى أن من واجب الذين ينتمون إلى هذه اللغة ويفخرون بعظمتها وطواعيتها ويعتزون بماضيها ويعملون لمستقبلها أن يدعموا هذا الأمر.
وإنه لحري بنا أن نساعد أبناءنا على تفجير طاقاتهم وأن نسعى إلى تذليل الصعاب التي تعرقل مسيرتهم ونيسر لهم سبل اكتساب العلم دون انفصام نفسي، أي باستمرار انتمائهم إلى لغتهم القومية مع إبقائهم على صلة صميمية باللغة العالمية التي يحتاجون إليها للاستمرار في تقدم معلوماتهم واستكمالها.
———-
1- الدكتور زهير السباعي: تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية-نادي المنطقة الشرقية 1995 ص83-84-85
د.روان المحاسني